بسم الله الرحمن الرحيم

 

                                

 مجلة النور (اليمنية) في 17رمضان 1429هـ 17 سبتمبر2008م


     س1: انتشرت في الفترة الأخيرة الفتوى على القنوات الفضائية، وعلى شبكات الإنترنت.. باعتباركم واحدا من العلماء الذين يمتلكون موقعا إلكترونيا للإفتاء وغيره.. ما هي في رأيكم الضوابط الشرعية التي تحكم الفتوى في هذه المواقع وتلك القنوات؟

    ج1: الفتوى بيان للحكم الشرعي في قضية من القضايا ،  وتحتاج إلى تخصُّص  ، وكما أنه لا يفتي في أيّ تخصُّصٍ في الطب ، أوتخصُّصٍ في الكمبيوتر ، أو تخصّصٍ في البناء، أو غير ذلك  ، إلا مــن تخصَّـــص وأجازه  أساتـذة ذلك الفن المتخصصون المجازون من أساتذتهم  ، فكذلك لا يفتي في القضايا الشرعية إلا من درَسها وتخصص فيها وأجازه مشايخه المتخصصون في العلم الشرعي المجازون من مشايخهم ، أوحصل على تسليمهم له بالعلم والفتوى والقبول القائم مقام ذلك  ، وهم لا يجيزون ولا يُسلِّمون إلا لمن توفرت له الشروط المذكورة للمفتي في كتب أصول الفقه .

    و شروط العالم الشرعي كما جاء ت في كتاب (أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح :  التكليف، والإسلام، والعدالة (التزكية) ، والمعرفة بالعقيدة والفقه والأحكام وأدلة  ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، والمعرفة باللغة والأصول والناسخ والمنسوخ ، والمعرفة بأمهات المسائل وتفاريعها المفروغ منها، وما اتفق فيه العلماء وما اختلفوا،  بشرط أن يجيزه عـالم أو أكثر .(بتصرُّف)

      و المفكرون ليسوا علماء، لأنهم لم يتوفر فيهم التخصص المطلوب ، وليسوا مُجازين ، وإنما هم مثقفون .. و كما في كل فن فإنه لا بد من تخصص  وإجــازة ولا تكفي الثقافة ، ولا يسلِّم الناس أجسامهم مثلًا لمثقَّف في الطب (مُفَكِّر) ليقـوم بإجراء عمليات فيها ..!  

     والتخصص  والإجازة  يتبعَّضان  فيمكن التخصّـص  مثـلا فـي العقيـدة فـقـط أو في العبـادات أو في المعاملات ، أو في مسـائل من ذلك كما قال العلماء، والحصول على الإجـازة  للإفتاء في أيٍّ من ذلك .  . 

     و ليس غير العدول علماء ، فعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحمل هذا العلم من كل خلَفٍ عُدولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " . رواه البيهقي ورواه الطبراني في مسند الشاميين عن أبي هريرة ، وذكر الألباني في (المشكاة) أنه صحيح .

     والعدالة كما في (المختصر في أصول الفقه)  للبعلي : محافَظة دينية تحمـل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة (كالاعتزال والرفض)،وتتحقق باجتنــــاب الكبائر ،   وتـرك الإصـرار على الصغائـر (كحلق اللحية و دُون ذلك تقصيرها دون القبضة) ،  و ترْك بعض المباح (كالإفراط في المزْح) .      

     قال في(المدخل) لابن بـدران : وتحصــل بأداء الواجبات واجتناب المحظورات ولواحقها، وتعرف عدالة الشخص بأمور أحدُها: المعاملة والمخالطة المُطْلِعة في العادة على خبايا النفوس ودسائسها.   الثاني :التزكية وهي ثناء من تثبتت عدالته عليه وشهادته له بالعدالة.    الثالـــث :السمعة الجميلة المتواترة أو المستفيضة وبمثلها عُرفتْ عدالة كثير من أئمة السلف .

