العبادةُ في الهَرْجِ كهجرةٍ إليَّ

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 29 شعبان 1435هـ الموافق27 يونيو 2014م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة عبر برنامج " الريل بلاير " اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/harj.mp3

      العبادة في الهَرْج:

       عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَدَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه . قال النووي في شرحه : الْمُرَاد بِالْهَرْجِ هُنَا الْفِتْنَة وَاخْتِلَاط أُمُور النَّاس . وَسَبَب كَثْرَة فَضْل الْعِبَادَة فِيهِ أَنَّ النَّاس يَغْفُلُونَ عَنْهَا ، وَيَشْتَغِلُونَ عَنْهَا ، وَلَا يَتَفَرَّغ لَهَا إِلَّا أَفْرَاد .اهـ .

     و قال المُناوي في (فيض القدير) : (العبادة في الهرْج) أي وقت الفتن واختلاط الأمور (كهجرة إليَّ) في كثرة الثواب أو يقال المهاجر في الأول كان قليلا لعدم تمكُّن أكثر الناس من ذلك ،  فهكذا العابد في الهرْج قليل . قال ابن العربي : وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرُّون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله ، فإذا وقعت الفتن تعيَّن على المرء أن يفرَّ بدينه من الفتنة إلى العبادة ويهجُر أولئك القوم وتلك الحالة وهو أحد أقسام الهجرة  .اهـ .

    والمسلم في شدّة ظروف الهرْج  يتحرَّر بشدة تَعَلُّقِه بالله من هذه الظروف فكأنه ينساها ، ومَن ذكَر الله فكأنّه ما نَسِيَ شيئًا ، لأن الله يكفيه ما أهمَّه في كل شيء .. وقد ورد في البداية والنهاية لابن كثير في أحداث سنة 94هـ في ترجمة عروة بن الزبير أنه عند الضرورة لِقطْع رجله .. طلَب أن يكون ذلك في الصلاة !! .

     من الاهتمام بالعبادة في رمضان :

    1- عدم التقدُّم بالصيام :

      عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ) متفق عليه .

    قال الحافظ في الفتح : أَيْ لَا يُتَقَدَّمُ رَمَضَانُ بِصَوْمِ يَوْمٍ فَإِنَّ صَوْمَ رمضان مُرْتَبِطٌ بِالرُّؤْيَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ ... قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَانَ بِصِيَامٍ عَلَى نِيَّةِ الِاحْتِيَاطِ لِرَمَضَانَ . وقد ذكَر التِّرْمِذِيُّ أنه كَرِه أهل العلم أَنْ يَتَعَجَّلَ الرَّجُلُ بِصِيَامٍ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ لِمَعْنَى رَمَضَانَ اهـ ... قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُسْتَثْنَى الْقَضَاءُ وَالنّذرُ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِمَا ...    

     وَفِي الحديث بَيَانٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الآخر (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ) فَإِنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلتَّأْقِيتِ ... وَالْحِكْمَةُ فِي المنْع التَّقَوِّي بِالْفِطْرِ لِرَمَضَانَ لِيَدْخُلَ فِيهِ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ ، ولكنّ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَهُ بِأكثر من يومين جَازَ ، والصحيح منْع التَّقْدِيم عموماً بِالصَّوْمِ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِمَّنْ يَقْصِدُ ذَلِكَ ، وَ قد قَالُوا أَمَدُ الْمَنْعِ مِنْ أَوَّلِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: (إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا) أَخْرَجَهُ أَصْحَاب السّنَن وَصَححهُ ابن حِبَّانَ وَغَيْرُهُ . وَقَالَ الرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَحْرُمُ التَّقَدُّمُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ، لِحَدِيثِ الْبَابِ وَيُكْرَهُ التَّقَدُّمَ مِنْ نِصْفِ شَعْبَانَ لِلْحَدِيثِ الْآخَرِ ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَجُوزُ الصَّوْمُ تَطَوُّعًا بَعْدَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، وَضَعَّفُوا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي المنع .  

