الإيمانُ وأثَرُه

محاضرة في مجموعة من شباب المدينة النبوية في حي بايزيد في إسطنبول بتاريخ  18من ذي القعدة 1437هـ  الموافق 21 أغسطس 2016م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     الفرق بين الإيمان والإسلام:

    الإيمان يأتي بمعنى الدين كله (الإسلام والإيمان والإحسان)، وكذلك الإسلام يأتي بمعنى الدين كله . قال تعالى: (فإنْ آمَنُوا بمثلِ ما آمنتُم به فقد اهتدَوا) البقرة . وقال تعالى: (فإن أسلَموا فقد اهتدَوا) آل عمران . والآيتان تدلان على أن كلًّا من الإيمان والإسلام نتيجته واحدة ، بمعنى أنّ كلًّا منهما قد يحمِل معنى الدين كله ، ومن ذلك قوله تعالى: (فأخرَجْنا مَن كانَ فيها مِن المُؤمنين ، فمَا وجَدْنا فيها غيرَ بيتٍ مِن المُسلمين) الذاريات .

     وأما إذا اجتمع المصطلحان كما في حديث جبريل، فإن الإيمان يكون دَالًّا على المعاني القلبية ،والإسلام دَالًّا على المعاني العملية ، قال تعالى: (قالت الأعرابُ آمَنَّا ، قل لم تؤْمِنُوا ولكن قُولُوا أسلَمْنا ولـمَّا يَدخُلِ الإيمانُ في قلوبِكم) الحجرات. وبهذا يتبيَّن معنى القاعدة في هذين المصطلحين وأمثالهما : إذا اجْتَمَعا افْتَرقا وإذا افْتَرقا اجْتَمَعا ، ومن أمثالهما : الفقير والمسكين ، والاستغفار والتوبة ، والبر والتقوى ..إلخ .

   الإيمان هو الأصْل  والله فطَر عباده عليه :

    قال تعالى:  (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) الروم .

    جاء في تفسير ابن كثير : إِنَّهُ تَعَالَى فَطَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} الْأَعْرَافِ، وَفِي الْحَدِيثِ : (إني خلقتُ عِبَادِي حُنَفاء، فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِم) روا مسلم .

     وفي الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِه أَوْ يُنَصِّرانِه أَوْ يُمَجِّسانِه، كَمَا تنْتج الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاء، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟)، ثُمَّ يَقُولُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .

      الإيمان منهج حياة:

     قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل، وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) النساء . وقال تعالى : (إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خلَقْناهُ بِقَدَر) القمر .  

     وجاء في حديث جبريل : قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) متفق عليه .

    والإيمان لا بدّ له من الإسلام، وهو العمل بمقتضى الإيمان، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النسا، وقال تعالى: (إنَّ الَّذينَ آمنُوا وعمِلوا الصالحاتِ يَهْدِيهِم ربُّهم بإيمانهم) يونس .  

     ولذلك يظهر أثر الإيمان في جميع جوانب الاعتقاد والاتِّباع لِلنبي صلى الله عليه وسلم ولِلصحابة السابقين، في جميع شؤون الحياة، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب. وقال تعالى : (فإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا) البقرة.

    وقال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم) التوبة .

    قال الشوكاني في تفسيرها : في الآية تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم الذين صلّوا القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان وهى بيعة الحديبية في قول الشعبي، أو أهل بدر في قول محمد بن كعب وعطاء بن يسار، ولا مانع من حمل الآية على هذه الأصناف كلها، قال أبو منصور البغدادي : أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون ثم البدريُّون ثم أصحاب أُحُد ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية اهـ .

    وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: " قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ، فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ  عَبْدًا حَبَشِيًّا عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ -الذي أثَّر الزمام في أنفه - حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَاد . أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وغيرهم ، وقال الألباني ومحقِّقو مسند أحمد صحيح بطرقه .

       وفيما يلي نُشير هنا إلى بعض الأمور المُهِمَّة مِن آثار الإيمان:

     أثر الإيمان في الاقْتِداءِ باعتقادِ خير القرون وهم الصحابة:

     قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) الحجرات،  قال تعالى : (فإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا) البقرة، وقال تعالى: (إنَّما يَخْشَى اللهَ مِن عبادِهِ العُلَماء) فاطر، وقال عليه الصلاة والسلام : (مَن يُرِد اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّين) متفق عليه، والصحابة أعلم الناس، وأفْقَه الناس، ومعنى اتِّباعهم الابتعاد عن الاعتزال والرفض والقدَريّة والخارجية وعلم الكلام، ونحو ذلك .

    أثر الإيمان في الاقْتِداء بعبادة الصحابة ومعاملاتهم وأخلاقهم :  

     قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الأنفال، وقال تعالى : (قَدْ أفلح المؤمِنون الذينَ هم في صَلاتِهم خاشعون) المؤمنون، وقال تعالى (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم) الذاريات، وقال صلى الله عليه وسلم : (صلُّوا كما رأَيتُمُوني أُصَلِّي) رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام : (خُذُوا عنِّي مَناسِكَكُم) رواه مسلم، وقال تعالى : (... وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الحجرات .

    وقال تعالى: (ألَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم) يونس، وقال تعالى : (مُحَمَّدٌ رسولُ اللهِ والَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) الفتح.