     وفي (مقدمة مسلم) حدثنا حسن  بن الربيع حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد حدثنا فضيل عن هشام   قال وحدثنا مخلد بن  حسين عن هشام عن محمد بن سيرين قال : إن هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم .

      والعصبية تجْرَح العدالة إذا صارت سلوكًا لأنها جاهلية ،ومنها العصبية لمِذهب أو لِجماعة أولِقبيلة أولِشَعْب ( ما بال دعوى الجاهلية ؟ ... دعوها فإنها منتنة) متفق عليه .

     ولا شك أن سكوت كبار العلماء  في أي بلد في ظروف غير استثنائية على أي شخص يفتي في المساجد ودور العلم و القنوات والمواقع والمحافل  ونحوها دون إنكارعليه .. لاشك  أن ذلك إقرار له بالعدالة والأهلية .

     والحريص على دنياه يحرص على حسن اختيار الطبيب والمهندس والسلعة  إلخ ... ويجتهد في العمل بأقوال الخبراء الثقات ، ولا يَغْترّ ولا يتشوَّش بالزيف وكثرة المعروض .. فكذلك الحريص على دينه يجتهد  بالأَولى في اختيار العالم العدْل الورِع المشهود له من العلماء العدول الورِعين ، لكي يستفتيه ويأخــــذ عنه ، ولا يغْتَرّ ولا يتشوّش بكثرة المعروض .

                                                                                                     
س2: يمتلك اليمن ثروة كبيرة من العلماء، فما هي الأسباب التي حالت دون قيام مجمع فقهي حتى اليوم؟ وهل يمكننا القول إن الفتاوى الجماعية التي تصدر بتوقيع عدد من العلماء أحيانا تغطي هذا الجانب؟

     ج2: المجمع الفقهي مرجعية قوية ،ذات ثِقَل كبير وتحتاج إلى بيئة تتحمّلها وتتحمّل تبِعاتِ إنشائها ، كسُلْطة أو جماعة أو مؤسسـة .. ويكـون  عندهـا ما يكــفي من القوّة و الاستقرار والرشْد والمصداقية و الشفـافية ، والاستعداد للتجاوب مع قرارات المجمع وعدم التدخل في خصوصياته إلخ ...

      وإلى أن يوجد ذلك فإن العلماء الغيورين كما ذكرتَ في السؤال يكتفون في القضايا العامة الملحّة بإصدار فتاواهم أوبياناتهم مذيّلة بتوقيعاتهم .

                                                                    

     س3: كيف تقرؤون واقع العمل الدعوي في اليمن اليوم؟

      ج3: العمل الدعوي في اليمن وفي غيره في الجملة في عافيــة وخير إلى حـد كبير، والتقدُّم ملموس .. و العبرة  با لبدايات و بالمآلات ،  فأمتنا خير أمــــــــــة أخـرجت للناس ، والخيرية ثابتة لها على تعاقب الأزمان ، و فد تكفَّل الله بحفــظ الدين عمومًا ، ووردتْ  نصوص تدل على شيء من  الخصوصيــة والتميُّز للحجـاز وللشام ولليمن  وغيرها من البلاد في هذا الحفظ..  وإن كانت هنالك ابتلاءات كبيرة ، نشعـــر معها بكثير من المنغِّصــات التي قد توصلنا إلى ما يشبه الإحباطات في كثير من المجــالات  ، إلا أن هذه هي طبيعة الدنيا التي خلقهـا الله عليها .. لا بد فيها من المكابَدَة والكدْح ، ولا يمكن أن تكون جَنّة ، لأن الجنة في الآخرة،  قال تعالى :(حتى إذا اسْتَيْأَسَ الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبُوا جاءهم نصرنا) يوسف . والأمة الإسلامية كما قالوا: تمرض ولا تموت .

