مقابلة مع مجلة البيان

 

ما هو مستقبل التعاون والتنسيق بين الحركات الإسلامية في الأفكار أو المواقف أو المناهج؟

هل حدث تراجعٌ في العمل الدعوي التربوي في السنوات الأخيرة ؟ وما هي الأسباب إن وُجدت؟

هل تَرَاجَعَ دَوْر العلماء ووجودهم بين نخبة العمل الإسلامي وقياداته؟ لماذا؟ وهل يستمر ذلك مستقبلاً؟

 هل يتوقع أن تحقق الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي نجاحاً في المرحلة المقبلة مقارَنَةً بنتائج الفترة الماضية غير المشجّعة؟ وما تأثير مستوى التمسك بالثوابت الإسلامية على ذلك؟

هل يمكن أن تذكروا لنا في نقاط محددة أهم الدروس المستفادة من تجربتكم في العمل الإسلامي في الحقبة الماضية؟

 ما هي أهم المعوقات والمبشرات في طريق العمل الإسلامي في اليمن؟

                                                   بسم الله الرحمن الرحيم

                                        
الإسلاميون كيف ينظرون إلى المستقبل

س1:ما هو مستقبل التعاون والتنسيق بين الحركات الإسلامية في الأفكار أو المواقف أو المناهج؟
لا توجد بوادر مشجعة في هذا الباب، وليس من المتوقع في المستقبل القريب أن يحدث تنسيق حقيقي؛ لأن ذلك يحتاج إلى جديّة في مراجعة الأفكار أو المواقف أو المناهج، ويحتاج إلى تنازل عما يظهر خطؤه من ذلك، أو عدم أهميته، أو عدم جدواه؛ لكي يتم التوافق.
ولكن النفوس التي اعتادت فكراً معيناً، وعُرفت بموقف محدد، وتربت على منهج صار معروفا لدى كافة أفرادها، يصعب عليها التراجع والتنازل، بل وربما يصعب التقييم وإعادة النظر؛ لأن هذه الأمور صارت من المسلّمات، وربما تخشى القيادات بالذات أن يُعتبر ذلك منها إدانة لماضيها, وهي ما انفكّت تعبّئ الصف وتُطَمْئنُهُ بالمكاسب والمنجزات وسلامة السير، وتزرع فيه الثقة بالقيادة المسدَّدة.
إن الفكرة والموقف -وأعمق منهما المنهج- تعتبر كلها من مكونات الشخصية الطبيعية للفرد، أو الشخصية الاعتبارية للجماعة والحركة، وفي نظر الكثيرين يستوي أن تتنازل عن فكرتك أو موقفك أو منهجك، أو تتنازل عن موقع شخصيتك، ومكانتها في المجتمع، وكما يصعب الأخير يصعب الأول، إلا عند الذين تربَّوا تربية فريدة؛ وصاروا قوّامين بالقسط، بحيث صار القسط والحق أحب إليهم من شخصياتهم ومواقفهم.
إننا نجد قياداتِ وأتباعِ الجماعات الإسلامية المتعددة يتسامحون في الصلاة خلف بعضهم بعضاً، ويقبل كلٌّ منهم اجتهاد الآخر في أمور الصلاة، وذلك لعدم ظهور الحظ الدنيوي والمصلحة العاجلة –فيما يبدو- في حين لا نجد أن جماعة تتنازل لجماعة أخرى، فتعتمد منهجها في صفوفها حتى تتم الوحدة والالتئام، ولم نسمع كذلك أن جماعة إسلامية تنازلت قيادتها لكي تترك لِقيادة الجماعة الأخرى أن تقود الجماعتين؛ وذلك -كما يبدو- لاختلاط المصلحة والحظ الدنيوي هنا بأمور الدين لدى بعض القيادات، وحتى لو فكرت بعض القيادات بالتنازل، فقد تجد الصدّ من الزملاء ثم التهميش، مع أن المفترض أن هذا التنازل يتم بروح طيبة كما في حال الصلاة، وللأمة سلفٌ في ذلك مَدَحَ الرسول صلى الله عليه وسلم فِعْله، وهو الحسن رضي الله عنه، عندما تنازل لمعاوية رضي الله عنه، ومادام المتنازَل له محسوباً في الإطار الواسع لأهل السنة؛ فلا خوف على الإسلام من هذا التنازل، بل هو خدمةٌ للإسلام، واستنزالٌ لرحمة الله، ومنها: القوة والنصر, قال تعالى: (( إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ))[هود:119]، وطردٌ كذلك للفشل والوهن, قال تعالى: (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ))[الأنفال:46].
