العواملُ الثلاثةُ لِبَقاء الأُمَّة

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 12 محرم 1435هـ الموافق 15 نوفمبر 2013م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة عبر برنامج " الريل بلاير " اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/bqa.mp3

    خطب مُعَاوِيَة رضي الله عنه فقال سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ) متفق عليه .

      جاء في الفتح عند كتاب العلم للبخاري :

     هَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَحْكَام : فضل التفقُّه فِي الدِّينِ ، وَ أَنَّ الْمُعْطِيَ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ ، وَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَبْقَى عَلَى الْحَقِّ أَبَدًا .

     وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي (الاعْتِصَامِ) لِالْتِفَاتِهِ إِلَى مَسْأَلَةِ عَدَمِ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ هُنَاكَ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِـ (أَمْرِ اللَّهِ) هُنَا الرِّيحُ الَّتِي تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فَعَلَيْهِمْ تقوم السَّاعَة .

      وَقد تتَعَلَّق الْأمور الثَّلَاثَةِ بإِثْبَاتِ الْخَيْرِ لِمَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالِاكْتِسَابِ فَقَطْ بَلْ لِمَنْ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ ، وَأَنَّ مَنْ يَفْتَحِ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا يَزَالُ جِنْسُهُ مَوْجُودًا (حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ) وَقَدْ جَزَمَ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَرَادَ أَحْمَدُ أَهْلَ السُّنَّةِ وَمَنْ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَقَالَ النَّوَوِيّ: يُحْتَمل أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ يُقِيمُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مُجَاهِدٍ وَفَقِيهٍ وَمُحَدِّثٍ وَزَاهِدٍ وَآمِرٍ بِالْمَعْرُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَلَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ. اهـ. بتصرُّف .

     و جاء في الفتح عند كتاب الاعتصام في البخاري :

     ... وَتَقَدَّمَ بَعْدَ بَابَيْنِ مِنْ (بَابِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ) مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ: (لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ) ، وَزَادَ أي البخاري : قَالَ عُمَيْرٌ : فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ : قَالَ مُعَاذٌ : (وَهُمْ بِالشَّامِ) .  وَفِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ : (وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ : فِي قَوْلِهِ: (لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ) يَعْنِي الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي بَعْضِ طُرُقِ مُسْلِمٍ وَهِيَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ذَكَرَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ : الْمُرَادُ بِالْغَرْبِ الدَّلْوُ ، أَيِ العَرَب لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا لَا يَسْتَقِي بِهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، لَكِنْ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ (وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ) ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَرْبِ الشَّام لأنه غرْبِيُّ الْحجاز ... وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ (الْمَغْرِبُ) و يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْغَرْبِ أَهْلُ الْقُوَّةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْجِهَادِ ، يُقَالُ فِي لِسَانِهِ غَرْبٌ أَيْ حِدَّةٌ ، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ .   

     ولِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ النَّهْدِيِّ نَحْوُهُ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ : (يُقَاتِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا،وَعَلَى أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .  قُلْتُ : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَوْمٌ يَكُونُونَ على أبواب دمشق و أبواب بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وكلاهما بالشام وَيَسْقُونَ بِالدَّلْوِ وَتَكُونُ لَهُمْ قُوَّةٌ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَحِدَّةٌ  .

     تَنْبِيهٌ : اتَّفَقَ الشُّرَّاحُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : (عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ) أَنَّ الْمُرَادَ عُلُوُّهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْغَلَبَةِ ...  

     قَالَ النَّوَوِيُّ : ... يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ جَمَاعَةً مُتَعَدِّدَةً مِنْ أَنْوَاعِ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَيْنَ شُجَاعٍ وَبَصِيرٍ بِالْحَرْبِ ، وَفَقِيهٍ وَمُحَدِّثٍ وَمُفَسِّرٍ ، وَقَائِمٍ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَزَاهِدٍ وَعَابِدٍ  و يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي قُطْرٍ وَاحِدٍ أو فِي بَعْضٍ مِنْهُ دُونَ بَعْضٍ ، وَافْتِرَاقُهُمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ ، وَيَجُوزُ إِخْلَاءُ الْأَرْضِ كُلِّهَا مِنْ بَعْضِهِمْ أَوَّلًا فَأَوَّلًا، إِلَى أَنْ لَا يَبْقَى إِلَّا فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِبَلَدٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا انْقَرَضُوا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا مَعَ زِيَادَةٍ فِيهِ .