      ومن السلبيات الكبيرة التي نعاني منها غياب التنسيق والتعاون المطلوب بين العاملين في الدعوة إلى الله من العلماء والدعاة ، وانتشار المنكرات ..

                                                                           
     س4: ماهي الضمانات الشرعية التي تجعل المسلم اليوم يتحاشى أضرار العولمة والغزو الفكري ويسهم فيها بشكل إيجابي؟

     ج4:هذا التحاشي ونحوه هو مهمة الدولة في الإسلام في الأصـل  ، لأنها تقوم على حراسة الدين وسياسة الدنيا به قال تعالى: (الذين إن مكّنّاهـم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولِلّه عاقبة الأمور) الحج. وإذا لم توجد الدولة أولم تقم بذلك انتقــل الواجب إلى الأفراد ، ويلزمهم التعــاون في ذلك قال تعالى ) :والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ، أولئك سيرحمهم الله) التوبة .

     ولوجوب هذا التعاون بين الأفـراد فقد كان من أثره قيام الجماعات الإسلامية ، التي من منجزاتها في مواجهة العولمة والغــزو الفكري:  العمل على إحياء رسالة المسجد وتوجيه الناس منه ، والعمل على نشر العلـم الشرعي وإقامة مؤسساته ، و العمل على إقامة المؤسسات الإعلامية الإسلامية بما في ذلك القنوات والمواقع والصحف والمجلات ودور النشــر ،و العمل على تربية النشء والشبـاب ، و العمل على مناصحة الحكام ... وقد كان لهذا وغيره دور كبير في الوقاية  من مخاطر الغزو والحدِّ من آثاره ، بل و في دعوة غير المسلمين وإيصال الهدى الرباني إليهم وإقامة الحجة عليهم ، وهذه سـنة الله.. ولا يمكن أن يستحوذ الباطل قال تعالى : (ليظهره على الدين كله) الصف . وقال تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) وقال تعالى: (وممَّن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدِلون) الأعراف.

      ويبقى واجب الأفراد قائما أيضا يمارسه كل واحد منهم في  ولايته في أسرته وفي عمله وفي منصبه وفي مجالات قدرته على التأثير بذْلًا وعملًا و دعوة وتربية وتحذيرًا  ونصيحة ...

      والمسلمون على مدار التاريخ هم الذين يمارسون العولمة بحق ، لأنهم ينشرون الدين العالمي الحق ، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء . وهذا الدين  ينتشر بقوته الذاتية حتى في حال ضعف بعض المسلمين ، وقد نشر اليمنيون الإسلام في بعض الوقت في بعض البلاد  وهم مجرَّد تجَّار ، كما فعلوا في جنوب شرق آسيا  !  وينتمي إلى تلك المنطقة أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان وهو إندونيسيا .

                                                                     

      س5: من الملحوظ  أنَّ  المجتمعات الإسلامية اليوم تعاني من أمية فقهية كبيرة.. ما السبيل إلى تلافي هذه الأمية من وجهة نظركم؟

     ج5: السبيل هونشر التعليم بإقامة المؤسسات التعليمية الشرعية ابتداءً بتعليم القراءة والكتابة وانتهاءً بالجامعات . وقد يقال إن هذا يحتــاج إلى تكاليف .. والحقيقة أن هذه التكاليف يمكن توفيرها إذا اقتنع الناس، لأن قدْرًا من التعليم الشرعي من ضروريات الحياة، وما زاد على ذلك فهو ضروري على الكفاية ..  وبدون العلم الشرعي يعيش الناس كا لحيوانات !  وكما يحرص الناس على تـوفير ما يُطعِمون به بطـونهم ، لابد أن يحرصوا على توفير ما يطعـمون به أرواحهم وعقولهم .. وفي بلدنا ينفق الناس مثلا ومنهم متديِّنون ، مبالغ هائلة  على القات  ـ وهو ضرر معلوم ـ لوأنفقوا بعضها على التعليم لكانت كافية وزيادة ..

