المال و الجاه و خرْق السفينة

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 15 صفر 1434هـ الموافق 29 ديسمبر 2012م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

      قال البخاري : باب: الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلاَتِ :

     عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلاَهَا ، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلاَهَا ، فَتَأَذَّوْا بِهِ فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلاَ بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ) . و في لفظٍ آخَر للبخاري : (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا) .

     و في رواية أحمد و هي على شرط الشيخين كما قال الأرناؤوط :

     عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّاتِعِ فِيهَا وَالْمُدْهِنِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا وَأَوْعَرَهَا ، وَإِذَا الَّذِينَ أَسْفَلَهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى أَصْحَابِهِمْ فَآذَوْهُمْ ، فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ وَ لَمْ نَمُرَّ عَلَى أَصْحَابِنَا فَنُؤْذِيَهُمْ ، فَإِن ْتَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا جَمِيعًا) . كما روى الحديث أيضًا الترمذي .

     جاء في (الفتح) :

     (مثل المُدْهِن) بضم أوله وسكون المهملة وكسر الهاء بعدها نون أي المُحابِي بالمهملة والموحدة ، والمُدْهِن والمداهن واحد، والمراد به من يُرائي ويُضيع الحقوق ولا يغيِّر المُنكَر .

     وبيان وجود الفرق الثلاث في المثل المضروب أن الذين أرادوا خرْق السفينة بمنزلة الواقع في حدود الله ، ثم مَن عداهم إما مُنكِر و هو القائم كما في لفْظ ، و إما ساكت و هو المُدْهِن... و الحاصل أن بعض الرواة ذكر المُدْهِن و القائم ، و بعضهم ذكر الواقع و القائم ، و بعضهم جمَع الثلاثة .......

     قوله: "استَهَمُوا سفينة" أي اقترعوها، فأخذ كل واحد منهم سهْما أي نصيبا من السفينة بالقرعة ، بأن تكون مشترَكَة بينهم ، إما بالإجارة وإما بالمِلك ، وإنما تقع القرعة بعد التعديل، ثم يقع التشاحُّ في الأنصبة فتقع القرعة لفصْل النزاع كما تقدم.

     قال ابن التين: وإنما يقع ذلك في السفينة ونحوها فيما إذا نزلوها معًا، أما لو سبق بعضهم بعضا فالسابق أحق بموضعه. قلت: وهذا فيما إذا كان مسبَّلة مثلا، أما لو كانت مملوكة لهم مثلا فالقرعة مشروعة إذا تنازعوا والله أعلم.

     قوله: "فتأذَّوا به" أي بالمارّ عليهم بالماء حالة السقْي. قوله: "فأخذ فأسا" بهمزة ساكنة معروف ويؤنث. قوله: "يَنقُر" بفتح أوله وسكون النون وضم القاف أي يحفِر ليخرقها. قوله: "فإن أخذوا على يديه" أي مَنَعوه من الحفْر "أنجوه ونجّوا أنفسهم" هو تفسير للرواية الماضية في الشركة ، حيث قال: "نجَوا ونجَوا" أي كل من الآخذين والمأخوذين، وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها.

     قال المهلب وغيره: في هذا الحديث تعذيبُ العامة بذنب الخاصة ، وفيه نظر ، لأن التعذيب المذكور إذا وقع في الدنيا على من لا يستحقّه فإنه يكفِّر من ذنوب من وقَع به أو يرْفع من درجته.

     كما يحدُث للبشر بسبب خطيئة آدم و نزولهم إلى الأرض قال تعالى : ( ...فإما يأتينكم منِّي هدًى فمن اتبع هُدَايَ فلا يضِلُّ و لا يَشْقَى، و مَن أعرض عن ذِكْري فإن له مَعِيشَةً ضَنْكا , و نَحْشُرُهُ يومَ القيامةِ أعمَى) طه .