     وَنَظِيرُ ذلك حَدِيث : (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأَمَةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) ، فالْأَمْرُ فِيهِ كَمَا فِي الطَّائِفَةِ ، فَإِنَّ اجْتِمَاعَ صفَاتِ الْتَجْدِيدِلَا يَنْحَصِرُ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ ، وَلَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ ، إِلَّا أَنْ يُدَّعَى ذَلِكَ فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى بِاتِّصَافِهِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْخَيْرِ ، وَمِنْ ثَمَّ أَطْلَقَ أَحْمَدُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ فَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْقَائِمَ بِأَمْرِ الْجِهَادِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ رَأْسِ الْمِائَةِ هُوَ المُرَاد سَوَاء تَعَدَّد أم لَا .اهـ. بتصرُّف .

     يؤخَذ من الحديث :

     1- الخيرية موجودة في هذه الأمة بمظاهر مُتَعدِّدة متَجدِّدة على رأس كل مائة سنة ، لأن الله يقول : (كنتُم خير أمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس) آل عمران .

      2- من مظاهر بقاء هذه الخيرية ثلاثة عوامل: الفِقْه في الدين وإن كان العلماء يَقِلُّون في آخر الزمان ، وكذلك عطاء الله الواسع للأمة في حِيَازة النبي عليه الصلاة والسلام مفاتيح خزائن الأرض كما في المتفق عليه ، وفي دوَام طائفة ظاهرة في الأمة تكون هي الحجة مهما ازدادت الفتن.

     3- الله هو الذي يتولَّى كل ذلك ، وذلك من حِفْظِه للدين فيجب على المؤمنين تقوية علاقتهم بالله ليتشرَّف من قوَّى علاقته بالله بأن يكون منهم ، وأن الأعداء مهما تكالَبوا وتآمروا فهم مغلوبون ، قال تعالى : (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ، إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) الأنفال .

    4- ليس هذا من التَّوَاكُل وإنما من تصحيح مَسار الأسباب ..  فبدلًا من الاتِّكال على الأسباب الموهومة التي يصنعها لنا أعداؤنا كالحِوَارات والمُناوَرات الديمقراطية يجب أن نأخذ بقوّةِ العلاقة بالله وليس بقوَّةِ العلاقة بهم حتى يؤَلِّف الله بين قلوبنا (لوأنفقْتَ ما في الأرضِ جميعًا ما ألَّفْتَ بينَ قلوبِهم) الأنفال ، أما تقوية العلاقة بهم فلا تزيدنا إلا فُرْقَةً و خَبَالًا (لا يألُونكم خَبَالًا) آل عمران.

     و يجب أن نتفقَّه في الدين كما في هذا الحديث وليس في المُستوردات المنهجية ، ونحرص على الاستفادة القصوى من ثرواتنا وخزائن الأرض التي أُوتينَاها مع منْعِها عن الأعداء ما استطعنا ، لا وضْعها تحت تصرُّفهم ، وسوف يأتي مِنّا خليفةٌ يحْثُو المال حثْوًا كما في حديث مسلم .

     و يجب أن نكون من الطائفة الظاهرة التي لا يرتاح لها الأعداء بل يخالفونها ، ومع ذلك لا يستطيعون القضاء عليها ، لأنها لا يَضرُّها من خالَفَها ، كما في هذا الحديث . وعندما تَنحصِر الطائفة في الشام في آخر الزمان وهو زماننا كما يبدو ، فإن اليمن داخلةٌ لأنها مدَد للشام ، ولأن الشام واليمن يكون فيهما جنودٌ مُجَنَّدة ، كما في الأحاديث ، ولذلك نجد ظروف المسلمين واحدة في تكالُب الأعداء والمبتدعة عليهم في القتال والحصار كما في سوريّة وغزّة و دمّاج .

    5- لقد رسَم لنا ديننا الاستراتيجية الصحيحة فلا بد أن نأخذ بها لا بما يرسِمُه لنا الأعداء . قال تعالى : (وأنتم الأَعْلَون واللهُ معكُم) محمد . وقال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ، هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الجاثية .

     وفي الختام يقول سبحانه : (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©