      وعندنا البديل الشرعي التاريخي سواء اقتنع الناس بأن يدفعوا أولم يقتنعوا .. ألا وهو المسجد الموجود  في كل حيّ ، الذي يمكن إقامة الحلقات التعليمية فيه لكافة المستويات  وكافة المراحل ومحو الأمية الدينية وغيرها بشكل عام .. وهـو الأسلوب المبارك في التعليم الذي مضت عليه الأمة عبْر القرون من عهد النبوّة وإلى اليوم ، وتخرّج به علماؤها الكبار السابقون في كافة الفنون والتخصُّصات .                               

                                                                     
     س6: أنت من المنادين بتوحيد العمل الإسلامي.. من وجهة نظرك كيف يتم توحيد العمل الإسلامي بين السنة والشيعة باعتبارهما أبرز الطوائف الإسلامية؟

     ج6:المصدران الرئيسان للإسلام هما القرآن والسنة ،  ولا يمكن فهْم القرآن ولا فهم الإسلام بدون السنة ،  قال تعالى: (وأنزل الله عليك الكتاب  والحكمة ـ أي السنة ـ )النساء . وقال تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر ـ أي القرآن ـ  لتبين للناس ـ أي بالسنة ـ ما نُزِّل إليهم) النحل .  وتفاصيل التشريع كما في الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد والمعاملات وسائر الأحكام إنما هي في السنة .. قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الحشر . وقال تعالى : (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)الأحزاب.

     والشيعة الذين يعترفون بالسنة التي رواها الصحابة ، والتي هي مدونـة في الكتب المعروفة عند الأغلبية الساحقة من المسلمين  ، والذين يعتبرون جمـاعة المسلمين ، ومن أجـل ذلك يُطلق على هـذه الأغلبية أهل السنة والجماعة .. هـؤلاء الفئة من الشيعة  يمكن الاتفاق معـهم ، بسبب الاتفاق على مرجعية المصدرين الرئيسين (القرآن والسنة) ، وهؤلاء في الحقيقــة  قلة في الشيعة ، ولا إشكال معهم ..

      ولكن الشيعة الذين يرفضون السـنة ويرفضـون رواتها وفي مقدمتهم الصحابة .. ذلك الجيل الذي مدحه القــرآن في آيات كثيرة ، لأنه مثَّل النموذج التطبيقي للإسلام تحت إشراف النبي صلى الله عليه وسلم ، وأوجَب القرآن الاقتداء به على توالي القرون ، ومدَح المقتدين ووعَدهم الجنة فقال سبحانه : (والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم)التوبة ... هؤلاء الشيعة الروافض الذين يختلفون مع السنة ومع القرآن ومع الصحابة .. كيف يمكن اللقاء معهم؟ وإنْ قالوا هـم من باب السياسة والإعــلام والتقية إن ذلك ممـكن ، لكن الواقع يشير إلى أنهم غير مستعـدين  للتراجع عن عقيدتهم المذكورة .. و أفعـالهم في العراق وأفغانستان والخليج وغيرها دليل على ذلك ..  ونتمنَّى عليهم أن يَتَفَهَّموا وأن يتراجعوا ، وأن يغادروا عُزْلة الأقليات ، وأن يلتحـقوا بمُعظَم المسلمين، أمة المليار و زيادة ، أهل السنة والجماعة  ، الذين  فتحوا الأرض ونشروا الدين ، وحرَسوا خلافة الإسلام على مدى القرون ، وأقاموا في الجمـلة أرقى الحضارات ..  و التحاقهم من أعظم مانفرح به وندعوهم إليه !

