المَخْرَج لِلأُمَّة

محاضرة في مسجد الصديق في الحصبة في 23 من ذي القعدة 1434هـ الموافق 29 سبتمبر 2013م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   المشكلة الآن :

    إن الإيمان بالمرجعية الشرعية تقتضي الإدراك بأن المشكلة في بلاد المسلمين عموما ومنها مشكلة مصر وغيرها ، ومنها مشكلتنا اليوم في مؤتمر الحوار في اليمن جديدة قديمة ، لأنها تدور حول المرجعية في التشريع ..

    فالذين يريدون في مؤتمر الحوار في اليمن مثلًا أن يخوضوا في بدَهياتٍ عقَدية بالأخذ والردّ في هويّة الدولة ، وفي مصدر التشريع ، و في فرْض الكوتا النسائية ، وحرية الرأي والرأي ..إلخ .

     نقول لهم : أمثال هذه القضايا الصراع فيها عمره في اليمن أكثر من خمسين سنة كما ذكر رئيس الدولة في أكثر من مناسبة ، وفي بعض بلاد المسلمين نحو قرن أي منذ سقوط الخلافة .

    وأعظم مشكلة  بعد اختلال المرجعية هي مشكلة الديمقراطية (الدهيماء) التي تفرِض إدخال التشريعات الوضعية البشرية مثل تأسيس بنوك قائمة على الربا ، والربا مستمر إلى اليوم ، لأن التشريعات الديمقراطية القائمة على مرجعية الشعب الممثَّل في نوابه .. تحميه !! .

    وفي بعض البلاد يزعمون بأن الشريعة مصدر التشريعات ، ويقابلها بسبب الديمقراطية أن الشعب مالك السلطة ومصدرها ، ومن ذلك السلطة التشريعية المتمثلة في مجالس النواب التي شرعتْ مثلًا القوانين الربوية ، وقوانين السياحة ، والقوانين الأمنية والجزائية والعقوبات والجنسيات والاستقلال عن المسلمين والإقامات والجوازات ، وفيها مخالفات صارخة للشرع .

     وجاء عندنا في اليمن مؤتمر الحوار الذي نشكو منه هذه الأيام فأخذ بالمنهجية ذاتها من مناقضة الشريعة فأخضع هوية الدولة ومرجعية التشريع للحوار والتصويت وكذلك الكوتا النسائية والرأي والرأي الآخر ولو كان باطلا .

    ولذلك فالحلّ ليس في التوصيف ، وتعداد حالات مناقضة الشريعة ،وإنما في نسْف منهجية التصويت الديمقراطي من الأصل بوضوح ، وبيان أن ما كان للهِ من أحكامٍ في كلِّ شيء فلا تخضع للتصويت ، و ما كان من الاجتهادات الشرعية فالتصويت فيها للعلماء ، وما هو مباحٌ من القضايا بفتْوى العلماء فهذه يجوز لأهل الاختصاصات الأخرى التصويت عليها كالقضايا الفنية و التنظيمية والإدارية . قال تعالى : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) النساء .

    وقال سبحانه : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) يوسف .

    وإن الهدف في الإسلام ليس أن يحكم الإسلام كيفما اتفق بتخليطات بين الإسلام والديمقراطية وتلفيقات وتنازلات ، وإنما أن يهيمن على ولو في نطاقٍ ونصابٍ مأمونٍ ليظهَر تميُّزه كما فعل يوسف عليه السلام والنجاشي .

    وإن الخلَل الكبير في التخليط من البداية قد يأتي بحُجة التدرّج ، والإسلام يأبَى ذلك قال تعالى : (ألَا للهِ الدينُ الخالِص) الزمر . وقال تعالى : (واحذرْهم أن يَفتِنُوك عن بعضِ ما أنزلَ اللهُ إليك) المائدة . وقال تعالى : (ولولا أن ثَبَّتْناكَ لقد كِدتَ تَرْكَنُ إليهم شيئًا قليلًا) الإسراء . وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) محمد .

    على أنه إذا لم يمكِن تطبيق بعض أحكام الشرع فيمكن الانتظار إلى التمكُّن ، مع إيجاد القوة الكافية لحماية هذا الانتظار ، ولكن بدون تلبيس وتخليط وتأصيل للباطلٍ ، بل مع بيان  الحق ما أمكن ، كما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم في قضية عبد الله بن أُبَيّ ، وقضية إعادة الكعبة على قواعد إبراهيم ، وكما فعل يوسف عليه السلام والنجاشي ، وكما هو حاصل إلى حدٍّ ما في غزة وفي تركية الآن .

