و نريد أن نَمُنّ على الذين استُضْعِفُوا في الأرض

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 9 شعبان 1433هـ الموافق 29 يونيو 2012م  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/nmn.mp3

   الإدمان على الذنوب مآلُهُ الفتْنة في الدين :

     لقد أدْمن بنو إسرائيل على الالتواءات و الانحرافات حتى وصل بهم الأمر إلى حدّ الكفر بآيات الله كما في قولهم سمعنا و عصينا و في عبادة العجل و في رفضهم الإيمان إلا أنْ يَرَوا الله جهرة ، ثم في قتْلهم الأنبياء ، مما عجّل العقوبة عليهم بالصاعقة و التِّيه و ضُرِبتْ عليهم الذلة و المسكنة و نزل غضب الله و لعنته عليهم حتى صاروا يُنْعَتُون بالمغضوب عليهم إلخ .. قال تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ) المائدة .

      و في خطورة إدمان الكذِب مثلاً قال البخاري : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا) .

     و قال مسلم : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا). قَالَ ابْنُ أَبِى شَيْبَةَ فِى رِوَايَتِهِ : (عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم) .

      و قد قال تعالى مُحذِرًا هذه الأمة من الوقوع في إدمان المعاصي : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور . و كما أن إدمان القات قد يصل بالإنسان إلى الانفصام والجنون فإن إدمان المعاصي قد يصل بالإنسان إلى الكفر .

     و قد حصل من بني إسرائيل ما حصل ، و هذه الأمة مُتّبِعة لهم في الجملة كما في الحديث المتّفق عليه ، إلا أن الخير فيها أكثر ، و رحمة الله عليها أوسع ، فهي خير أمة أخرجت للناس ، والطائفة الظاهرة فيها التي على رأسها العلماء أكبر و أظهر، و الذين فيها محفوظ ، بخلاف الدين عند بني إسرائيل فليس محفوظاً ، و لذلك لم يحصل لهذه الأمة بجُملتها ما حصل لبني إسرائيل من الغضب والطرْد و اللّعْن ، فالخير فيها باقٍ إلى قيام الساعة ، رغم بعض العقوبات كالافتراق و ذَوق بعضهم بأس بعض و تسليط أعدائهم عليهم دون استئصال و غير ذلك .

     لا بدّ من الاستسلام لِمَرجعية الشريعة و العلماء لكي يحكُم الإسلام :

    ولو أن الناس استسلموا لأمر الله في مرجعية العلماء مع أهل الحل والعقد  و ليس للتصويت الديمقراطي لكان الاختيار للإسلام والإسلاميين أمرًا مفروغاً منه ، كما هو مفروغٌ من اختيار الطبيب لعلاج المريض و المهندس لتخطيط البيت ، والضابط لقيادة المعسكر ، والتاجر لتوريد البضائع ، و هكذا لا تستقيم الأحوال إلا في مسايَرة طبائع الأمور و احترام التخصُّصات ، و ليس مقام مرجعية العلماء كهنوتاً كما يزعم الأعداء فالعلم مبذولٌ دون انتقائية أو عنصُرية لكل مَن طلَبه بصدق ، فقد كان معظم العلماء في الأمة من الموالي والعجَم مثل عطاء و ابن سيرين و الحسن و مكحول وأئمة الحديث مثل أئمة الأمهات الستّ  ، و أئمّة اللغة مثل سيبويه والفارسي والزمخشري و ابن جِنِّي..

  و لو كان بنو إسرائيل استسلموا لحُكْم الله و دخلوا الأرض المقدّسة من أول أمْرٍ أو ذبحوا البقرة من أول توجيه ، و قالوا سمعنا و أطعنا .. لَوفَّروا على أنفسهم الوقت و الجهد و المال و سَلِموا من غضب الله و عقابه ، فكذلك هذه الأمة لو حكَّمتْ شرع الله و رجعتْ إلى علمائها ، و لم تلفتْ إلى المتآمرين و نبذتْ أطروحاتهم و مستورداتهم .. قال تعالى : (أفغير الله أبتغي حكَمًا و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مُفَصَّلا) الأنعام .

     القلَق من إقصاء الإسلاميين :

     لِله سُنَن ، والحياة دوراتٌ و الأيام دُوَل ، و أصبح الناس مُسلمهم و كافرهم يشعرون أن الإسلام قادم ، و أنه بدأ التمكين رغم إرادة المتآمرين في الداخل والخارج لأن الله غالبٌ على أمْره .. و كثُرَتْ التواءات المتآمرين لإِبعاد الإسلاميين ، و هذا شبيهٌ بالالتواءات التي سلَكها بنو إسرائيل في أعظم قطْعية من القطعيات و هي طلَبهم إلهًا كما للآخرين آلهة و كذا في تلكُّؤِهم في تنفيذ أمر الله بدخول الأرض المُقَدَّسة ، و كذا في الالتفافات في قضية ذبح البقرة إلى درجة أنهم لم يكادوا ينفِّذون الأمر الإلهي ، قال تعالى : (فذَبَحوها و ما كادُوا يَفْعَلون) البقرة .