                                                                                      

      س7: يعتبر الخلاف في المسائل الفقهية عامل مرونة في الشريعة الإسلامية.. فمتى يتجاوز هذا الخلاف خطوطه الحمراء، ويصبح عامل تشرذم وتفرق؟

     ج7:تتجاوزالاجتهادات الفقهيةالخطوط الحمراء عنـدما تدخـل معهاشوائب الأهواء والعصبيات ، وأما مع تغليب جانب الموضوعية و الأُخوَّة واستشعار أن المسلمــين جسـد واحد فإن التنوُّع في الاجتهادات لا يفسد للودّ قضية  ،  بل هو ثراءٌ وسَعـَـةٌ في الفقه الإسلامي، وقد كانت للصحابة اجتهاداتهم المتنوعة ، وكانوا على قلب رجل واحد ،   قــال الشوكاني  عند الكلام على غزوة بني النضير في تفسير قوله تعالى : (ما قطعتـــم من لينة ـ أي نخلة ـ أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله) الحشر. قال مجاهد : إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل فنهاهم بعضهم وقالوا : إنما هي مغانم للمسلمين ، وقال الذين قطعوا : بل هو غيظٌ للعدو.. فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطْع النخل وتحليل من قطَعه من الإثم  .........وقال محمد بن إسحاق : إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة ، فقال بنو النضير وهم أهـل كتاب : يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح أفمن الصلاح قطْـع النخل وحرْق الشجر ؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد المسلمون في أنفسهم فنزلت الآية .. ومعنى الآيـة : أي شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله  ......... (وليُخزي الفاسقين) أي ليُـذل الخارجين عن الطاعة وهم اليهود ويغيظهم في قطعها وتركها ، لأنهـم إذا رأوا المؤمنين يتحكَّمون في أموالهم كيف شاءوا من القطع والـترك ازدادوا غيظا  .....وقد استُدِل بهذه الآية على جواز الاجتهـاد وعلى تصويب المجتهدين ، والبحث مستوفى في كتب الأصول .اهـ كلام الشوكاني (بتصرف).

     ومثل ذلك قصة صلاة العصر في بني قريظة كما في المتفق عليه ، وغير ذلك كثير .

      وقد بيَّن الله سبحانه أن أهل الكتاب  اختلفوا وليس الاختـلاف بسبب العلم ، فالعلم الشرعي يجمع ولا يفرّق .. وتنوُّع الاجتهادات ثروة كما سبق ، وإنما اختلفوا بسبب البغي .. و من أنواع البغي ظهور الأهواء والعصبيات ،  واصطناع التفرُّق لإيجاد مجالٍ لصُنع الزعامات ، قال تعالى : (وماتفرّقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) الشورى . و التشبُّه بأهل الكتاب كائنٌ في الأمة ، وقد حـذّرنا الله أن نكون من المتشبّهين ، قال تعالى : (ولا تكونوا  كالذين تفرقــوا واختلفـوا من بعد ما جاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم) آل عمران .     

     والعلماء المجتهدون مرجعية للأمة كلها وموضع احترامها وفخْرها ، وليسوا للأتباع المتمذهبين  فقط ، تمامًا كما كان المجتهدون عند السلف محل احترام عند جميع السلف ثم عند جميع الأمة .  

                                                                      
     س8: يرى كثير من العلماء ـ وأنتم منهم ـ أن التعليم في العالم الإسلامي كله يعاني من أزمة كبيرة.. في رأيكم ما أسباب هذه الأزمـة؟ وما أبرز مظاهرهـــا؟ وإلى أين تفضي، وما المخرج منها؟

