من تلبيس إبليس في الفتوَى

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 28 ربيع الآخِر 1434هـ الموافق 18 فبراير 2013م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/tlbis.mp3

    التحرّي في الاتِّباع و الفتْوى :

     عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : لاَ يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ مِنْ نَفْسِهِ جُزْءًا لاَ يَرَى إِلاَّ أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَنْصَرِفَ إِلاَّ عَنْ يَمِينِهِ .. أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ . رواه الجماعة إلا الترمذي ، و قد أشار إليه الترمذي بعد أن ذكَر حديث هُلْب أن النبيّ كان ينصرِف على جانِبَيه . و عند أبي داود قَالَ عُمَارَةُ أحد الرُّواة : أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ بَعْدُ فَرَأَيْتُ مَنَازِلَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ يَسَارِهِ.

     قال البخاري : باب الِانْفِتَالِ وَالِانْصِرَافِ عَنْ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ .

     و َكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَنْفَتِلُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ يَتَوَخَّى أَوْ مَنْ يَعْمِدُ الِانْفِتَالَ عَنْ يَمِينِهِ .

    حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : لاَ يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلاَتِهِ ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَنْصَرِفَ إِلاَّ عَنْ يَمِينِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ  .

     قال الحافظ في (الفتح) :

     قال الزين بن المنيِّر: جمَع في الترجمة بين الانفتال و الانصراف للإشارة إلى أنه لا فرْق في الحكم بين الماكث في مُصَلَّاه إذا انْفَتَل لاستقبال المأمومين، وبين المتوجِّه لحاجته إذا انصرف إليها.

    قوله: "وكان أنس بن مالك الخ" وصلَه مسدَّد في مسنده الكبير من طريق سعيد عن قتادة وقال فيه: "ويعيب على من يتوخَّى ذلك أن لا ينْفتِل إلا عن يمينه ، ويقول: يدور كما يدور الحمار " و "يتوخَّى " بخاء معجمة مشدَّدة أي يقصِد، وقوله: "أو يعمِد" شكٌّ من الراوي.

    و ظاهر هذا الأثر عن أنس يخالِف ما رواه مسلم من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي قال: سألت أنسًا كيف أَنصَرِف إذا صليتُ عن يميني أو عن يساري؟ قال: " أما أنا فأكثر ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه " ، ويُجمَعُ بينهما بأن أنسًا عاب من يعتقد تحتُّم ذلك و وجوبه، وأما إذا استَوَى الأمران فجهة اليمين أولَى .

    عن سليمان هو الأعمش. قوله: "عن عُمارة" في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش : " سمعت عُمارة بن عمير " وفي الإسناد ثلاثة من التابعين كوفيون في نسَق آخرهم الأسود وهو ابن يزيد النخعي.

     "لا يجعلْ" في رواية الكُشْمِيهَنِي: "لا يجعلنَّ " بزيادة نون التأكيد . قوله: "شيئا من صلاته" في رواية وكيع وغيره عن الأعمش عند مسلم: "جُزْءًا من صلاته". قوله: "يَرى" بفتح أوله أي يعتقد، ويجوز الضَّم أي يَظن. و قوله: "أن حقًّا عليه" هو بيان للجعْل في قوله: "لا يجعلْ". قوله: "أن لا ينصرف" أي يَرى أن عدم الانصراف حقٌّ عليه ، فهو من باب القلْب قاله الكرماني في الجواب عن ابتدائه بالنكرة قال: أو لِأن النكرة المخصوصة كالمعروفة .

     "كثيرًا ينصرف عن يساره" في رواية مسلم: "أكثر ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله " ، فأما رواية البخاري فلا تُعارِض حديث أنس الذي أشرتُ إليه عند مسلم .    

    و أما رواية مسلم فظاهرة التعارض لأنه عبَّر في كل منهما بصيغة أفعل (أكْثَر)، قال النووي: يُجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا ، فأخبر كل منهما بما اعتقد أنه الأكثر، وإنما كرِه ابن مسعود أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين.