    و أما التأصيل للتخليط فلا يجوز ، و التعرُّض للحكم بدون أدواته في الحماية الكافية مغامرة كما حصل الآن في مصر ، ومن قبل في الجزائر ، وكما حصل في تركية من قبل فقد وقعت الانقلابات عدة مرّات ، قال تعالى : (وأعدُّوا...) الأنفال . وقد يحتاج المسلمون إلى تَقِيّة ولكن في نطاق فتاوى العلماء الربانيين ، قال تعالى : (... إلا أن تتّقُوا منهم تُقاة) آل عمران .

     وإن من أبرز الأسباب فيما حدث في مصر عدم وجود القوة الكافية للحماية والإيغال في التَّقِيَّة إلى حدّ التأصيل للتخليطات مع الديمقراطية والتنازلات بدون فتاوى من العلماء الربانيين ، وما أقلّهم في آخر الزمان .      

        ولوجود الصعوبات البالغة وضخامة المؤامرات فإن عودة الخلافة التي تجمع المسلمين ليكونوا دولة كبرى مع تحاشي السلبيات ستكون بتدبير وخوارق إلهية -كما حدث ذلك في بداية الإسلام - .. فيأتي المهدي الذي يصلحه الله في ليلة ، ويخسف الله بالجيش الذي يغزوه ، ثم يسير المهدي من نصر إلى نصر ، ثم يأتي الدجال بخوارق للكافرين ، ثم يأتي الله بخوارق أعظم بنزول عيسى فيعمّ الإسلام الأرض ويدخل الإسلام كل بيت (ليظهرهُ على الدين كله) التوبة .

     فتنة الدهيماء (الديمقراطية) هي المشكلة :

    هذه الفتنة هي جوهر المشكلة ، وهي مذكورة في الحديث الشريف (...ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ لَا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً ، فَإِذَا قِيلَ انْقَضَتْ تَمَادَتْ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ ،وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ) .

    رواه أحمد و أبو داود ، قال صاحب (عون المعبود) : وَالْحَدِيث سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيّ اهـ .   وقال الألباني صحيح .

     كما أنها مذكورة عند الطبراني في مسند الشاميين عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تكون فتنة يُصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمسي كافراً إلا من أجاره ( أي حفِظَه) الله بالعلم ) .

     و عند نعيم بن حماد في كتاب (الفتن) عن أبي سعيد (ستكون بعدي فِتَنٌ منها فتنة الأحلاس يكون فيها حرَب وهرَب ، ثم بعدها فتنٌ أشدُّ منها ، ثم تكون فتنة كلما قيل : انقطعت تمادت ، حتى لا يبقى بيت إلا دخلتْه ولا مسلمٌ إلا شكَّتْه ـ و في روايةٍ أخرى صَكَّتْه ـ حتى يخرج رجلٌ من عترتي) .

     و في رواية أخرى لنُعيم بن حماد  عن عمير بن هانئ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : (في الفتنة الثالثة فتنة الدُّهَيْم ، و يقاتِل الرجل فيها لا يدري على حقٍّ يقاتِل أم على باطل) ،  فسمَّى الفتنة (الدُّهَيْم) .  و الروايات كلها ملتقيةُ المعنى يشهد بعضها لبعض ، و إنْ تفاوتَتْ في درجة الصحة ، لكنها بمجموعها صحيحة .

    و في (كنز العمال) عن أبي هريرة قال : (تكون فتنة لا يُنْجِي منها إلا دعاءٌ كدعاءِ الغَرِق) . أخرجه ابن أبي شيبة .و الغَرِق : المُشْرِف على الغرَق.

     و عند ابن أبي شيبة أيضاً عن حذيفة قال : (ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاءٍ كدعاءِ الغرِق) .

     و عن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ : (اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ مَوْتِي ، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا ، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنْ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا) رواه البخاري و أحمد .

