يُلْقِي الرُّوحَ مِن أَمْرِه

خطبة جمعة في مسجد أكاديمية بناء في إسطنبول في 18 صفر 1438هـ الموافق 18 نوفمبر 2016م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة عبر برنامج " الريل بلاير " اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/ruh.mp3

   قال تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ، يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) غافر .

     قال السعدي في تفسيره:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} أي: العليُّ الأعلى، الذي استوى على العرش واختص به، وارتفعت درجاته ارتفاعًا بَايَن به مخلوقاته، وارتفع به قدرُه، وجلَّتْ أوصافه، وتعالتْ ذاته، أن يتقرب إليه إلا بالعمل الزكي، وهو الإخلاص، الذي يرفع درجات أصحابه ويقربهم إليه ويجعلهم فوق خلقه،              

    {يُلْقِي الرُّوحَ} أي: الوحي الذي للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، فالجسد بدون الروح لا يحيا، والروح والقلب بدون الوحي لا يصلح ولا يفلح، فهو تعالى {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} الذي فيه نفع العباد ومصلحتهم.

     {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهم الرسل الذين فضلهم الله واختصهم الله لوحيه و تحصيل سعادة العباد في دنياهم وآخرتهم، وإزالة الشقاوة عنهم، ولهذا قال: {لِيُنْذِرَ} من ألقى الله إليه الوحي {يَوْمَ التَّلاقِ} أي: يخوف العباد بذلك، ويحثهم على الاستعداد له.

      وسمَّاه {يوم التلاقِ} لأنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق والمخلوقون بعضهم مع بعض، والعاملون وأعمالهم وجزاؤهم.  وفي بعض القراءات المتواترة (التَّلَاقِي) .

{يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} أي: ظاهرون على الأرض، قد اجتمعوا في صعيد واحد لا عوجٌ ولا أمتٌ فيه، يُسْمِعهم الداعي ويُنْفِذهم البصر، (من الرباعي أو من الثلاثي).

{لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} لا من ذواتهم ولا من أعمالهم، ولا من جزائها.

{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} من هو المالك لذلك اليوم العظيم الجامع للأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، الذي انقطعت فيه الشركة في الملك، وتقطعت الأسباب، ولم يبق إلا الأعمال؟ المُلْك {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي: المنفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. {الْقَهَّارِ} لجميع المخلوقات، الذي دانت له المخلوقات وذلَّتْ، خصوصًا في ذلك اليوم الذي عنَتْ فيه الوجوه للحي القيوم.

{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} في الدنيا، من خير وشر. {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} على أحد، بزيادة في سيئاته، أو نقص من حسناته. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي: لا تَسْتَبْطِئُوا ذلك اليوم فإن كل آتٍ قريب، وهو أيضا سريع المحاسبة يوم القيامة للخلائق في وقت واحد لايشغله شأن عن شأن، لقُدْرته وإحاطة علمه وكماله.اهـ بتصرُّف . 

     بعض ما يؤخذ من الآيات :

     1- الوحْي الإلهي إلى الأنبياء روحٌ، وينقسم الناس بهذه الروح إلى مُستجيبين وهم الأحياء، وإلى غير مستجيبين أو مستجيبين جُزْئيًّا وهم الموتَى والمرْضَى .. فالناس مَوتَى بالكفْر ومَرْضَى بالنِّفاق والعصيان، أمَّا المؤمنون فإنهم أحياء وأصحَّاء، وبقدْر سريان هذه الروح في شؤون الإنسان تكون حياته، وإذا كان الإنسان لا يُسَلّم جسده إلا لطبيبٍ بارع حرصًا على حياته، فأَولَى ألَّا يسلم قضية القضايا، وهي الهداية إلا لنبي أو عالم رباني تابع للنبي، قال تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) الشورى .

     2- صاحب الروح الضعيفة أو الميّت تَتَسلَّط عليه الشياطين كما تَتَسلَّط الجراثيم والفيروسات على الميّت، أو على الذي في حياته ضعْف بسبب ضعْف روح المقاومة، قال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل . وقال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) الزخرف . وقال تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) الإسراء .

     3- يقوم شياطين الإنس والجن بوحْيٍ مضادّ لمن ماتتْ أو ضعُفَتْ عنده روح الإسلام، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) الأنعام . وقال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) الأعراف. وقال تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) البقرة .  وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) الأعراف.

     4- ووحْي الشيطان وسواسٌ لا سلطانٌ، ولكنه يجرِف معظم الناس لأنهم مَوتَى، ويجرِف المَرْضَى جزئيًّا، قال تعالى : (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ، قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) الحجر. وقال تعالى: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) الإسراء. وقال تعالى : (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) إبراهيم .

      5- أعظم لقاء في يوم التَّلَاقِ هو لقاء الله، والله الذي خلَق العبد لا يرضى بأقلَّ من أن تشمل روح الإسلام حياة العبد كله، قال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) الكهف .

     6- المُلْك في يوم التلاقِ لِله الواحد القهار الذي قهَر وحدَه الخلْق جميعًا حتى جمَعهم في عرصات القيامة، فماذا أعدَّ الخلْق لهذا المصير ؟. لابدَّ لمن يريد النجاة من توحيد مصدَر التَّلَقِّي من الله وحده لا شريك له، أمَّا مَن يتلقَّى من شياطين الجن والإنس، ويستورد المناهج أو جزئياتها، ويلَفِّق بين الإسلام وضلالات اليهود والنصارى وغيرهم فيأخذ بمثل الليبرالية والاشتراكية والديمقراطية، أو بجزئياتٍ منها فقد وقع في الخطَر، لأن الاستيراد سائغٌ في الحقائق العِلْمية الدُّنيوية وفي البضائع والصناعة والزراعة، وليس سائغًا في المبادئ والمناهج .

     7- لا ظلْم عند المَلِك القهّار سبحانه رغْم جَبَروته وعظَمته، فكل إنسانٍ لا يُجَازَى إلّا بعمله، ومن عدْل الله وعظَمَته سرْعة إنجاز الحساب والمُجازاة .

     وهنا يُنَاسِب أن نقول لأنفسنا وللناس ما قاله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) الشورى .

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©