    وَقَالَ أَحْمد وابن مَعِينٍ إِنَّهُ مُنْكَرٌ ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى ضَعْفِهِ ، فَقَالَ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَصَحُّ مِنْه ، وَكَذَا صَنَعَ قَبْلَهُ الطَّحَاوِيُّ وَاسْتَظْهَرَ بِحَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:  (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَعْبَانُ) لَكِنَّ إِسْنَادَهُ ضَعِيفٌ  ، وَاسْتَظْهَرَ أَيْضًا بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ : (هَلْ صُمْتَ مِنْ سرَرِ (آخِر) شَعْبَانَ شَيْئًا؟) قَالَ لَا ، قَالَ : (فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ) ، ثُمَّ جُمِعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنَّ حَدِيثَ المنْع مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ ، وَحَدِيث الْبَابِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ يَحْتَاطُ بِزَعْمِهِ لِرَمَضَانَ ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ وَاللَّهُ أعلم .اهـ . بتصرف .

    2- الصيام والقيام إيمانًا واحتسابًا :

    عن أَبي هُرَيْرَةَ، حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه .

     قال في الفتح :  (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) زَادَ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (وَمَا تَأَخَّرَ) وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، وَوَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ ، و أخرجها ابن عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ وَاسْتَنْكَرَ ذلك ، وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ فَقَدْ تَابَعَ من ذكرنا وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ لَهُ وَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَاحِيُّ أخرجه أَبُو بكر بن الْمُقْرِئ فِي فَوَائِدِهِ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِدُونِ الزيادة ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ وَجْهَيْنِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ الْكَلَامَ عَلَى طُرُقِهِ فِي كِتَابِ الْخِصَالِ الْمُكَفِّرَةِ لِلذُّنُوبِ الْمُقَدَّمَةِ وَالْمُؤَخَّرَةِ . اهـ . بتصرف .

  وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) متفق عليه .

     قال الحافظ في الفتح :  مَعْنَى إِيمَانًا تَصْدِيقًا بِأَنَّهُ حَقٌّ ، وَمَعْنَى احْتِسَابًا أَنْ يُرِيدَ اللَّهَ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا يَقْصِدُ رُؤْيَةَ النَّاسِ  ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ الْإِخْلَاصَ ، وَالْمُرَادُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ صَلَاتُهَا مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ أَمْ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ الْأَفْضَلُ صَلَاتُهَا جَمَاعَةً كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ إلى اليوم ، لِأَنَّهُ مِنَ الشَّعَائِرِ الظَّاهِرَةِ فَأَشْبَهَ صَلَاةَ الْعِيد ،ِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ : الْأَفْضَلُ فُرَادَى فِي الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في مسلم : (أَفْضَلُ صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) . اهـ . بتصرف .

    والقول الأول أقوى لخصوصية قيام رمضان جماعة ، بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في المسجد جماعة ، و بيانه أنَّه ما ترك ذلك إلا خشية الافتراض ، فلما مات عليه الصلاة والسلام زالت الخشية ، فأعادها عمر في المسجد حماعةً واستمر على ذلك عمل المسلمين .

    3- إكمال قراءة القرآن في رمضان :

    عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .. إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ  فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ . متفق عليه . وورد في المتفق عليه أيضًا أنه كان يعارِضه القرآن في كل سنة مرة ، وأنه عارضه في السنة التي توفِّي فيها مرَّتين .

    قال النووي في شرح مسلم : وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا : بَيَانُ عِظَمِ جُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ إِكْثَارِ الْجُودِ فِي رَمَضَانَ ، وَمِنْهَا زِيَادَةُ الْجُودِ وَالْخَيْرِ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الصَّالِحِينَ وَعَقِبَ فِرَاقِهِمْ لِلتَّأَثُّرِ بِلِقَائِهِمْ ، وَمِنْهَا استحباب مدارسة القرآن . اهـ . ورمضان شهر القرآن .

     وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ) ، قَالَ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: (صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا) .. فَقَالَ: (اقْرَإِ القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ) ، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: (فِي ثَلاَثٍ) رواه البخاري وله ألفاظ متفق عليها .