ولكن ما دامت العصبيات المستترة تحت ما يسمى بالمنهج الصحيح الشامل، والتنظيم الدقيق غير المخترق، والقيادة التاريخية ... إلخ. ومادامت هذه العصبيات موجودة ومستترة بستار أكبر وهو مصلحة الدعوة، مع بخس الآخرين وعدم إنصافهم؛ فيُستبعد أن يحصل وفاق حقيقي، وهذه المبررات التي يسوقها المتعصبون بحجة حفظ الدين لا قيمة لها؛ لأن الدين محفوظ بحفظ الله، سواء وُجِد هؤلاء ابتداءً أم لم يوجدوا.
وقد لا توجد شائبة حظ دنيوي في خلْفية الخلاف بين الجماعات المنتمية للسنة، ويكون الدافع دينياً محضاً، ولكن شائبَتَهُ في الحقيقة هنا هي الجهل بأدب الخلاف؛ لأن الإسلام الذي بيّن كل شيء لا يعجز عن حل الخلافات بين أتباعه إذا صدقت النيات، (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ))[النساء:59].
والعلاج في هذه الحالة: هو الرجوع إلى العلماء الربانيين، وسوف يتم بواسطتهم حل الخلاف ثم الالتئام، ولكن المشكلة أن القيادات في غالب الجماعات أغلبها من الحركيين والنشطين والسياسيين الذين حظهم من العلم الشرعي محدود، مما يعني أن سلطة القرار ليست بيد العلماء، ومعنى ذلك: بقاء الخلاف إلى أن تعود القيادة، ويعود القرار إلى العلماء، وفي هذا من الصعوبة ما فيه كما هو معلوم.
ومع ذلك هذا فلا يجوز اليأس، ويجب على الصالحين في هذه الجماعات -وهم كثير إن شاء الله- أن يكون همُّهم الأكبر هو جمع الأمة في كيان واحد، وليس الحفاظ على الكيان الجزئي للحركة أو الجماعة, ويجب عليهم أن يأخذوا بجميع الأسباب الممكنة لجمع الكلمة، وأن يعملوا على مدّ الجسور مع الصالحين في سائر الجماعات؛ حتى يوجِدوا رأياً عامًّا، يدفع في اتجاه التوحُّد والالتحام بعزم ومثابرة، ويُقنِع بذلك القيادات أو يُحرجِها، فلا تجد مناصًا منه.
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد سأل ربه -كما في الحديث الصحيح- أن لا يجعل بأس الأمة بينها، فََمَنَعه الله من ذلك، فإن السبب هو الحكمة العظيمة في ابتلاء الناس بالاختلاف, وهل سيبذلون الأسباب ويتنازلون عن الأهواء من أجل جمع الكلمة؟ فالناس إنما خلقوا للابتلاء، ومن ذلك أن يبتليهم الله بالاختلاف، تماماً كما يبتليهم بالأمراض والفقر وغير ذلك، ولكن من وفّقهم الله ورحمهم، يدفعون هذه الابتلاءات المقدّرة بأقدارٍ مواجهةٍ لها هي أيضاً من تقدير الله، قال تعالى: (( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ))[هود:118] * (( إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ))[هود:119].
فيدفعون أسباب الاختلاف بأسباب الأُخُوَّة والتوافق، فإذا علم الله صدقهم؛ رَحِمهم فوحَّدهم، وجعل من مجموعهم الطائفة الناجية التي لا يضرها من خالفها ولا من خذلها، والتي تمضي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه (( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ))[الأنفال:63].