، و كما حصل للنبي صلى الله عليه و سلم و للمسلمين في أحُد بذنوب العصاة من الرُّماة ، و ما حصل لعثمان من الابتلاء الحصار و القتل بسبب تساهل الآخرين في النُّصْرة ..

     وفيه استحقاق العقوبة بترْك الأمر بالمعروف، وتبيين العالِم الحكْم بضرب المثل، ووجوب الصبر على أذى الجار إذا خشي وقوع ما هو أشد ضررا، وأنه ليس لصاحب السُّفْل أن يُحدِث على صاحب العلُوّ ما يضِرُّ به ، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه ، وأن لصاحب العلُوّ منْعه من الضرر. و فيه جواز قسمة العقار المتفاوِت بالقرعة و إن كان فيه علُوٌّ وسُفْل .اهـ . بتصرُّف .

     حديث السفينة و مثلها وسائل الانتقال في البَرّ تشير ضِمْنًا إلى ضرورة التباعد عن فتنة المال و الجاه ..

     إن ضرْب المثَل في حديث السفينة و مِثْلها وسائل الانتقال في البَرّ تشير ضِمْنًا إلى ضرورة التباعُد عن فتنة المال و الجاه ، لأن الاستكثار من الاستِقاء من الماء يؤدِّي إلى إيذاء الآخرين و استفزازهم ، و الاستقاء من الماء العذْب رمزٌ للدنيا المُباحة من مالٍ و جاهٍ و نحو ذلك ، و في الإكثار من ذلك إلى جانب إيذاء الآخرين ، مَدْعاةٌ للصراع و الأَثَرَة و الغرور والعُجْب و الكِبْر و الحسَد .. فكيف لو كان الماء مالِحًا ، و كيف لو كانت المركَبَة سيارةً أو حافلة أو شاحنة على أرضٍ فيها الأوحال و المياه القذِرة و المجاري؟!! ..

    أمَّا الاندفاع في خرْق السفينة أو السيارة للاستقاء من أسفل ، بحجة عدَم إيذاء الذين في أعْلى السفينة أو السيارة ، فهو أعظمُ و أخطرُ إيذاءً من الاستكثار من الاستِقاء من الأعْلى !! لأنه سيجْتمع خرْقٌ مُقْلِقٌ و اسْتِقَاءٌ مُغْرِق !.. و الخرْق تخريبٌ .. و هو مع الإغراق أخطر بكثيرٍ من مُجَرَّد الاستكثار من المباحات ، بل هو نظير الوقوع الذّريع في المحرَّمات و المنكرات .

    و هذه نصوصٌ مُحَذِّرةٌ من الاندفاع ـ غير المُنْضَبِط بالشرع ـ نحو المال و الجاه :

    عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ أَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ) رواه أحمد و الترمذي و ابن حبان و قال الترمذي حسن و قال الألباني صحيح .

     إن الحرص على المال و الجاه مذمومٌ للفرْد ، أما الحرص على المال و الجاه و النُّفوذ للدولة الإسلامية والمؤسسات الإسلامية فهو مطلوب ، لأن الله يقول : (و أَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قُوَّة) الأنفال .  و عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَيُحَدِّثُنَا فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ : (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) رواه أحمد و الطبراني ، و قال الألباني صحيح  .

     و من زُهْده عليه الصلاة و السلام أنه اختار حياة الكَفَاف ، و كان بإمكانه أن يعيش كالمُلوك .. فعن عائشة رضي الله عنها قالت : تُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودِرعُه مرهونةً عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير . رواه البخاري ومسلم والترمذي .

     كما أن النبيّ عليه الصلاة و السلام حذّر من التنافُس على الدنيا .. فعن عَمْرو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاَءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَوْا صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ ، ثُمَّ قَالَ  : (أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ ؟ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : (فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) متفق عليه .

    و قال تعالى : (كَلَّا إن الإنسانَ ليطْغَى ، أنْ رآهُ اسْتَغْنَى) القلم .