    قال الحافظ في الفتح : تَنْبِيهٌ : الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ جَمِيعُهُ ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بَعْضُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَأَخَّرَ نُزُولُهُ ، لِأَنَّا نَقُولُ الْعِبْرَة بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِطْلَاقُ ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَ الصَّحَابِيُّ فَكَانَ يَقُولُ لَيْتَنِي قَبِلْتُ الرُّخْصَةَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصحابي بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَضَافَ الَّذِي نَزَلَ آخِرًا إِلَى مَا نَزَلَ أَوَّلًا ، فَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ جَمِيعُ مَا نَزَلَ . وَالله أعلم . اهـ . بتصرف .

    4- عبادة الدعاء:

     والدعاء في ذاته عبادة وللصائم خصوصية في الدعاء قال تعالى : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) البقرة .

     جاء في تفسير ابن كثير : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي) رواه أحمد في مسنده ، و جاء في تحقيقه يإشراف التركي : إسناده صحيح على شرط مسلم ، رجاله ثقات رجال الشيخين غير سليمان  الطيالسي فمن رجال مسلم .

     وعن أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (قَالَ اللَّهُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) رواه أحمد في مسنده ، و جاء في تحقيقه يإشراف التركي : إسناده صحيح ، رجاله ثقات رجال الشيخين غير يزيد بن عبد ربه، فمن رجال مسلم .

    وَفِي الآية تَرْغِيبٌ فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَضِيعُ لَدَيْهِ تعالى، كما جاء عن سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيَسْتَحْيِي أَنْ يَبْسُطَ الْعَبْدُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ فِيهِمَا خَيْرًا فَيَرُدُّهُمَا خَائِبَتَيْنِ) رواه أحمد في مسنده ، و جاء في تحقيقه يإشراف التركي : إسناده صحيح، و قد روي موقوفا و مرفوعاً . وأخرجه الحاكم  والبيهقي في "الأسماء والصفات" وصحَّح الحاكم إسناده على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.  

    وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

    وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ يعجِّل لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدّخرها لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا) قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: (اللَّهُ أَكْثَرُ) .

     وقريبٌ منه مارواه أحمد أيضًا عن عُبَادة بْنَ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِم يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عن ثوبان به وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: (يُسْتَجَاب لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجل، يَقُولُ: دعوتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي) أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِهِ . وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلفظ مُسْلِمٌ: (لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الاستعجال؟ قال: (يقول: قد دعوتُ، وَقَدْ دَعَوتُ، فَلَمْ أرَ يُستجابُ لِي، فَيَسْتَحسر عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَتْرُكُ الدُّعَاءَ) .

     وَفِي ذِكْرِهِ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الدُّعَاءِ، مُتَخَلِّلَةً بَيْنَ أَحْكَامِ الصِّيَامِ، إِرْشَادٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ إِكْمَالِ العِدّة، بَلْ وعندَ كُلِّ فِطْرٍ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: (لِلصَّائِمِ عِنْدَ إِفْطَارِهِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ). فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِذْ أَفْطَرَ دَعَا أَهْلَهُ، وَوَلَدَهَ وَدَعَا  . وقد ذكر الألباني أن الحديث ضعيف ،

     و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حين يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فوق الْغَمَامِ ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الربُّ: وعزَّتي لأنصرنك ولو بعد حين) رواه أحمد في حديث ، والترمذي وحسَّنه واللفظ له ، وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما إلا أنهم قالوا (حتَّى يفطر) . وذكر الألباني أن الحديث ضعيف .

    إلا أن الألباني ذكر حديثًا في هذا الموضوع قال إنه صحيح ، ولفظه : (إن لِلهِ تعالى عتقاءَ في كل يومٍ وليلةٍ  - يعني في رمضان -     لكل عبدٍ منهم دعوةٌ مستجابة) أخرجه أحمد عن أبي هريرة أو أبي سعيد  ،كما أخرجه سَمُّويَه عن جابر.  اهـ . بتصرّف .

   5- الاستفادة من التهيئة الخاصة في رمضان :

    عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ) متفق عليه .