.................................................                                     
س2 : هل حدث تراجعٌ في العمل الدعوي التربوي في السنوات الأخيرة ؟ وما هي الأسباب إن وُجدت؟
ج: وُجِد تراجع في العمل الدعوي التربوي عند بعض الجماعات التي طال عليها الأمد دون تجديد؛ لأن الإسلام نفسه يَبْلَى في نفوس الناس مع طول الأمد، ويحتاج إلى تجديد في نفوس الناس, فما بالنا بمناهج الجماعات؟ وقد قيّض الله من يجدّد لهذه الأمة دينها على رأس كل مائة سنة.
فهذه الجماعات شأنها كشأن الكائن الفرد، تبدأ بحيويّة وصحة، ثم تُرَدُّ إلى أرذل العمر إذا لم يواكب استمرارها تجديدٌ دائم، قال تعالى: (( وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الحديد:16].
فهذا أبرز الأسباب في التراجع ، ويتفرّع عنه أنه يختفي المؤسسون المتميزون بروح التجديد، ويخلُُفُهم من هم دونهم، ومع تعاقب السنين تزداد الدُّونيّة، ثم تنشأ مصالح وأهواء، تساوي أو تقلّ أو تزيد عن الغايات السامية بحسب الظروف, ولكنها -حتى في أحسن الظروف- تشكّل دَخَلا ًودَغَلاً، يكون له انعكاسه الواضح على العمل الدعوى والنشاط التربوي.
ويبقى التجديد والإحياء من سنن الله الماضية، وليس بالضرورة أن يأتي التجديد الجديد في نفس البلد أو الجماعة أو القوم، إذْ ليس التجديد للدين ماركة مسجلة لأناس معيّنين، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومرونة المؤمن في قابليته للانضواء تحت راية الحق أينما ارتفعت؛ تمنع عنه التكلّس والجمود، وتجعله متجدّداً؛ لأنه يقبل التجديد، ويرحّب به، ولو كان عند الآخرين.
ومعلوم أنه إذا حدث تراجُعٌ في جماعةٍ شاخَتْ مثلاً, فإنه قد يَتَزَامَنُ معه فُتوّة وتجديد في جماعة أخرى فَتيّة، والإسلام لجميع المسلمين, وقد يأتي مجدّدٌ فرْدٌ يهيئه الله من غير جماعة, وعقدة التكلّس هذه هي التي منعت كثيراً من الأمم من اتّباع أنبيائها، وهي كذلك التي تمنع اليوم كثيراً من المقلدين المتعصبين من أتّباع ورثة الأنبياء وهم العلماء المجدّدون أو غير المجددين, فيشترطون للاتّباع شروطاً ما أنزل الله بها من سلطان.
.................................................                                     
س3: هل تَرَاجَعَ دَوْر العلماء ووجودهم بين نخبة العمل الإسلامي وقياداته؟ لماذا؟ وهل يستمر ذلك مستقبلاً؟
ج: الجماعات الإسلامية أسّسها في الغالب علماء، أو أناس يعرفون للعلماء مكانتهم، ويجعلونهم مرجعيّتهم، ومع مرور الأيام، ولمّا كنا في آخر الزمان، والعلم الشرعي يُقبَض بموت العلماء -كما في الحديث المتفق عليه- فإنه قد قلّ عدد العلماء العاملين، وتوزّعوا -على ِقلّتهم- في سعة العالم الإسلامي، ثم توزّعوا مرةً أخرى ما بين مستقلين ومنتمين إلى جماعات؛ فصار الموجودون في أي جماعة قليل من قليلٍ من قليل، ولأننا أيضاً في آخر الزمان مرةً أخرى، ومن أبرز ظواهره أنه يُوَسّد الأمر إلى غير أهله -كما في الحديث المتفق عليه كذلك- فقد غلب الحركيّون