المرجعية للعلماء و الوجهاء أم للعوامّ و السفراء

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 4 رجب 1433هـ الموافق 25 مايو 2012م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    قال تعالى : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) النساء .

     أقوال المفسِّرين في الآية و كلها منقولة بتصرّف :

     قال ابن كثير :

     ويُذكَر هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه: أطلقت نساءك؟ قال: (لا) . فقلت الله أكبر ...

     وعند مسلم: فقلت: أطلقْتَهنّ؟ فقال: (لا) فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) قال : فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.. ومعنى (يستنبطونه) أي: يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه، يقال: استنبط الرجل العين، إذا حفرها واستخرجها من قعورها  .

     ومعنى قوله: (لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) ...قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: (لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) يعني: كلَّكم. و التقدير : وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ إِلا قَلِيلا هم المؤمنون ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ كلَّكم . و هذا شبيهٌ بقوله تعالى : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) النور .

     و قال الشوكاني :

     هم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم ، أو هم الولاة عليهم.

      و قال السعدي :

     هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردُّونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة ... ولهذا قال: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة ، ويُجعَل الأمر إلى أهله، ولا يُتَقدَّم بين أيديهم

    و معنى (لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) أن الإنسان بطبعه (بأكْثَرِيَّة أفراده) ظالم جاهل إلا من عصمه الله .

     و جاء في الظلال :

     والصورة التي يرسمها هذا النص ، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي ، لم تألف نفوسهم النظام؛ ولم يدركوا ضَرَر الإشاعة في الخلخلة ؛ سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف ..قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة! .. إشاعة أمر الأمن عند العامة قد تُحدِث نوعاً من التراخي و إشاعة أمر الخوف قد تحدث خلخلة وارتباكاً ، وحركات لا ضرورة لها !

    و لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان معهم ، أو إلى أمرائهم المؤمنين ، لَعَلِم حقيقته القادرون على استنباط الحقيقة؛ واستخراجها .

     و قال الشعراوي :

     كلمة (أذاعهُ) غير كلمة (أذاع به) ، فـَ (أذاعه) يعني (قاله) ، أما (أذاع به) فهي دليل على أنه يقول الخبر لكل من يقابله من العامة ، وكأن الخبر بذاته هو الذي يذيع نفسه..

     (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، والاستنباط مأخوذ من " النَبْط " وهو ظهور الشيء بعد خفائه، واستنبط أي استخرج الماء مجتهدا في ذلك والنَبَط هو أول مياه تخرج عند حفر البئر فنقلت الكلمة من المُحَسَّات في الماء إلى المعنويات في الأخبار..

    و المعنى: إذا سمعتم أمراً يتعلق بالأمن أو أمراً يتعلق بالخوف، فإياكم أن تذيعوه قبل أن تعرضوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تعرضوه على أولياء الأمر الذين يستنبطون.  

     ما يؤخَذُ من الآيات في ضوء ماسبق أن المرجعية للعلماء و لِبَقِيّة أهل الحل والعقد ، و ليس للعوامّ ولا لسفراء أهل الكتاب في ديار الإسلام !!!:         أولاً : أن الأمور المهمة و لاشك أن أهمها أمور الدولة  لا تُطْرَح على العامة (الشعوب) وهذا عكس المنهج الديمقراطي لأن الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة كما في الحديث الذي رواه مسلم ، و النصوص العامة كثير منها عامٌّ مخصوص فلا يُستدَل مثلاً بِـ (إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها) على أن الشعب يَنْتَخِب ، لأن المقصود في أمانة الحكم هم الخاصة  و هم أهل الحل والعقد ، و كذلك مابعدها في الآية (و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) ليس المقصود الشعب طبعا و إنما الخاصة من الأمراء والقضاة  ، و مثل ذلك حديث ( مَن مات و ليس في عنقه بيعة) المقصود منه عدم الخروج على ولي الأمر المسلم لا أنه يُبايِعه مباشرةً كلُّ الرجال والنساء .

     و الفروض الكفائية جاءت بنصوص عامة  كإقامة الدولة و كإقامة الحدود (حد الزنا وحد السرقة) و كالجهاد وصلاة الجنازة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، وقد يفهمها الذين لا فِقْهَ لهم أنها تشمل  الشعب و كل الناس.

     ثانيًا : من الأمور المهمة التي لا تذاع (للعوامّ فضلاً عن الكافرين أعداء الإسلام)   أمور الدولة عموماً  و منها الأمور العسكرية (الأمن و الخوف) ...إلخ .. و كذلك الأمور الشخصية للقيادات الكبيرة (كإشاعة أن الرسول طلّق نساءه) قبل الاستئذان و الاستبيان  .