     ج8: المسلمون أصحاب حضارة عظيمة متميّزة لا مثيل لها يعترف بهـا الغرب نفسه ، ولا شك أن أساسها هو العلم المتميز  .   وسبب أزمة العلم عنــدنا اليوم أنه فقد تميُّزه بسبب الاستيراد من غيرنا ، و بسبب التخليط الذي  فرضـه علينا المنهزمون.. وأبرز مظاهر هذه الأزمة اختلال التعليم اليوم في موضوعاته ومناهجه وأهدافه ولغته ، وأساليب التربية فيه ،  ومواصفات أساتذته  وتوصيف المستهدَفين والمستهدفات وتكييف المُدخَلات والمُخرَجات وخلْط الطـلاب والطالبات ، وتحديد الأوقات والعطلات إلخ ... وهذه المظاهر والوقائع تُفْضِي إلى الاغتراب ، وتخريج أجيال منفصلة عن أمتها وعن هدف هذه الأمة في الحياة  ، وتصبح عبءًا ووباءً  ووبالًا ونكالًا على الأمة وذراعًا طويلة لغيرنا في أعماقنا تنفذ مخططاتهم غالبًا إلا من عصم الله.

     والمَخْرج من أزمة التعليم هو التحرُّر من عبودية الاستـــــــيراد ، والعودة إلى الأصالة التي تميَّزنا بها قرونًا متطاولة في موضوعات التعليم ومناهجه ووسائله ولغته وأهدافه وطلابه وأساتذته وأوقاته ، مع مواكبة الجديد من العلوم والمخترعات .

     وهذا المخرج قريب المنال لو صـدقت العـــزيمة ، ووُجِــدت الشجاعة ، وقد وُجِدتْ له أمثال  .. والمرشح للأخذ به  هم المتديِّنون الذين ملَكـوا أمرهم  فأسّسوا مؤسسات تعليمية أهلية ، وبقي عليهم أن يستكملوا تحرير هذه المؤسسات من شوائب الاستيراد  ولوْثات الجاهلية ، والخروج من جحر الضب الذي أَولَـــج بعضهم فيه بقايا من مركّب النقص السائد ، فأبقَوا مثلا على بعض المناهج السلبية بحجة التمويه ، وحافظوا على الضياع المسمى العطلة الصيفية بحجة الترفيه على المدرسين والطلاب ، واعتمدوا الرطانة باللغة  الأجنبية لغةً للتعليم  بدلا عن لغة القرآن  بحجة جـذْب أولاد الذوات  !  ونسوا في غمرة الضغـوط اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحـاب الجحيم .. وربما غلَبتهم القيود ( القوانين)  التي حرَس بها الغـزاة وأذيالهم  جراحات الانهزام في ديار الإسلام !

      ومهما بلغت قيود الغزاة من الصرامة فإن بالإمكان التحرُّر منها  في أكثر البقاع تحرُّرًا في الأرض وهي المساجد ، بإحياء حلقات العلم المباركة المتنوعة فيها ، والاستغناء عن كثير من التكاليف والنفقات ، والحصول على البركة الملموســــــة في هذه البقاع ، و تحقيق المخرج النموذجي كما سبق   .     

                                                                   
     س9: باعتبارك محاضرا في إحدى الجامعات اليمنية.. ما تعليقك على اقتصار دور الأستاذ الجامعي على محاضرات الجامعة؟ وما الأسباب التي تجعله ينحو هذا المنحى؟

     ج9:لا ينبغي للمحاضر الجامعي  إذا كان يحمل همّ الحفاظ على هويَّة الأمة أن  يفرح بالألقاب المخدِّرة التي توهمه بأن الاعتزال في البرج العاجي فضيـلة ، بل عليه أن ينزل إلى الواقع و يكون كالنـذير العريان ، يغشى الناس في كل مكان للدعوة والتعليم والبيان ، ولا يحـرم نفسه و لا الناس من بركات اللقاءات والنشاطات في المساجد  التي أذن الله لها وحدها أن تُرفع ، وجعلها أماكن مـثالية لاتصال الخلْق به واتصال الخـــــلْق بعضهم ببعض . و لا يحرم نفسه كذلك من ساحات المجتمع الأخرى  ، ومحافل التأثير ووسائل التوجيه والتغيير .