     و أخيرًا وصل الرئيس الإسلاميُّ في مصر إلى الحُكْم .. لقد كانت أيدي الناس على قلوبهم في نهاية الأسبوع الماضي و بداية الأسبوع الحالي ، ليس في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي ، لأن المسلمين الصادقين ما كانوا يطيقون أن يرجعوا القَهْقَرى ، قال تعالى : (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى، و أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالَمين) الأنعام.

     جاء في تفسير الشوكاني : أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (قل أندعوا من دون الله) ، قال : هذا مثلٌ ضربَه الله للآلهة وللدعاة الذين يدعون إلى الله وقوله : (كالذي استهوتْه الشياطين في الأرض) يقول : أضلَّتْه وهم الغِيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقتْه في هلَكة ، وربما أكلتْه أو تلقيه في مَضَلَّة من الأرض يهلِك فيها عطشا ، فهذا مثَل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله .

     وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (كالذي استهوتْه الشياطين) قال : هو الرجل لا يستجيب لِهُدَى الله ، وهو الرجل أطاع الشيطان وعمِل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه ، و (له أصحاب يدعونه إلى الهدى) ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى ، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس يقول : (إن الهدى هدى الله) والضلالة ما تدعو إليه الجن .

    لقد كان القلَق بسبب أن الانتخابات تجعل الحُكْم للإسلاميين بالتصويت ، و التصويت زِئْبَقيٌّ على كفّ عفريت  ، و الله يقول : (قل إن هُدَى الله هو الهُدَى ، و أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالَمين) .

     كما قال تعالى : (وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ ، حُنَفَآءَ للّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) الحج .

     جاء في تفسير الشوكاني : قال الزجاج : أعلم الله أن بُعْد من أشرك به من الخلْق كبُعْد ما خر من السماء فتذهب به الطير أو هوتْ به الريح في مكان بعيد ... و أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (واجتنبوا قول الزور) يعني الافتراء على الله والتكذيب به .

     و كان القلَق أيضا بسبب أن الانتخابات تعتمد الأغلبيّة التي تشْبِه الشِّرْك ، و مرجعية الشريعة و العلماء من الله وحده ، و هذا حُكْمه الذي لا يقبل التشريك بأغلبيةٍ و لا غيرها قال تعالى : (وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) .

     لقد أنْعَم الله بِبَدْءِ التمكين :

     والحمد لله على عظيم فضله في تمكين أهل الإسلام بعد طول صبر و انتظار و تضحيات ، كما حصل لبني إسرائيل رغم المعاصي لوجود طائفة صالحة فيهم قال تعالى : ( و مِنْ قومِ موسى أمَّةٌ يَهْدُون بالحق و بِهِ يعدِلون) الأعراف ، وذلك كالطائفة الظاهرة في أمة الإسلام ، إلا أن طائفتنا محظوظةٌ بحِفْظ الله للقرآن و السُّنّة .. قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص . و قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) الأعراف .

     و لماذا يخافون من الإسلاميين ؟ إنهم يخافون منهم كما كان يخاف فرعون و قومه من بني إسرائيل ، قال تعالى : (وَقَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىَ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ، قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوَاْ أن الأرْضَ للّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ، قَالُوَاْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىَ رَبّكُمْ أن يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) الأعراف .

    تَصاعدُ التمكين مُرْتَبِطٌ بالشكْر و بالصدْق في الالتزام بالإسلام و بمرجعية حَمَلَتِه العلماء إلى الختام :

    و بعد بوادر التمكين لا بد من الشكر بالاستمرار على لالتزام بمنهج الله  و بِعدَم التفريط  بهذا التمكين كما هو حاصلٌ في السودان و غزة و أفغانستان ،  و لا بدّ من الجِدِّ في الالتزام حتى لا يفْتَتِن الناس ، وحتى يتفيّأوا ظِلال الإسلام  و يَتَنَعَّموا به ، قال تعالى : (رَبّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبّنَآ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَمَن يَتَوَلّ فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ) الممتحنة .

     و لا بد من المثابرة على هذا الالتزام  حتى الختام كما قال يوسف عليه السلام فيما حكى الله عنه : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يوسف . و كذلك ما أجاب به بنو إسرائيل نبيَّهم عندما كانوا لا زالوا في مصر ، قال تعالى : (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ، فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) يونس .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©