     و عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سِتٌّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مَوْتِي ، وَفَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَمَوْتٌ يَأْخُذُ فِي النَّاسِ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ، وَفِتْنَةٌ يَدْخُلُ حَرْبُهَا بَيْتَ كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَأَنْ يُعْطَى الرَّجُلُ أَلْفَ دِينَارٍ فَيَتَسَخَّطَهَا ، وَأَنْ تَغْدِرَ الرُّومُ فَيَسِيرُونَ فِي ثَمَانِينَ بَنْدًا تَحْتَ كُلِّ بَنْدٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا) .

     رواه أحمد ، و ذكَره الحافظ في (الفتح) و قد التزم في مقدّمته أنه لا يذكر إلا حديثًا يصلح للاحتجاج به ، إلا أنه ضبَطه : (وَ فِتْنَةٌ يَدْخُلُ حَرُّهَا بَيْتَ كُلِّ مُسْلِمٍ) و قد يكون تصحيفًا من النُّسَّاخ ، والمعنى قريب .  و قال الأرناؤوط عن الحديث عند أحمد : صحيح لغيره.

    وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا : الدَّجَّالَ ، وَالدُّخَانَ وَدَابَّةَ الأَرْضِ ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ ، وَخُوَيصَّةَ أَحَدِكُمْ) . رواه مسلم و أحمد و غيرهما ..

     و في لفظٍ آخر عند مسلم : (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا : طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا ، أَوِ الدُّخَانَ ، أَوِ الدَّجَّالَ ، أَوِ الدَّابَّةَ ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ ، أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ )..

    و عن عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ فَقَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا) ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، قَالَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ ؟ ..

     قَالَ : (الْزَمْ بَيْتَكَ ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ ، وَ دَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ) .رواه أبو داود و أحمد . و قال الألباني حسن صحيح . و قال شعيب الأرناؤوط إسناده صحيح .

      و عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعاتٌ ، يُصدَّق فيها الكاذب ويُكذَّب فيها الصادق ، ويؤتَمَن فيها الخائن ، ويُخوَّن فيها الأمين ، ويَنطِق فيها الرُّوَيبِضة)  قيل وما الرُّوَيبِضة؟ . قال: (الرجل التافِهُ في أمْر العامة ) رواه ابن ماجه ..

      قال البوصيري في (الزوائد) في إسناده إسحاق بن أبي الفرات قال الذهبي في (الكاشف) مجهول . وقيل منكر ، وذكره ابن حبان في الثقات ، و قال الألباني صحيح ..

     و رواه أبو يعلى و فيه : الرويبضة (الفُوَيْسِق يتكلّم في أمر العامة ) . قال حسين سليم أسد : رجاله ثقات ..

     و رواه أحمد  و فيه : الرُّوَيْبِضَةُ (السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ) ، و يوجد مثل هذا اللفظ عند أبي يعلى ، و قد قال شعيب الأرناؤوط عن الحديث : حسن .

    و الدُّهَيمَاء كما هو ظاهرٌ من اللغة تصغيرٌ لكلمة (الدَّهْمَاء) التي تعني كما في كتب اللغة (العامّة) ، و العامّة المقصود بهم عامّة الناس ، أي ما يُسمّى الآن الشعب بمختلف فئاته.. و قد ورَدَ ذكر فتنة العامَّة صراحةً في بعض الأحاديث السابقة ، و وَرَد الأمر باجتناب أمر العامة في تلك الأحاديث ، عندما يعمُّها الفساد ..

     و لا أفْسَدَ ممَّا تنشُرُه فتنة الديمقراطية في العامّة من صراعات و ضلالات و حِزْبِيَّات ، و مساواةٍ بين غير المُتَساوِين ، وإغراءٍ للعامّة بأنهم مصدر السلطات و أنهم مصدر التشريعات في البرلمانات ، مع أن الحكم والتشريع لله وحدَه لا لِغيره ، و مِن فتْحٍ لِلمجال أمام العامة بممارسة أنواع الشهوات و التنقُّلات بين العقائد و الإيديولوجيّات باسم الحقوق و الحرّيّات ..    

     وسبق في بعض الأحاديث الإشارة إلى أنه يتصدّر في أمر العامة الرُّوَيْبِضَةُ و هو التافِه أو الفويسِق أو السفيه، كما ورَد ذِكْرها بأنها فتنة تدخل كل بيتٍ في العرب، و أن حرْبَها يدخل بيت كل مسلم..

    و قد دخلتْ هذه الفتْنة فعلًا كل بيوت العرب و المسلمين ، و وصل حرْبُها بيت كل مسلم من خلال الإعلام و السياسة و التحزُّب و العَلْمَنَة المرافقة للديمقراطية و التعصُّب الواسع لها و لأفكارها..إلخ ..   

