حاملُ المِسْك ونافخُ الكِير

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 16 رجب  1435هـ الموافق 15 مايو  2014م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة عبر برنامج " الريل بلاير " اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/msk.mp3

       عَنْ أَبِي موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ ، أَوْ ثَوْبَكَ ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً) متفق عليه .    

     جاء في الفتح لابن حجر :

    (كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي الذَّبَائِحِ (كَحَامِلِ الْمِسْكِ) وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَهُ أَوْ لَا (وَكِيرِ الْحَدَّادِ) بِكَسْرِ الْكَافِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ مَعْرُوفٌ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ (كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ) وَحَقِيقَتُهُ الْبِنَاءُ الَّذِي يُرَكَّبُ عَلَيْهِ الزِّقُّ وَالزِّقُّ هُوَ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ فَأَطْلَقَ عَلَى الزِّقِّ اسْمَ الْكِيرِ مَجَازًا لِمُجَاوَرَتِهِ لَهُ ، وَقِيلَ الْكِيرُ هُوَ الزِّقُّ نَفْسُهُ وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَاسْمُهُ الْكُورُ .

    (لَا يَعْدَمُكَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَكَذَلِكَ الدَّالُ مِنَ الْعَدَمِ أَيْ لَا يَعْدَمُكَ إِحْدَى الْخصْلَتَيْنِ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْإِعْدَامِ أَيْ لَا يُعْدِمُكَ صَاحِبُ الْمِسْكِ إِحْدَى الْخَصْلَتَيْنِ .

     (إِمَّا تَشْتَرِيهِ أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ) ، وفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ (إِمَّا أَنْ يَحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ) ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ أَرْجَحُ ، لِأَنَّ الْإِحْذَاءَ وَهُوَ الْإِعْطَاءُ لَا يَتَعَيَّنُ ، بِخِلَافِ الرَّائِحَةِ فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْبَيْعُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ .

    (وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحَرِّقُ بَيْتَكَ أَوْ ثَوْبَكَ) ، وفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ (وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحَرِّقَ ثِيَابَكَ) وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ الْبَيْتِ .

    وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ مَنْ يُتَأَذَّى بِمُجَالَسَتِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالتَّرْغِيبُ فِي عكسه ، وَفِيهِ جَوَازُ بَيْعِ الْمِسْكِ وَالْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ ، والرَّدُّ عَلَى مَنْ كَرِهَهُ ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَغَيْرِهِمَا ، ثُمَّ انْقَرَضَ هَذَا الْخِلَافُ وَاسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى طَهَارَةِ الْمِسْكِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ ، وَفِيهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ وَالْعَمَل فِي الحكم بالأشباه والنظائر . اهـ . بتصرُّف .

      وفي شرح مسلم للنووي :

     مثَّل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَلِيسَ الصَّالِحَ بِحَامِلِ الْمِسْكِ وَالْجَلِيسَ السُّوءِ بِنَافِخِ الْكِيرِ ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالْمُرُوءَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الشَّرِّ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَمَنْ يَغْتَابُ النَّاسَ أَوْ يَكْثُرُ فُجْرُهُ وَبَطَالَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ .

    (يُحْذِيَكَ) يُعْطِيكَ ، بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ ، وَفِيهِ طَهَارَةُ الْمِسْكِ وَاسْتِحْبَابِهِ وَجَوَازُ بَيْعِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَمِيعِ هَذَا ، وَنُقِلَ عَنِ الشِّيعَةِ نَجَاسَتُهُ وَالشِّيعَةُ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ ،   وَالنَّجَسُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، و كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعْمِلُهُ فِي بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ وَيُصَلِّي بِهِ وَيُخْبِرُ أَنَّهُ أَطْيَبُ الطِّيبِ ، و صَحَّتْ قِسْمَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمِسْكَ عَلَى نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ . اهـ . بتصرُّف .