     كما أنكَر عليه الصلاة و السلام على من حرَص على الجاه .. فعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ قَوْمِي فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَهُ فَقَالَ : (إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ) رواه البخاري .

    و قال خير التابعين أويسٌ القرَني  بخصوص الجاه كما في مسلم : أكونُ في غَبْراءِ الناسِ أحبُّ إليَّ .

    و قال عليه الصلاة و السلام : (اتَّقُوا هذه المذابِح) يعني المحاريب ، و المقصود بها صُدور المجالس . رواه الطبراني و البيهقي عن ابن عمرو ، قال الألباني صحيح .

      و قال تعالى : (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) هود .

      تنزيل مثَل السفينة في الحديث على واقع الحياة المُعاصِر :

      في الحديث تشبيهٌ للدنيا بما فيها من أعراض وأموال و جاهٍ و من ذلك السياسة و الحكم و الإعلام ، بالبحر الذي قد يكون في أحسن أحواله ماءً عذْبًا ، و مع ذلك هو خطيرٌ مُغْرِقٌ لا يُؤْخَذ منه إلا بقدْر الحاجة . و قد يكون ماءً مالحًا ، تقلُّ فوائده ، و قد يكون قاذوراتٍ و أوحالًا كما في البرّ الذي تسير في السيارات و الحافلات والشاحنات (القاطرات) ، و هي من جنس السفينة لقوله تعالى : (و آيَةٌ لهم أنّا حمَلْنا ذُرِّيَّتَهم في الفُلْكِ المَشْحونِ ، و خلَقْنا لهم مِن مِثْلِهِ ما يَرْكَبُون) يس .

     و معنى المثَل أن يأخذ المسلم من الدنيا ما يَتَبَلَّغ به من المُباح و لا يزيد ، لأن الزيادة فيها آفات ، و منها على الأقل التبذير ، و منها الغرور ، و منها إيذاء الآخرين  و قد يتضرّر و قد يتَلَوَّث إذا لم يكن المباح(الماء) نظيفًا .. أما الخرْق من أجل الاستزادة من الدنيا (من أسفل) فهو جريمة بكل ما في الكلمة من معنى ..!!

     و لا بد من حُسْن اختيار الذين يلامِسون الواقع و يتعرّضُون للخارج ، و لو بالقُرعة والاستهام عند التنازع مِمنَّ يناسِبون ، و لا يكون منهم أهل الحلّ والعقد و لا العلماءُ إبقاءً على نظافة المرجعية ، ويكتَفُون بالقليل الذي يصِل إليهم من الدنيا للعيش و ممارسة القُدْوَة و القيادة  .

     عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، تَخَافُونَ عَلَيْهِ) رواه أحمد  و قال شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح , وهذا إسناد جيد ، ورواه الحاكم عن أبي سعيد و قال صحيح الإسناد ، و قال الألباني صحيح .

     و لذلك تكون التنازلات الضرورية و التمرُّغات في الدنيا من غير أهل الحل و العقد ما أمْكَنَ ، فالنبي صلى الله عليه و سلم في نبوَّته ، لم يفعل ، و الراشدون في خلافتهم على منهاج النبوّة لم يصدُر منهم إلا ما يَليق بهم ، و لم ينغمِسوا في الدُّنيا ، و لا وقَعوا في التنازلات ، و كانوا يَلبَسون الثيابَ المُرَقَّعة رغم قُدْرتهم على أن يعيشوا كالملوك ، حتى الخِداع في الحرْب رغم الرخصة فيه  ،كانوا يمارسونه بالتورِية .

     و هكذا يجب أن يكون العلماء الربانيّون ، لأنهم إذا خلَّطوا فمَن يكون مرجعيّة الناس ؟! 