     و وصل حرْبُها بيت كل مسلم من خلال الإيذاء ، لأن كل من لا يؤمِن بالديمقراطية يعتبره الحِلْف العسكري الغربي و معه كثيرٌ من الحكام إرهابيًّا مُعرَّضاً للملاحقة و الاعتقال ،  بل و القتل و القصف في بعض الأحيان لاسيما إذا كان يؤمِن بفريضة الجهاد الشرعي !!..و يزعمون أنه متطرّفٌ مهما كان معتدلاً..

     و الديمقراطية تُسَوِّي بين العقائد ، و تسمح بالردّة عن أيّ عقيدة و إنْ كانت عقيدة الإسلام ، و لا تسمح بالدفاع عنها و لا بمعاقبة المرتدّ و تعتبر مجرّد المعاقبة إرهابًا ..

     و هنالك بلدانٌ إسلامية تحت الاحتلال من الغرب وحلفائه بحجة مكافحة الإرهاب مثل أفغانستان ، وهنالك بلدان في حُكْم المحتلّة ، بحكم السيطرة الشديدة عليها من الغرب بقواعده المتمكِّنة فيها ، مثل باكستان وبعض دول آسيا التي كانت محتلّة من الاتحاد السوفيتي ، وكذلك عدَدٌ من الدول العربية ، و معظم بقية الدول في بلاد المسلمين تنافِق الغرب خوفًا منه و تقدِّم له التسهيلات و تتقرّب إليه بمزعوم مكافحة الإرهاب .    

    التشخيص للمشكلة إجباريٌّ ..والحكم منتقِضٌ في الأمة منذ الماضي ، والانتقاض أمرٌ قَدَري :

    من التقديم بين يدي الله ورسوله الزعْم بإصلاح الحكْم إصلاحًا كاملا، رغم أن الرسول بيّن مراحله الخمس في الحديث الصحيح عند أحمد فهي قَدَريّة .

    ورغْم أنه أكّد ذلك بأن الحكْم سَيُنْقَض !! والتنازلات في الدين بِزَعْم إصلاح الحكم تُسْخِط الله ولا يَصْلح معها الحكْم ، والصواب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قيامًا بالواجب وتخفيفًا من الشرّ دون أيّ تنازل .. فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ) . رواه أحمد ، وابن حبان والحاكم . قال الألباني صحيح ، و قال الأرنؤوط إسناده قوي ، وردّ الوادعي على ما توهَّمه الحاكم والذهبي في اسم احد الرواة وما ترتّب على ذلك من تضعيفه ، ونقَل عن أبي حاتم أنه ليس به بأس ، وقال مثل ذلك محققو مسند أحمد يإشراف الشيخ التركي وذكروا أن ابن حبان أورد ذلك الراوي في (الثقات) ، وتوسّعوا في إثبات ما قالوه .

    غلَبَة الشَّرّ :

    عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .رواه البخاري وأحمد وغيرهما .. وفي (الفتح) : وَقَدِ اسْتُشْكِلَ هَذَا الْإِطْلَاقُ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ تَكُونُ فِي الشَّرِّ دُونَ الَّتِي قَبْلَهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا زَمَنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بَعْدَ زَمَنِ الْحَجَّاجِ بِيَسِيرٍ ، وَقَدِ اشْتَهَرَ الْخَبَرُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، بَلْ لَوْ قِيلَ إَنَّ الشَّرَّ اضْمَحَلَّ فِي زَمَانِهِ لَمَا كَانَ بَعِيدًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ شَرًّا مِنَ الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَقَدْ حَمَلَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ ، فَسُئِلَ عَنْ وُجُودِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ تَنْفِيسٍ .

    قُوَّامُ أمَّتي شِرارُها :

     جاء في فيض القدير : ( قُوَّامُ أمَّتي ) بتشديد الواو ( شِرَارُها ) بشين معجمة أوله والظاهر أن قُوَّام بضم وتشديد يعني القائمون بأمر الأمة وهم أمراؤها وهم شرار الأمة غالبا ، لقلة الاستقامة وكثرة الجَور منهم ، ورأيت في نسخ من الفردوس قديمة مصححة بخط الحافظ ابن حجر بِشرارها بباء موحدة أوله ، وعليه فيظهر أن القَوَام بالفتح والتخفيف وأن المعنى إن قَوَامها يعني استقامتها وانتظام أحوالها يكون بِشرارها ، فيكون من قبيل خبر : (إنّ الله يؤيِّدُ هذا الدينَ بالرجلِ الفاجِر) وخبر (إنّ اللهَ يؤيِّدُ هذا الدينَ برجالٍ ما هم من أهلِه) .