    قلت: وهو موافق للأثر المذكور أولًا عن أنس ، ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يُحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد ، لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت من جهة يساره ، ويحمل حديث أنس على ما سِوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود لِأنه أعلم وأسنُّ وأجلُّ وأكثرُ ملازمةً للنبي صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس ، وبأن في إسناد حديث أنس من تُكُلِّم فيه وهو السدي ، وبأن حديث ابن مسعود متفق عليه بخلاف حديث أنس في الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود تُوافِق ظاهر الحال لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على جهة يساره كما تقدم .

     ثم ظهَر لي أنه يمكن الجمْع بين الحديثين بوجه آخر، وهو أن من قال كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة ، ومن قال كان أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حالة استقباله القوم بعد سلَامِه من الصلاة ، فعلى هذا لا يختص الانصراف بجهة معينة ، ومن ثم قال العلماء: يستحب الانصراف إلى جهةِ حاجته ، لكِن قالوا: إذا اسْتَوَت الجِهتان في حقِّه فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرِّحة بفضل التَّيَامُن كحديث عائشة المتقدم في كتاب الطهارة.

     قال ابن المنيِّر: فيه أن المندوبات قد تنقلب مكروهات إذا رُفِعتْ عن رُتْبتها، لأن التيامُن مستحبٌّ في كل شيء أيْ من أمور العبادة ، لكن لمَّا خَشِي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته ، والله أعلم. اهـ . بتصرُّف .

     و ههنا خطورةٌ عظيمةٌ في التصدّي للفتْوى ممّن ليس أهلًا ، لمجرّد الوَجاهة أو لِمُجَرّد القدرة على الكلام ، و لِوجاهته و قُدرته قد يسكُت عن كلامه كثيرٌ من العلماء ، فيَرُوج على الناس ، و قد يشتدّ على من لا يوافِقه و لا يدري أنه ليس على صواب ..

    قال الخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع): أنا محمد بن أحمد بن يعقوب أنا محمد نعيم الضبي قال سمعت أبا بكر بن بالويه يقول سمعت أبا بكر محمد بن إسحق يعني ابن خزيمة  ، يقول : كنت عند الأمير إسماعيل بن أحمد (سامان والي خراسان) فحدَّث عن أبيه بحديث وهِم في إسناده فردَدْته عليه ، فلمّا خرجتُ من عنده قال لي أبو ذرٍّ القاضي: قد كنَّا نعرف أن هذا الحديث خطأٌ من عشرين سنة فلم يقدر واحدٌ منا أن يردَّه عليه ، فقلت لا يَحِلُّ لي أن أسمع حديثًا لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيه خطأ وتحريفٌ فلا أردُّه ..

 أو يكون المُفْتي عالمًا و لكنه غافلٌ لا نباهةَ له ، أو لا عدالة له فيبيع و يشتري بالفتْوى من أجل المال أو الجاه ..

     و من التطاوُل مع الجهْل والغفلة و القياس في غير محلِّه الذي اعتَرَض ابن مسعود في الحديث على أقلّ منه .. قولهم : السمَك مذْبوحٌ على الطريقة الإسلامية  ، و البيع مثل الرِّبا ، و الخمر مثل العصير ، و الموسيقى فنٌّ ، و المعارضة في سورية مثل النظام ، و التكتُّل للإسلام مثل التكتُّل لغيره (التعدّدية) ، و المرأة مثل الرجل ، و الديمقراطية مثل الشورى ، و الشعب مالك السلطة التشريعية عن طريق البرلمان ، مع أن هذه القضايا لا قياس فيها ، و منها عقَدية ، و لا تَمَاثُل بين الأصول و لا الفروع  ، و لو كان الدين بالرأي لكان مَسْح  باطن الخف أولى من ظاهره ، و في المثل : سألْتُهُ عن أبيه فقال خالي شُعَيْبُ ...

     و في الختام يقول سبحانه : (و لا تَقْفُ ما ليس لكَ بهِ عِلْم ، إنّ السَّمْعَ و البصرَ و الفؤَادَ كلُّ أُولئكَ كان عنهُ مسْؤُولا) الإسراء .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©