      وأبرز أسباب تفضيل مَنْحَى العزلة  هي الألقاب المخدِّرة ـ كما سبـــق ـ  والقيود الناعمة ، والأعراف الحريرية الزائفة ، التي زيّنها الغزاة وأذيالهم من أجل منْـع عُقــلاء المؤثرين القادرين على التوجيه من الخُلْطة بغيرهم ..  حتى صار المدرسون الجامعيون يلفُّونها على أعناقهم ، ويهـملون مبدأ الإرشـاد وتعميم التعليم  فيختنقون بها ويخنُقـون معهم نشر المبادئ ..و  ينتشر المـوت (الناعم!)  ..تمامًا كما يفعلون عندما يقلدون في لفِّ ربطـة العنق على العنق بكل سرور ، مع أنها قد تسبِّب الاختناق  !

     والقريبون  من العمل الدعوي  والممارسون بفضل الله له  متحرِّرون من هذا السجن ومن هذا الموت ،  وكثير منهم داعية وموجِّهٌ وإمام مسجد .

                                                                      
س10: أنت ممن تتلمذ على كثير من الحلقات العلمــــــية.. في رأيك ما هي المضار الكبرى التي ترتبت على غياب هذه الحلقات؟ وهل تقوم المؤسسات العلمية اليوم بدور تعويضي عنها؟

     ج10: كما سبق فإنه ترتَّب على ذلك شيوع الأمية الفقهية والأمية الحضارية عند كثير من المسلمين و وُصِم المسلمون بالتبعية والتخلّفُ .. وراجتْ أسواق الاستيراد التي تنشر جهالات واختـلالات وضلالات المغضوب عليهم والضـــالين ، وتزعُـــــم  جهالاتها علمًا واختلالاتها اتّزانًا  وضلالاتها هداية .. والمؤسسات العلمية الشرعية تقـوم بدور كبير  في نشر العلـم الشرعي ، ولكن بعض التحكُّمات الرسمية تشكِّل لها إعاقات ، وتفرض عليها تخليطـات باسم التنظيم والتطوير.. والمساجد التي تقوم برسالتها  ـ  ومن ضمن رسالتهــا النشاط التعليمي  ـ  أكثرتحرُّرًا وبركة كما سبق  . ولا بد من جهـود حثيثة لإحياء حلقات المساجد وتعميمها  من جديد  .     والجماعـات الإسلامية القائمة على كثير من المساجد ـ بما عنـدها من كفاءاتٍ علمية وشباب وطـلاب ، وقــدرةٍ على الترتيب والتنظيم وثقةٍ من الناس بها ـ  أقْدَرُ على تنفيذ ذلك  إذا عزمتْ .

                                                                    

     س11: رغم قتامة الواقع وشراسة الهجمة التي يتعرض الإسلام إلا أنّ علماءنا الأجلاء يتحدثون عن مبشرات واعدة بالخير.. ترى ما أبرز هذه المؤشرات؟

     ج11: واقع الحياة هو الابتلاء دومًا ، ولا يمكن أن تكون الدنيا جــنة كما ذُكر من قبل ، و يتميَّز العصر الذي نعيشه بشدة الابتلاء وكثرة الفتن ، لأننا  في فترة آخر الزمان.. في زمان شيخوخة الزمان  !     ولا بد من الصــــبر على مشـاكل الشيخوخة ،والعمل على الأخذ بأسباب  التخفيف منها ، وقد ذكَرتْ ذلك النصوص ،  حتى لاتكون الأحداث مفاجئة ،  وفصَّلتْ  وأوضحت كيفية التعامل مع تلك الأحداث .. وجاءت في تلك النصوص مبشرات كثيرة بعـودة انتشار الإسلام وشموله  للأرض كلها ، وعودة الخلافة الإسلامية الراشدة  .      وهذه العودة وإن كانت في زمان الشيخوخة إلا أنها ـ كما تدل النصوص ـ الإفَاقَـةُ المريحة التي تسبق القيامة .