     قال الحافظ في الفتح : قال الحليمي : ... وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَخْلُصُونَ مِنَ افْتِتَانِ الْمُسْلِمِينَ في رمضان إِلَى مَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ ، لِاشْتِغَالِهِمْ بِالصِّيَامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ  . وَقَالَ غَيْرُهُ : الْمُرَادُ بِالشَّيَاطِينِ بَعْضُهُمْ وهم المرَدَة مِنْهُم وَترْجم لذَلِك ابن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَأَوْرَدَ مَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ و ابن مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ : (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ) ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ : (وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ) ، زَادَ فِي رِوَايَتِهِ : (وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَنَادَى مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كل لَيْلَة) لفظ ابن خُزَيْمَةَ . وَنَحْوُهُ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابن مَسْعُودٍ وَقَالَ فِيهِ: (فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ الشَّهْرَ كُلَّهُ) .

     قَالَ عِيَاضٌ : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ كُله عَلامَة للْمَلَائكَة لدُخُول الشَّهْر وَتَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ وَلِمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ ...

    قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنير : ... وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ فَمِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ ، وَالْأَصْلُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ بِدَلِيلِ مَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ غَلْقُ أَبْوَابِ النَّارِ ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ لِإِقَامَةِ هَذَا مَقَامَ هَذِهِ فِي الرِّوَايَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

     وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ رَجَّحَ حَمْلَ الحديث عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ نَرَى الشُّرُورَ وَالْمَعَاصِيَ وَاقِعَةً فِي رَمَضَانَ كَثِيرًا ؟ فَلَوْ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ ، فَالْجَوَابُ أَنَّهَا إِنَّمَا تَقِلُّ عَنِ الصَّائِمِينَ الصَّوْمَ الَّذِي حُوفِظَ عَلَى شُرُوطِهِ وَرُوعِيَتْ آدَابُهُ ، أَوِ الْمُصَفَّدُ بَعْضُ الشَّيَاطِين وهم المرَدَة لا كلُّهم كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ، أَوِ الْمَقْصُودُ تَقْلِيلُ الشُّرُورِ فِيهِ وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ ، فَإِنَّ وُقُوع ذَلِك فِيهِ أقل من غَيره ، إذْ لا يَلْزَمُ مِنْ تَصْفِيدِ جَمِيعِهِمْ أَنْ لَا يَقَعَ شَرٌّ وَلَا مَعْصِيَةٌ ، لِأَنَّ لِذَلِكَ أَسْبَابًا غَيْرَ الشَّيَاطِينِ  ،كَالنُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْإِنْسِيَّةِ .

    وَقَالَ غَيْرُهُ : فِي تَصْفِيدِ الشَّيَاطِينِ فِي رَمَضَانَ إِشَارَةٌ إِلَى رَفْعِ عُذْرِ الْمُكَلَّفِ  ، كَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ قَدْ كُفَّتِ الشَّيَاطِينُ عَنْكَ فَلَا تَعْتَلَّ بِهِمْ فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ وَلَا فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ . اهـ . بتصرُّف .

     يستفاد من الأحاديث :

     1- خُلِق الإنسان من أجل العبادة ، وكلما كانت العبادة أكمل وأخلص كان الإنسان أقرب إلى الله ، ومن تعرَّف إلى الله في الرخاء تعرّف الله إليه في الشدة ، ولذلك ينبغي في أجواء الفتن الاستكثار من العبادة لدفع شرور الفتن ، قال تعالى : (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) المائدة .

     2- رمضان شهر عباداتٍ مُنوَّعة ففيه الصيام والقيام وقراءة القرآن والصدقة والدعاء وغير ذلك فينبغي الاستفادة من هذه الفُرَص العظيمة في هذه الأيام حتى يرفع الله عنا ما نعانيه .

    3-  ينبغي الدعاء في هذه الأيام بصلاح الأحوال والعافية ، بعد التزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنه شرطٌ في استجابة الدعاء كما في حديث حذيفة عند الترمذي وأحمد وهو حسن . قال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) الأعراف .

    وفي الختام يقول سبحانه : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) البقرة .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©