    عَنْ نَافِعٍ أَبِى غَالِبٍ الباهلي ... أنه قَالَ لأنس بن مالك : يَا أَبَا حَمْزَةَ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَعَمْ غَزَوْتُ مَعَهُ حُنَيْنًا ، فَخَرَجَ الْمُشْرِكُونَ فَحَمَلُوا عَلَيْنَا حَتَّى رَأَيْنَا خَيْلَنَا وَرَاءَ ظُهُورِنَا ، وَفِى الْقَوْمِ رَجُلٌ يَحْمِلُ عَلَيْنَا فَيَدُقُّنَا وَيَحْطِمُنَا فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ وَجَعَلَ يُجَاءُ بِهِمْ فَيُبَايِعُونَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ عَلَىَّ نَذْرًا إِنْ جَاءَ اللَّهُ بِالرَّجُلِ الَّذِى كَانَ مُنْذُ الْيَوْمِ يَحْطِمُنَا لأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ .

     فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجِىءَ بِالرَّجُلِ فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : تُبْتُ إِلَى اللَّهِ.. فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يُبَايِعُهُ لِيَفِىَ الآخَرُ بِنَذْرِهِ.

    قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَصَدَّى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَأْمُرَهُ بِقَتْلِهِ ، وَ جَعَلَ يَهَابُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْتُلَهُ ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لاَ يَصْنَعُ شَيْئًا بَايَعَهُ ، فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَذْرِى. فَقَالَ : (إِنِّى لَمْ أُمْسِكْ عَنْهُ مُنْذُ الْيَوْمِ إِلاَّ لِتُوفِىَ بِنَذْرِكَ) . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ أَوْمَضْتَ إِلَىَّ فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِىٍّ أَنْ يُومِضَ) أي يَرمِز بالعين ويُومِئُ بها  .. أخرجه أبو داود و أحمد ، و قال الألباني و الأرناؤوط صحيح .

     قَالَ أَبُو دَاوُدَ : قَوْلُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم : (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) .. نَسَخَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ فِى قَتْلِهِ ـ أي قتْل الرجل ـ بِقَوْلِهِ إِنِّى قَدْ تُبْتُ . بمَعْنى أنّ قتْله بعد النسخ أصبح غير جائز لا بنذْرٍ و لا غيره ، لأنه قال إني قد تُبْت .

    و الولاية مسؤوليةٌ عظيمة لا سيما عندما تكون باسم الإسلام ، فكم تحصل ابتلاءات و مخالفات ، و ينسبها الوُلاة أو الناس إلى الإسلام بسبب تنازلاتهم ، و ليستْ من الإسلام ..

    عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (... وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ ، فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ  . وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ) رواه الجماعة إلا البخاري .

    و لذلك كان السلَف يخشَون كثرة الخوض في الأموال و الدّخول في الولايات ، و رشَّح عمر ستّةً من بعده للخلافة ، فتنازل ثلاثةٌ منهم للثلاثة الباقين ثمّ تنازل من الثلاثة عبد الرحمن بن عوف لكي يختار عبد الرحمن واحدًا من الاثنين الباقيين هو عثمان .. و رفض عمر أن يُدخِل ابنه مُرَشَّحًا للخلافة من بعده مع الستّة .

    و تباعَد الأئمة الأربعة من الدخول في أيِّ صراعٍ على الدنيا و المُلْك رغم حبّ الناس لهم ، فأعطاهم الله مكانةً أعظم بكثير مما أعطى الملوك في أجيال الأمة ، و المأمول أن يرفعهم الله في الآخرة إن شاء الله قال أحدهم و هو الإمام الشافعي :

إن لله عباداً فُطَنَا. . . طلَّقُوا الدنيا وخافُوا الفِتَنا

نظروا فيها فلما علِمُوا . . . أنّها ليستْ لِحيٍّ وطنَا

جعلوها لُجَّةً واتَّخَذُوا . . . صالِحَ الأعمالِ فيها سُفُنَا

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©