       والصحوة  الشاملة اليوم من بشائر هذه العودة  و كذلك تَعَمْلُـق الحركات والمؤسسات  الإسلامية ، والانتشار الذاتي للإسلام في ديار الكفـر ، وانتشار ظاهرة الأسْلَمة في كافة المجالات ، وطرح الحل الإسلامي بقوة  في سائر ديار المسلمين  وكذلك انتصارات المجاهدين ، ومن أبرز مظاهرها سقوط الاتحاد السوفيتي ، والسقوط المتوقع لأمريكا ، وتقدُّم المجاهـدين واستعصـاؤهم في فلسطين  وفي أفغانستان وفي الصومال وفي العراق إلخ ...

                                                                      
س12: كيف تنظرون إلى واقع الحوار بين الإسلام والمسيحية؟ وما هي في رأيكم الضمانات التي تجعل هذا الحوار أكثر فائدة؟                                                             

     ج12: لا أرى له كبير فائدة لأنه رسمي  و الذين يديرونه من جـانب المسلمين ليسوا محل خبرة ولا ثقة كافية في نظر كثير من علماء المسلمين ، ويرون أن السياسة الغربية هي التي تديره غالبا ، وهو جزء من برنامجها ضد المسلمين .

      والحوار الحقيقي هو الذي يدور بعيدا عن الأضواء من الجنود المجهولين    في ديار الغرب ، و هم الدعاة الذين يستفيدون بجـدارة من القوة الذاتية للإســلام ويُسلِم على أيديهم الآلاف ثم الملايين باطّراد  .

                                                                                  
س13: حملات الإساءات التي تتوالى على المقدسات الإسلامية.. هل تلا هذه الحملات عمل إسلامي منظّم لتحاشي مثل هذه الإساءات أم أنَّ المسألة غلب عليها الطابع الانفعالي الآني؟

     ج13: المغضوب عليهم والضالون مغتاظون جدا من انتشار الإسلام في بلدانهم ، وبسبب أنهم لم يجدوا وسيلة لمنع ذلك ، فقد لجأوا  لأسلوبِ العاجـز وللكيد الحقير ، وهو ممارسة الإساءة المساوية  لمعنى السبّ  كما قال القائل : (أوسعْتهم سبًّا وأودَوا بالإبِل) لغرض تحصيل قدْرٍ من التشويه أمام الرأي العام عندهم ، وأيضا لغرض التشفِّي والانتقام .. وهذا أسلوب المقهور دوما ..  وبعض الحيوانات عندما يستحكم عليها الحصار تُصدِر رائحة كريهة  .

     والشعوب الإسلامية قد عبَّرت عما تكنُّه لنبيّها صلى الله عليه وسلم من الإيمان والمحبة والإجلال والتعظيم بالوسائل العديدة المتاحة لها في طول العالم الإسلامي وعرضه ، والعلماء أصدروا فتاواهم بالواجب وتجاوبت الشعوب إلى حد كبير ..        

      وبقيت مسؤولية الحكام في ذلك با تخاذ الإجراءات العملية للمنع المباشر من تكرار الإساءة .  و لكن هؤلاء لا يتوقَّع منهم شيء  في الظروف الراهنة بسبب الارتهان و بسبب ضعف التدين أو انعدامه .

     وكم أساء المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ فكل إناء بالذي فيه ينضح ـ ولم يكن ليؤثر ذلك في انتشار الإسلام ، بل زاد من حماس المسلمين ووسّع دائرة الانتشار ، وعندما كانت تتاح الفرصة والقدرة للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين لإنزال العقوبة العادلة بالمسيئين مع تحاشي السـلبيات ، لم يكونوا يقصِّرون في ذلك  .. ولم يكن الردّ على إساءات  الذين لا خلاق لهم يشغل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين  عن مشروعاتهم وبرامجهم الأخرى ، فكل قضية لها أهميتها ، ولايشغلهم الاهتمام بها عن الاهتمام بالقضايا الأخرى .



 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©