     ثالثًا : المرجعية للأمة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام هم أولو الأمر ، و  في مقدّمة أولي الأمر حمَلَةُ الدّين من العلماء ، لقوله تعالى : (و أولي الأمر منكم) و قد ذكر ابن كثير والشوكاني و غيرهما أنهم العلماء ، و الأمراء من المسلمين لا من غير المسلمين.. و لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في الصحيح : (مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ) فالمقصود بالأمر الدِّين ، و العلماء ألصق بالدِّين فهم في مقدمة أولي الأمر ، و كذلك لأن العلماء المجتهدين يدخلون في أهل الاستنباط دخولاً أولياً ، و لأن عمر كما في الحديث المتفق عليه الذي ذكره ابن كثير في سبب نزول الآية ، ذكَر عمرُ أنه من أهل الاستنباط و هو من كبار علماء الصحابة و من الخلفاء الراشدين.

     رابعاً : يدخل في أولي الأمر كل من كان له ثِقَلٌ و نفوذ في الأمة من كبار الشيوخ و كبار السياسيين و كبار العسكريين و كبار أصحاب المِهَن والتخصُّصات ، وهم الذين مع كبار العلماء المجتهدين يصفُهم الفقهاء بأهل الحلّ و العقد ، وهم مشهورون معروفون في المجتمع فِطْرِيًّا و تلقائيًّا لا يحتاجون إلى انتخاب ، إلا إذا احتاجوا إلى اختصار العدَد فيقومون وحدهم باختيار من يمثِّلهم ، وهذا ماجرى عليه الحال طَوال القرون الماضية في دولة وحضارة الإسلام العظيمة .

     خامسًا : لا يدخل مع هؤلاء غيرهم من العوامّ كما هو حاصل في كل المؤسسات فضلاً عن مؤسسة المؤسسات وهي الدولة ، لأن إدخالهم من (الإذاعة) المَذْمومة في الآية .. و قوله في الآية مع التقدير السابق عند كلام ابن كثير (أذاعوا به إلا قليلًا) دليلٌ على أن الأكثرية غير مأمونة ..

     أما إدخال الكافرين و(سفرائهم و عساكرهم في بلاد وشؤون المسلمين) فإنه إدخالٌ لأولي أمرٍ من غير المسلمين ، و تسليطٌ للكافرين على المسلمين ، و خرْقٌ لِمنهج البراء من الأعداء ، و الله يقول : (و لن يجعلَ اللهُ للكافرين على المؤمنين سبيلا) النساء . ويقول تعالى : (لا تتخذوا بطانة من دونكم ، لا يألونكم خبالاً...) آل عمران . و يقول سبحانه : (إن الكافرين كانوا لكم عدُوًّا مُبينا) النساء .

     سادسًا : أوضاعُ كثيرٍ من بلاد المسلمين أوضاعٌ ممزَّقة مُثْخَنَة بالصراعات و الحزبيات ، و الاغتيالات و التفجيرات ، و الاقتتال والانهيارات ، و الفساد و الانتهابات، و مُنْهَكَة بالاستخبارات ، و قصْف الطائرات الأجنبيات..  و اقتصاديّاتها مَشْحونةٌ بالرِّبويّات ، و نساؤها في المُساواةِ الوهمية بالرجال هائمات ... إلخ .. و كل هذه الآفات بسبب التدخُّلات الأجنبية التي أحْكَمت الإثارات و المؤامرات في كل الاتجاهات ، و بذلتْ لها أنواع الرِّعايات ، فأصبحت الاختلالات تُواصِل إنتاج نفسها بنفسها باستمرار لأنها تتغَذَّى من الذات ، و تَتَزَوَّدُ تِلْقائِيًّا من داخلها بالطاقات ، لكي تتواصل هذه الاختلالات لو أمْكَنَها حتى النِّهايات ، و يسمُّون هذه التدخلات بغير اسمها فيُسَمّونها شراكات و صداقات وعلاقات و تعاونات .. و معلوم أنه ما نصحَ كافرٌ لِمُسلم ..

     و القبول بالتدخلات الأجنبية مخالفٌ للنصوص الكثيرة القاطعة ، و حرامٌ شرعًا حرمةً شديدة و قادحٌ في العقيدة و في البراء من الأعداء ،  و من الذي يرضى يإدخال الثعابين في بيته ؟!!

     والعجيب أن هؤلاء الأعداء البُعَداء فعّالون مُقَرَّبون يَدُسُّون أنفسهم في كل أمرٍ و كأنهم من أُولي الأمر.. في حين إن العلماء الذين هم المرجعية فيما يجوز و ما لايجوز في كل أمرٍ ، و الذين هم المُقَدَّمون في أُولي الأمر .. مَعْزُولون مُهَمَّشون ، و من كلِّ قضايا الحُكْم و السياسة و الاقتصاد و الاستراتيجيات مُبْعَدون .. فالله المستعان ، فالله المُسْتعان ..

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©