     ( رواه أحمد والطبراني عن ميمون بن سِنباذ ) بكسر السين بضبط المصنف وذال معجمة أبو المغيرة العقيلي ، قيل له صحبة قال الذهبي : وفيه نظر اهـ . قال الهيثمي : فيه هارون بن دينار وهو ضعيف اهـ . ورواه البخاري في تاريخه أيضا ، وقال ابن عبد البر : إسناده ليس بالقائم وأورده ابن الجوزي في الواهيات وقال : لا يصح . قال الألباني إنه حسن .    

     مراحل الحكم في الأمة :

    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ)  ثُمَّ سَكَتَ .  رواه أحمد في مسنده و البيهقي في (دلائل النبوة) و رواه غيرهما . و قال عنه الألباني في  مختصر سلسلته الصحيحة إنه حسَن على أقلّ الأحوال ، وقال شعيب الأرناؤوط أيضا إنه حسن .

    كما نقَل الألباني في سلسلته الصحيحة أن الحافظ العراقي رواه من طريق أحمد في (مَحَجَّة القُرَب إلى مَحَبَّة العرَب) ، و قال  العراقي:  هذا حديث صحيح .

     و نقَل الألباني أيضا في الموضِع نفسه ما قاله الهيثمي في (المجْمع) : بأن الحديث رواه أحمد و البزار بأتمّ منه و الطبراني ببعضه في الأوسط ، و رجاله ثقات . اهـ .

     و استشْهَد به ابن رجب في (جامع العلوم والحِكَم) عند شرح الحديث الثامن و العشرين (...فعليكم بسُنّتي و سنَّة الخلفاء الراشدين) .

     و في (إتحاف الخِيَرة المَهَرة للبوصيري : باب تكون خلافةٌ ثم مُلْكٌ ثم جبريةٌ ثم خلافة) سَرَد البوصيري طُرُق و أسانيد الحديث عند أبي داود الطيالسي و ابن أبي شيبة و أحمد و ابن راهويه و أبي يعلى و البزار ، ثم قال : هذا حديث حسن . و في هذه الطُّرُق والأسانيد المتَعَدِّدة ، و أقوال الأئمة المذكورين ، ردٌّ على من حاوَل الطعْن في الحديث . 

     وهذا الحديث يبيِّن المراحل التاريخية التي تمرُّ بها الأمة ، فقد مرَّتْ مرحلة النبوة ، ثم مرّتْ مرحلة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة وهي ثلاثون سنة كما في حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم : (الخلافةُ بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم مُلْكٌ بعد ذلك) رواه أحمد و الترمذي و قال إنه حديث حسن ، كما رواه الطيالسي و أبو يعلى و ابن حبان و النسائي في الكبرى و الطبراني و غيرهم ، وقال الألباني صحيح كما في (صحيح الجامع الصغير) ، و قال الأرناؤوط في تحقيقه لِمسند أحمد و لِصحيح ابن حبان إنه حسن.

     و نقَل ابن عبد البَرّ في (جامع بيان العلم و فضله : باب الحضّ على لزوم السنة والاقتصار عليها) أن الإمام أحمد بن حنبل قال : حديث سفينة في الخلافة صحيح وإليه أذهبُ في الخلفاء .اهـ .

     ثم مرّتْ مرحلة المُلْك العاضِّ ، و يبدو أنه المُلْك الذي تَعَضُّ فيه أُسْرةٌ واحدة على المُلْك فيستمرُّ في أفرادها دون غيرهم ، كما في الدولة الأُموية ثم في الدولة العباسية ثم في الدولة العثمانية ، ثم مرّتْ مرحلة المُلْك الجبري و هي كما يبْدو مرحلة المُلْك العسكري التي عمَّت العالم الإسلامي في الجملة ، فحكَم فيها الحكام العسكريون الدويلات في بلاد المسلمين بعد أن سقطت الدولة العثمانية و وقع معظم العالم الإسلامي تحت الاحتلال الأجنبي الغربي .. فعندما انْحَسَر هذا الاحتلال حَلَّ الحكام العسكريون محلَّه .

