يا أيها الناس إنما بغيُكم على أنفسكم

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 12شعبان 1434هـ الموافق 21 يونيو 2013م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/bgi.mp3

     قال تعالى : (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ، هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يونس . و قال تعالى : (وما أنتُم بِمُعجِزينَ في الأرضِ ولا في السماءِ) الشورى .

     قال ابن كثير في تفسيره :

     يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا أَذَاقَ النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ، كَالرَّخَاءِ بَعْدَ الشِّدَّةِ ، وَالْخِصْبِ بَعْدَ الْجَدْبِ، وَالْمَطَرِ بَعْدَ الْقَحْطِ وَنَحْوَ ذَلِكَ (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا) .  قَالَ مُجَاهِدٌ: اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ. كَمَا قَالَ: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) يُونُسَ .

     وقد صَلَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأصحابه الصُّبْحَ عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ - مَطَرٍ- أَصَابَهُمْ  مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ قَالَ: (هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟) قَالُوا :اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ: (قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطرنا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَب) متفق عليه .

     (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) أَيْ: أَشَدُّ اسْتِدْرَاجًا وَإِمْهَالًا حَتَّى يَظُنَّ المجرم أَنَّهُ لَيْسَ بِمُعَذَّبٍ، ثُمَّ يُؤْخَذُ عَلَى غِرَّةٍ ، وَالْكَاتِبُونَ يَكْتُبُونَ جَمِيعَ ما يفعله .

      (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أَيْ: يَحْفَظُكُمْ وَيَكْلَؤُكُمْ بِحِرَاسَتِهِ (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ (جَاءَتْهَا) أَيْ السُّفُنَ (رِيحٌ عَاصِفٌ) أَيْ: شَدِيدَةٌ (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) أَيْ: اغْتَلَمَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أَيْ: هَلَكُوا (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أَيْ: لَا صَنَمًا وَلَا وَثَنًا، بَلْ يُفْرِدُونَهُ بِالدُّعَاءِ وَالابْتِهَالِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا) الْإِسْرَاءِ ، وَقَالَ هَاهُنَا: (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ) أَيْ: هَذِهِ الْحَالُ (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أَيْ: لَا نُشْرِكُ بِكَ أَحَدًا، وَلَنُفْرِدَنَّكَ بِالْعِبَادَةِ هُنَاكَ كَمَا أَفْرَدْنَاكَ بِالدُّعَاءِ هُنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ) أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْوَرْطَةِ (إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أَيْ: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَاكَ شَيْءٌ (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) .

      ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَيْ: إِنَّمَا يَذُوقُ وَبَالَ هَذَا الْبَغْيِ أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ وَلَا تَضُرُّونَ غَيْرَكُمْ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدخِّر اللَّهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه ، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .

     و في لفظٍ عند الطبراني وقال الألباني صحيح عن أبي بكرة : (ما من ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخِره له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب ، وإن أعجل الطاعة ثوابًا لصلةُ الرحم  .. حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرةً فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصَلوا) .      

     (مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ: إِنَّمَا لَكُمْ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا الْحَقِيرَةِ (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ) أَيْ: مَصِيرُكُمْ  (فَنُنَبِّئُكُمْ) بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ، وَنُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وجد غير ذلك فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.

     قال الشوكاني في تفسيره :

     (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) ذكَر سُبْحَانَهُ إِذَا أَذَاقَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ مِنْ بَعْدِ أَنْ مَسَّتْهُمُ الضَّرَّاءُ فَعَلُوا مُقَابِلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمَكْرَ مِنْهُمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَرْزَاقِ والْمَطَرِ وَصَلَاحِ الثِّمَارِ بَعْدَ الْجَدْبِ وَضِيقِ الْمَعَايِشِ، فَمَا شَكَرُوا نِعْمَتَهُ، بَلْ أَضَافُوهَا إِلَى أَصْنَامِهِمُ وَطَعَنُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَكْرِ فِيهَا. وَإِذَا الْأُولَى: شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَابُهَا: إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ، وَهِيَ: فُجَائِيَّةٌ ، ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ.

     ثُمَّ قَالَ سبحانه قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أَيْ عُقُوبَةً، وَقَدْ دَلَّ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ عَلَى أَنَّ مَكْرَهُمْ  سَرِيع، وَ مَكْر اللَّهِ أَسْرَعُ. وَإِذَا الْفُجَائِيَّةُ: يُسْتَفَادُ مِنْهَا السرعة في الْمَكْرَ، وَتَسْمِيَةُ عُقُوبَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَكْرًا، مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ . قَرَأَ يَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: يَمْكُرُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْفَوْقِيَّةِ.. وَفِي هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ شَدِيدٌ .

     هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ضَرَبَ سُبْحَانَهُ مَثَلًا حَتَّى يَنْكَشِفَ الْمُرَادُ ، و تَسْيِيرِهِمْ فِي الْبَرِّ عَلَى أَقْدَامِهِمُ وعلى الدَّوَابِّ، وَ فِي الْبَحْرِ بالسَّفَائِنِ. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ مِنَ النَّشْرِ كَمَا فِي قوله فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ . حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ الْفُلْكُ: يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ ، وَجَرَيْنَ أَيِ: السُّفُنَ بِهِمْ ، وحتى: لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ.

      وَالْغَايَةُ: مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ بِكَمَالِهَا، فَالْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الشَّرْطِ ثَلَاثَةٌ: أَوَّلُهَا: الْكَوْنُ فِي الْفُلْكِ، وَالثَّانِي: جَرْيُهَا بِهِمْ بِالرِّيحِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَاصِفَةٍ، وَثَالِثُهَا: فَرَحُهُمْ.

     وَالْقُيُودُ الْمُعْتَبَرَةُ في الجزاء ثلاثة: الأوّل:جاءَتْها أي: جاءت الْفُلْكَ رِيحٌ عَاصِفٌ، وَالْعُصُوفُ: شِدَّةُ هُبُوبِ الرِّيحِ وَالثَّانِي: وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أَيْ: مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ لِلْفُلْكِ، وَالْمَوْجُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْمَاءِ فَوْقَ الْبَحْرِ وَالثَّالِثُ: ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أَيْ: غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمُ الْهَلَاكُ . وَجَوَابُ إِذَا فِي قَوْلِهِ إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ قَوْلُهُ جاءَتْها إِلَى آخِرِهِ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: دَعَوُا اللَّهَ بَدَلًا مِنْ ظَنُّوا، بَدَلَ اشْتِمَالٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ .

     وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ دَعَوُا: مُسْتَأْنَفَةً، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا صَنَعُوا؟ فَقِيلَ: دَعَوُا اللَّهَ، وَفِي قَوْلِهِ: وَجَرَيْنَ بِهِمْ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، جَعَلَ الْفَائِدَةَ فِيهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الْمُبَالَغَةَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: الِانْتِقَالُ مِنْ مَقَامِ الْخِطَابِ إِلَى مَقَامِ الْغَيْبَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ دَلِيلُ الْمَقْتِ، وَالتَّبْعِيدِ، كَمَا أَنَّ عَكْسَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ دَلِيلُ الرِّضَا وَالتَّقْرِيبِ.

     وَانْتِصَابُ مُخْلِصِينَ عَلَى الْحَالِ أَيْ: لَمْ يَشُوبُوا دُعَاءَهُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَائِبِ، كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ أنهم يشركون أَصْنَامَهُمْ فِي الدُّعَاءِ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِمْ سِوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ فِي الشَّدَائِدِ .

     فَيَا عَجَبًا! لِمَا حَدَثَ مِنْ طَوَائِفَ إذا عَرَضَتْ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ دَعَوُا الْأَمْوَاتَ كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُخْلِصُوا الدُّعَاءَ لِلَّهِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .

     لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ اللَّامُ مُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وَاللَّامُ فِي لَنَكُونَنَّ جَوَابُ الْقِسْمِ .  وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مَفْعُولُ دَعَوُا ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ اللَّهُ وأجاب دعاءهم فَعَلُوا فِعْلَ الْجَاحِدِينَ وَجَعَلُوا الْبَغْيَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ مَكَانَ الشُّكْرِ. وَإِذَا هي: الفجائية أي: فاجَؤُوا الْبَغْيَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ .

      وَالْبَغْيُ: هُوَ الْفَسَادُ، مِنْ قَوْلِهِمْ بَغَى الْجُرْحُ: إِذَا تَرَامَى فِي الْفَسَادِ، وَزِيَادَةُ: فِي الْأَرْضِ ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ فَسَادَهُمْ هَذَا شَامِلٌ لِأَقْطَارِ الْأَرْضِ ، و زِيَادَةُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِغَيْرِ شُبْهَةِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِشُبْهَةٍ مَعَ كَوْنِهَا بَاطِلَةً.

     قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، ذَكَرَ عَاقِبَةَ الْبَغْيِ، وَسُوءَ مَغَبَّتِهِ. قَرَأَ حَفْصٌ بِنَصْبِ مَتَاعَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ. فيكون بغيكم: مبتدأ، وعلى أَنْفُسِكُمْ: خَبَرَهُ ، وَيَكُونُ: مَتَاعَ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكَّدِ ، كَأَنَّهُ قِيلَ: تَتَمَتَّعُونَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مَعَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ: اسْتِئْنَافًا ، وَقِيلَ: إِنَّ مَتَاعَ: ظَرْفُ زَمَانٍ، أَيْ: زَمَنَ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ لَهُ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: كَمَتَاعِ ، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ، عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ، أَيْ: مُمَتَّعِينَ.

     وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: بِرَفْعِ مَتَاعُ، فَجَعَلَهُ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: بَغْيُكُمْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَكُونُ: عَلَى أَنْفُسِكُمْ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ، وَقِيلَ: ارْتِفَاعُ مَتَاعٍ: عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ ثَانٍ وَقِيلَ:عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُوَ مَتَاعٌ.

     قَالَ النَّحَّاسُ: عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ يَكُونُ بَغْيُكُمْ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ: مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَعَلَى أَنْفُسِكُمْ: مَفْعُولُ الْبَغْيِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ: عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَيُضْمَرُ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَوْ هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. انْتَهَى.    

     وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ إِذَا جُعِلَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَالْمَعْنَى، أَنَّ مَا يَقَعُ مِنَ الْبَغْيِ عَلَى الْغَيْرِ هُوَ بَغْيٌ عَلَى نفس الباغي باعتبار ما يؤول إِلَيْهِ الْأَمْرُ مِنَ الانْتِقَامِ مِنْهُ مُجَازَاةً عَلَى بَغْيِهِ، وَإِنْ جُعِلَ الْخَبَرُ: مَتَاعُ، فَالْمُرَادُ أَنَّ بَغْيَ هَذَا الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ عَلَى بَعْضِهِ بَعْضًا هُوَ سَرِيعُ الزَّوَالِ قَرِيبُ الِاضْمِحْلَالِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَكُونُ عَلَى ذَلِكَ الْبَغْيِ مِنَ الْمُجَازَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ وَعِيدٍ شَدِيدٍ فَقَالَ:

ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْرِ ، فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا، كَمَا تَقُولُ: سَأُخْبِرُكَ بِمَا صَنَعْتَ، وَفِيهِ أَشَدُّ وَعِيدٍ، وَأَفْظَعُ تَهْدِيدٍ.

      وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وابن أبي حاتم، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قَالَ: اسْتِهْزَاءٌ وَتَكْذِيبٌ.

      وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ قَالَ: هَلَكُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وقال الألباني صحيح عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَهْدَرَ يَوْمَ الْفَتْحِ دَمَ جَمَاعَةٍ، مِنْهُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، هَرَبَ مِنْ مَكَّةَ وَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَهُمْ عَاصِفٌ، فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ لَمْ يُنْجِنِي فِي الْبَحْرِ إلا الْإِخْلَاصُ مَا يُنْجِينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِيَ فِي يَدِهِ فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، فَجَاءَ فَأَسْلَمَ .     

     وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ، وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ هُنَّ رَوَاجِعُ عَلَى أَهْلِهَا: الْمَكْرُ، وَالنَّكْثُ، وَالْبَغْيُ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) يونس ، (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) فاطر ، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) الفتح .   وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ: الْمَكْرُ، وَالْبَغْيُ، وَالنَّكْثُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) .

     وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ووافقه الذهبي ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَبْغِ وَلَا تَكُنْ بَاغِيًا ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) .

     أَقُولُ أَنَا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ الَّتِي دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهَا تَعُودُ عَلَى فَاعِلِهَا: الْخَدْعُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) البقرة . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَدُكَّ الْبَاغِي مِنْهُمَا» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عمر مثله. اهـ . بتصرُّف .

      ممَّا يُسْتَفاد من الآيات في هذه الفترة:

      هنالك من الدّعاة والعلماء وطلاب العلم الشرعي من يعرفون الحق والمنهج الصحيح ، ولكنهم في مرحلة من المراحل قد يتنكّرون لهذا الحق من أجل الظهور والوجاهة ، فيخلِطون به الديمقراطية و مفرداتها من مساواة المرأة بالرجل ، وينسبون النِّعَم لِيَقَظَة الشعوب ، وينسبونها للعلم ، و يَفتخرون بالدولة المدنية ... إلخ . الأسماء والشعارات الفارغة من المضمون ، وهذا يجعل الأوضاع تدخُل في الدّوّامة ، و الجواب : (ياأيها الناسُ إنَّما بغْيُكم على أنفُسِكم)  .

     و العوامّ من السياسيين قد يكونون معذورين ، و الجهَلة كذلك .. أما الدعاة والعلماء وطلاب العلم الشرعي فالحجة عليهم قائمة ..  وفي الختام يقول سبحانه : (ولا يَحِيقُ المكْرُ السَّيِّئُ إلا بأهلِهِ) فاطر .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©