     وقال تعالى : (يا أَيُّها الّذِينَ آمنُوا اتَّقُوا اللهَ حقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلَّا وأنْتُم مُسْلِمون، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر .

    وقال تعالى: (والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهم أَولِياءُ بعض) التوبة، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتَّى يُحِبَّ لِأخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسه) متفق عليه، وعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: (إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ، متفق عليه .

     أثر الإيمان في مُفاصَلة الكافرين والمنافقين :

     قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) التوبة،

     وقال تعالى في الكافرين: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) النساء، وقال تعالى في المنافقين : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) المنافقون، وقال تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) الفاتحة .

     وقال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المجادلة .               

     أثر الإيمان في الموقِف من اختلاف الأمة :

    هذه الأمة هي خير أمة أُخرجت للناس، قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران . وغير ذلك من الآيات .

   ومع ذلك فالاختلاف واقِعٌ في الأمة لِلابتلاء، قال تعالى : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات .

     وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَعُوذُ بِوَجْهِكَ)، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: (أَعُوُذُ بِوَجْهِكَ) ، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَذِهِ أَهْوَنُ ، أَوْ قَالَ: هَذَا أَيْسَرُ) . رواه البخاري .

    وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَصَلَّيْنَا مَعَهُ، فَنَاجَى رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، طَوِيلًا قَالَ : (سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا : سَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيهَا) رواه مسلم .

     وأخرج أحمد عن جابر بن عتيك رضي الله عنه، قال : وَدَعَا - أي الرسول صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ لَا يُجْعَلَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمُنِعَهَا. قَالَ ابن عمر: صَدَقْتَ، فَلَا يَزَالُ الْهَرْجُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" .قال ابن كثير: وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيٌّ .

     ومع الاختلاف في الأمة، فإنّ معظم الأمة على خير، لأنها خير أمة، ومُعظَم المسلمين على الفطرة، والله تكفَّل بحفظ الدين، وأقام المجدِّدين على رأس كل قرْن، وجاءت الأحاديث المتواترة في الطائفة الظاهرة المؤمنة، التي هي طليعة الأمة، قال تعالى : (ومِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّة ٌ يَهْدُون بالحقِّ وبه يَعْدِلون) الأعراف، وبيّن الرسول عليه الصلاة والسلام في سنَّته المَخْرَج من الفِتَن، ومن ذلك حديث حذيفة المتفق عليه .

     حديث حذيفة بن اليَمَان المتفق عليه وأمثاله من النصوص مرجِعٌ في الفِتن والاختلاف :  

     قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: (نَعَمْ) ، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ) ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: (قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ) ، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: (نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) رواه البخاري ومسلم وغيرهما .

    أثر الإيمان في الاهتداء بأشراط الساعة، وأحوال البرزخ والبعث والحساب والمصير:

    الإيمان بالغيب المذكور كثيرا في القرآن والسنَّة تدخُل فيه علامات الساعة الصغرى والكبرى الواردة بكثرة في النصوص، وعدَدٌ منها متواترة، وكذلك أحوال الموت والقبر والبرزخ وقيام الساعة والبعث والحشْر ومواقف القيامة وعرْض الأعمال، والصراط والميزان والحوض والشفاعة والجنة والنار.. إلخ .

     وقد وردتْ أحاديث في البخاري ومسلم وغيرهما عن عدَد من الصحابة أن الرسول عليه الصلاة والسلام خطَب ذاتَ يومٍ من بعد الفجر حتى المغرب، ولم يقطَع خطبته إلَّا لصلاة الظهر ثم صلاة العصر، فأخبَر بما كان وما هو كائن، وقال الصحابة فأحفظُنا أعلمُنا .

    والمؤمن يعلَم ذلك ويعتَقِده، ويُحْسِن التصرُّف بهداية الله له في كل موقف، فتكون حياته مطمئنة مستقرة، قال تعالى : (نَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ، نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) حم السجدة .

    وقال تعالى : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) إبراهيم . وقال تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) الأنبياء . وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ، وَادْخُلِي جنَّتِي) الفجر .

      أثر الإيمان في الرُّجوع إلى العلماء الربّانيّين في الأحوال وطاعتُهم وطاعةُ وُلَاة الأمْر من المسلمين:

     قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء .

     وقال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) النساء .

    وقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة .    

    وقال تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) آل عمران . 

     حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم

     وإذا تراجع الناس عن الإيمان، سلَب الله الخير والعافية عنهم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد، قال الشوكاني في تفسيرها: (إن الله لا يغير ما بقوم) من النعمة والعافية (حتى يغيروا ما بأنفسهم) من طاعة الله، والمعنى أنه لا يسلب قوما نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذى بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة، أو يغيروا الفطرة التى فطرهم الله عليها .

     وذكر السعدي حال التراجع عن الإيمان وحال التوبة والرجوع إلى الإيمان .. لأن الآية قاعدة عامة تدلُّ على الأمرَين، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والإحسان ورغد العيش {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بأن يَنْتَقِلوا من الإيمان إلى الكفر ومن الطاعة إلى المعصية، أو مِن شكْر نعم الله إلى البطَر بها فيسلبهم الله عند ذلك إياها.

     وكذلك إذا غيَّر العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة .

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©