     التجديد بعودة الخلافة على منهاج النبوة :

     لقد مضَى على سقوط الدولة العثمانية الكبرى تسعون عامًا وهي آخر خلافة للمسلمين  ، والمسلمون في انتظار تجديد الخلافة على رأس مائة سنة من سقوطها تحقيقًا لوعْد الله في الحديث : (إنّ اللهَ تعالى يبْعَثُ لهذه الأُمّة على رأسِ كلِّ مائةِ سنَةٍ من يجدِّد لها دينَها) رواه أبوداود والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة وسكت عليه الذهبي وقال الألباني صحيح  .

     ما أصاب المسلمين بسقوط الخلافة :

    ولقد أصابتْنا خلال سقوط دولتنا الكبرى مصائب كبرى منها : النكبة باستعمار مُعْظم الأقاليم الإسلامية ، وما سمّاه الأعداء تقسيم تَرِكة الرجل المريض ، والنكبة بتسليط الحُكام الجَبْرِيِّين العملاء للغرب ، وفتْحِ الحُكامِ أمام الغرب أبوابَ التدخُّل في كل شؤوننا ، و نكبة فلسطين ، ونكبة أفغانستان ، ونكبة البوسنة والهرسك ، ونكبة الشيشان ، ونكبة القواعد الأجنبية في الخليج وغيره ، ونكبة العراق ، ونكبة استغلال أعدائنا لثرواتنا وعائداتها ، ونكبة الغزو الأجنبي المنهَجي العقَدي وفي مقدمة ذلك فتنة الديمقراطية (الدهيماء) ، وأخيرًا نكبة سورية ونكبة مصر.. إلخ .

     بل أصيب العالَم خلال فترة ضعف الخلافة وسقوطها بحربَين عالَميَّتَين خسِر العالَم فيهما من البشر ستين مليون قتيل ، كما خسِروا خسائر ماديّةً واقتصاديّةً مَهُولَة .

     وصارت تحالفاتُ الدول الكبرى بالتعاون مع المنافقين تَسْتَفْرِد ببلدان المسلمين واحدةً واحدةً بالتآمر عليها ، لتمْنَع هذه البلدان من الخلاص من كابوس العَمَالَة والجبْريّة والشتَات ..كما هو حاصلٌ في هذه الفترة من التآمر على سورية ومصر وغزة ، وتونس وليبية واليمن !! .

    فلا احترامٌ لِخصوصيّة الآخرين ولا لِحقوقهم ، ولا لِحقوق الإنسان ولا للمواثيق ، ولا لِلقِيَم و الأخلاق ، بل تدخُّلاتٌ صارخة ، و حرْبُ إبادة ، و أراضٍ محروقةٌ في سورية ، وحصارٌ خانقٌ لِغزة ، وتآمرٌ رهيبٌ لتَتْبِير وتدمير وتمزيق مصر ،  لأن مصر أكبر وأنسب قوة في قلب العالم الإسلامي للتهيِّئة لقيام الخلافة و عودة دولة الإسلام الكبرى .     

     وقد لحِق المسلمين من التمزُّق إلى سبعٍ وخمسن دُوَيلة أو أكثر ، من بلاء الحدود والجنسيّات والإقامات والتأشيرات ، والحزبيّات والعصبيّات ، وضلالات الدساتير والقوانين المحليّة ، ما اللهُ به عليم ..  

     و صارت كل مجموعةٍ من البشر في منطقة أو أرضٍ أو إقليم ، بمُبَاركة الغرب! يُسَمُّون أنفسهم شعبًا له المرجعية و له السيادة ، و له دستوره وقوانينه ، و له حق الاستفتاء و حق تقرير المصير!! .

     وصارت القبيلة أو العشيرة في بعض الأحيان تُسَمَّى شعْبًا ، كما صار الحيّ الذي يقطُنُه في بعض الأحيان أقل من مليون نسَمة ، يُسَمَّى دَولة، ليرتَفِع بذلك عَدَّاد الدُّوَل في بلاد المسلمين!!..