     يؤخَذ من الحديث :

    1- لا بد أن يتعامل المسلم مع أصناف الناس ، فيعرف إلى من يطمئن ، وممَّن يحذر .. يتعامل مع مَن هو نفعٌ محْضٌ باطمئنان ، تارةً بالحرص على مجالسته وتارة بالمعاملة .. وأما مع مَن فيه ضررٌ ونفعٌ فيكون التعامل بقدْر الحاجة والضرورة مع الحذَر ، والتزام ضوابط الشرع بدقة .

    2- لا غِنَى عن التعامل مع الحدّاد رغم وجود بعض الأضرار ، ولكن بالاحتراس ، فكذلك التعامل مع الكافرين والمنافقين ، فقد عاش الرسول عليه الصلاة والسلام مع عمِّه أبي طالب وأبو طالب يدافع عنه رغم شِرْكه ، و تفاوَض الرسول عليه الصلاة والسلام مع المشركين في الحديبية وعقَد صُلحًا ، و تعاهد مع اليهود في المدينة ، وكان معه في المدينة أيضًا المنافقون ، وكلُّ ذلك بالضوابط الشرعية .

     وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: (تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) رواه البخاري . وقد يكون الكتابيُّ أو المُشرك أو المُنافق واحدًا من الأقارب !! .. عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: (نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ) متفق عليه .

     ومع إقامة تلك العلاقات إلا أن الرسول والصحابة استمرّوا على التزام منهجهم في ذمِّ اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ، والبراء منهم بالصوت المُجَلْجِل المُرتَفِع ، قال تعالى عن اليهود : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) المائدة . وقال تعالى عن النصارى : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) المائدة . وقال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) المائدة .

   وقال تعالى عن المشركين : (إنَّما المشركون نَجَسٌ) التوبة . وقال تعالى عن المنافقين : (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) التوبة .

     وقال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المجادلة .

    وتبقى العلاقة والمحبة المحدودة مع الأقارب والزوجات ونحوهم من الكافرين والمنافقين التي لا تصل إلى حدّ المودّة والولاء، كحُبِّ الخُبز الذي لايمنع من رمْيه عند العفَن ، و من تقطيعه ومضْغه عند الأكل ، وحُبِّ الخروف الذي لا يمنع من أكل لحْمه عند اللزوم ، أو ترْك لحْمه للسباع عندما لا يكون صالحًا للأكل ، وحُبِّ الكلب المُعَلَّم الذي يتمُّ الاحتراس من نجاسته ، والذي لا يمنع حبه من طرده والتخلُّص منه عند إصابته بداء الكَلَب .

    قال تعالى : (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة .

     3- والتعامل مع هؤلاء شبيهٌ بالتعامل مع المُدْمنين على القات دون مشاركة ، و شبيهٌ بالتعامل مع مرضى الجذام والإيدز الذي يجب أن يكون بحذَر وفي حدود الحاجة أو الضرورة ، لأن الشخص إذا أكثر الاختلاط بغير احتراسٍ أصيب .

    والإصابات نراها في كثيرين ، ممن تنكَّروا لمنهجهم ، وألغَوا الضوابط ، وجالسُوا الأشرار وخالطوهم ورضُوا بالشراكة والتعاوُن معهم ، فكانت النتيجة أنهم أدْمَنُوا على الباطل والتخليطات ، وعايَشُوا الباطل في المصطلحات والتطبيقات ، بل ونَفَّذُوا التعليمات من الأعداء والتوجيهات ، فخسروا الدنيا كما هو الواقع المرير في بلاد المسلمين اليوم : في أفريقية الوسطى ، ومالي ، والعراق ، وسورية ، وفلسطين ، والعراق ، وأفغانستان ، وباكستان ، ومصر ، والصومال ، واليمن .. وكذلك سيخسرون الآخرة بالمِثْل .

     والأصل أن يتعامل المسلمون في مُفاوَضاتهم مع الأعداء ، وفي محافلهم معهم ، وفي إعلامهم وسياساتهم وسائر تعاملاتهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل ، ويحرصون على المفاصلة والمُمَانَعة، وعدَم الخلْط في المنهجية ، كما يحرص الصحيح على منع المريض يالإيدز من البُصاق على الطعام  .. قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الزخرف .

     وفي الختام يقول سبحانه : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) الكهف . ويقول سبحانه : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) الفرقان .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©