     وإذا كان غير مقبولٍ في هذا العالَم الذي تُهيمِن عليه دولٌ عِملاقة أن يتدخّل أحدٌ في شؤون ولايةِ كالِيفورنِيا مثلًا أو ولاية مِيتْشِيغَن أو ولاية أَنْدِيَانا .. لأن هذه ولاياتٌ تتبع الولايات المتحدة الأمريكية فلا يتجرّأ أحد على مجرّد التفكير في التدخّل ، وكذلك غير مقبول التدخُّل بالنسبة لولاياتٍ في الهند أو في روسية أوفي الصين أوفي الاتحاد الأَورُوبِّي !!..

    فلماذا لا يكون كذلك غير مقبول التدخُّل في أُمور أمة الإسلام كما كانت الحال من قبل؟..

     كما كانت الحال عندما كانت دولة الإسلام عِملاقة كبرى على مَدَى ثلاثة عشر قرنًا !!..

     السبب أننا أصبحنا اليوم دويلاتٍ صغيرة متناثرة  كغُثاء السيل لا يُؤْبَهُ لها.

    وجوب الانتقال إلى مُربَّع العمل لعودة الخلافة ، وليس العمل في مُربَّع الديمقراطية :

    لقد كانت دولة الراشدين كبرى ، ودولة الأُمَويِّين كبرى ، ودولة العباسيين كبرى ، ودولة العثمانيين كبرى ، لأن دولة الإسلام رحمةٌ للعالمين وذات رسالةٍ كبرى ، والأمل عند عودة الخلافة إن شاء الله أن تكون أيضًا دولة  عِملاقة كبرى  .. حسَب وعْد الله ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الصف .

    ودولة الإسلام في الماضي وكذلك دولته في المستقبل لَمْ ولَنْ تعْبَثَ بها التخبُّطات ولا المزاعم المستوردة من الغرب في التقديس الخادع لِمرجعية الشعوب ولا لِمرجعية الدساتير والقوانين ، الخاضعة لنظريات وتفسيرات الغرب نفسه !! لأن مرجعية دولة الإسلام مرجعيةٌ أقدس وأسمَى وأرقَى وبلا تبَعِيَّة ..

     وهي مرجعيّةٌ لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، لأنها وحيٌ من عند الله .

     و أمَّا القضايا الزمَنِيَّةُ الواقعيّةُ والاجتهادات التفصيلية فمرجعيتها العلماء المجتهدون وأهل الحلّ والعقد من كافة التخصُّصات ، وما يقيمونه من الدواوين والترتيبات بالخصوصيّة الإسلامية في ضوء ضوابط الوحي .. وقد أقام المسلمون أعظم حضارة في هذه الأرض بهذه الضوابط على مدَى 13قرنا ، وتيسَّر لهم ذلك في عصر المَعاوِل والقوافل، وما أيْسَرَهُ في عصر الآلات والقنوات؟!!..

     وإلى أن تتمّ عودة الخلافة يمارس المسلمون الدعوة إلى الله والنُّصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومحاربة البدع ومنها الواردة من الغرب ، والجهاد حيث يوجد الوضوح ويكون الجهاد فرضًا ، ومن ذلك تحقُّق النِّسبة المُلْزِمة للمواجهة ، وتتم ممارسة الواجبات بفتاوى العلماء الربانيين.

    ومع آداء الواجبات وعدم الاتِّكال يكون الإكثار من الاستغفار والتوبة والذِّكر والدعاء وتوصية الناس بذلك وانتظار الخليفة المهدي الذي يملأُ الأرض عدلًا كما مُلئتْ جورًا .

     الأحاديث متواترة في أن المَخْرج عند ظهور المهدي فهو الذي سيجمع الأمة و سيجدِّد الخلافة إن شاء الله (منقول من بحث لأحد الإخوة حول المهدي) :   

     قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله  في تقريظه لرسالة (الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر) :

    ولقد تأملت ما ورد في هذا الباب من الأحاديث فاتضح لي صحة كثير منها، كما بيَّن ذلك العلماء الموثوق بعلمهم ودرايتهم؛ كأبي داود، والترمذي، والخطابي، ومحمد بن الحسين الآبري، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والشوكاني، وغيرهم رحمهم الله .

     قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "المنار المنيف": "أكثر الأحاديث الواردة عن النبي  صلى الله عليه وسلم تدل على أنه رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من ولد الحسن بن علي، يملأ الأرض قسطًا بعد ما مُلئت جورًا وظلمًا" .

     وأحاديثه متواترة من حيث المعنى .. قال محمد بن الحسين الآبري الحافظ في كتابه "مناقب الشافعي": "قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤُم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه" .

     وقال السَّفَّاريني في كتابه "لوائح الأنوار البهية": (وقد كثرت الروايات بخروجه (يعني: المهدي )، حتى بلغتْ حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة حتى عُدَّ من معتقداتهم...). وقال محمد البرزنجي في كتابه "الإشاعة": "أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان وأنه من عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد فاطمة رضي الله عنها بلغت حد التواتر المعنوي؛ فلا معنى لإنكارها". 

    وقال الشوكاني : (الأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثًا، فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة") . 

    ثم قال ابن باز (أمر المهدي معلوم والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة ،وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواتُرها تواتراً معنوياً لكثرة طرقها واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها) . اهـ .

      هل هنالك خلافة قبل المهدي ؟ (منقول من بحث لأحد الإخوة حول المهدي) :

     قال الشيخ محمد زهير حبيب (في إرشاد الحيران الى مهدي آخر الزمان) – عن الخلافة الراشدة – لماذا لا تعود قبل المهدي ؟  وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نطرح الأسئلة التالية :

     أين هذه الخلافة الراشدة قبل المهدي والأرض مملوءة ظلماً وجور اً؟ وهل ترضى هذه الخلافة بالظلم والجور يعمّان الأرض ثم تسمى راشدة ؟!

ثم أين تكون هذه الخلافة موجودة، حين تغزو البعوث البيت الحرام، وبخاصة الجيش الذي يطلب عائذ الحرم وهو المهدي كما في نصوص ثابتة، ثم يُخسف به ؟

     أيعقل ان تكون خلافة راشدة ثم لا تحمي المهدي الذي يلاحَق فيفرّ من المدينة إلى مكة عائذاً بالحرم ولاجئاً للبيت العتيق ؟!

    وكيف تكون خلافة راشدة قبل المهدي ولا تذكر في الأحاديث والآثار بوضوح ، وخاصة أن حدثاً عظيماً كهذا لا يُغفَل ؟

    وقد يقول بعضهم : إنه القحطاني أو غيره، فأقول لماذا يأتي المهدي ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً إذاً؟ ما دام الرشد قبل مجيئه الشريف موجوداً؟

    ومَن الخليفة الأجدر من المهدي عليه السلام وهو من قريش ويصلحه الله في ليلة ؟! وأخيراً ألا تَلفِت السرعة التي يصلح الله بها هذا الخليفة الراشد النظر ؟

     الجواب : والحقيقة أن جميع الأحاديث التي ساقها الداعية الدكتور محمد ابن المقدم في كتابه (المهدي وفقه أشراط الساعة) والتي قال : (يفهم منها قيام خلافة راشدة قبل المهدي) لا تشير إلى شيء من هذا....) ، ثم فنّد استدلاله بهذه الأحاديث.

     وقال أيضاً :(ولعل الذي حمل هذا الفريق على التقليل من شأن المهدي هو الخوف من الإفراط أو الاتهام بالتشيّع، إن هم احتفلوا بالمهدي عليه السلام وشأنه، كما خافوا من ركون الناس إلى التواكل وترك الأخذ بالأسباب كما سبق وبينت ، لذلك قالوا بقيام خلافة راشدة قبل المهدي) . اهـ.  

     أقول (والكلام للأخ الباحث المذكور) : والأحاديث تشير  الى أن  الخلافة  انما هي خلافة  المهدي عليه السلام، قال حذيفة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) ، ثم سكت. رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والبزار، والطبراني في "الأوسط" ببعضه، قال الهيثمي : "ورجاله ثقات".

      وعن قيس بن جابر الصدفي، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون بعدي خلفاءُ، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك جبابرة، ثم يخرج المهدي من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثم يؤمَّر القحطاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه) . رواه الحافظ أبو نعيم في فوائده، وأخرجه الطبراني في معجمه ، قال الهيثمي : "وفيه جماعة لم أعرفهم".

     ونفهم من الروايتين أن بعد الملك الجبري - وهو الذي نعيشه اليوم كما أخبر جمْع من أهل العلم - خلافة نبوية بقيادة الإمام المهدي عليه السلام ثم يؤمَّر القحطاني بعده .والله أعلم .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©