الكُثْر في الجماعات على القلة القليلة من العلماء في كل جماعة، لا سيما مع زهد العلماء العاملين في الصدارة؛ فتصدّر الحركيون غالباً, ورغم أن الشرائح المختلفة داخل كل جماعة لها كياناتها المعبّرة عنها، فالطلاب على حِدَة، والأساتذة على حِدَة، والمحامون لهم كيانهم، والأطباء لهم قِسْمهم، فإن العلماء لا يوجد لهم الكيان الذي يجمعهم؛ لأنه إذا جمعهم كيان فسوف يكون له –بخلاف الكيانات الأخرى- ثقله القيادي التلقائي المنبثق من ثقل الشريعة التي يحملون التخصص فيها؛ ولذلك لا يوجَد في الغالب مثل هذا الكيان ولا يُسْمَح به، ويبقى العلماء أوزاعاً داخل الجماعات وخارجها، وكبَارُهم يُفضي بهم الشعور بالغربة إلى المغادرة وإلى الاعتزال، كأمثال: سيد سابق، وسعيد حوّى، ويوسف القرضاوي، وعبد الكريم زيدان، وبعضهم يحرص على الاستقلال والاعتزال ابتداءً ويحافظ عليه، كأمثال: ابن باز، وابن عثيمين، والألباني، والندوي.
ومع ذلك فإن الطائفة الناجية المُنْبثة في أنحاء الأرض، وهم الصالحون عموماً من هذه الجماعات ومن خارجها، وجملة العوامّ الذين هم على الفطرة, هؤلاء جميعهم يجمعهم صلاحهم، وإن تناءتْ بهم الديار وتعدّدتْ فيهم الجماعات على مرجعية أمثال هؤلاء العلماء, فكتُب الألباني منتشرة فيهم مثلاً, وفتاوى ابن باز وابن عثيمين تشرّق فيهم وتغرّب, وكتاب (فقه السنة) للسيد سابق، وكتاب (فقه الزكاة) للقرضاوي مرجعان في كثير من البيوت, وهلم جراً.
ويبدو أن الأمر سيستمر كذلك على الأقلّ في المستقبل القريب, وهنالك أعداد جديدة من العلماء العاملين أخذتْ مواقعها كذلك في قلوب الناس، وربما لا تعود للعلماء مرجعيّتهم التامّة على النحو المطلوب؛ حتى تعود للمسلمين خلافتهم الراشدة, فهي التي سوف تمكّن لدين لله، وتمكّن لحملته ورثة الأنبياء، وما الخليفة الراشد إلا مُقَدَّمُ هؤلاء العلماء الوَرَثة.
.................................................                                     
س4: هل يتوقع أن تحقق الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي نجاحاً في المرحلة المقبلة مقارَنَةً بنتائج الفترة الماضية غير المشجّعة؟ وما تأثير مستوى التمسك بالثوابت الإسلامية على ذلك؟
ج : العمل السياسي بشكل عام، ولا سيما في هذا العصر منكوبٌ بِهُلاميّة المبادئ, وزمام المبادرة فيه بيد الأعداء بعد غياب دولة الخلافة المنضبطة بالشرع عن الساحة الدولية؛ لذلك يمكن اعتبار الساحة السياسية في عالم اليوم أشبه بالمستنقع، والخائض فيه لا يكاد يسلم من التلوّث مهما حاول الاحتراز واصطناع الواقيات, وإذا انضاف إلى ذلك تصدُّر غير العلماء غالباً في الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي؛ ظهر الخللُ بوضوح، وتلوُّثُ من يتلَوَّث.
لقد كان من ضمن مظاهر الخلل المزيدُ من الانقسامات في أوساط الإسلاميين أنفسهم، حتى على مستوى الجماعة والحزب الواحد، كما حدث في السودان، وتركيا، والمزيدُ من التحالفات في مقابل ذلك مع غير الإسلاميين كالعلمانيين، وزيادةُ الارتباطات بالقوى الأجنبية.
وكان من ضمن مظاهر التلوُّث: تسويقُ الديمقراطية ومبادئها في بلاد المسلمين بغطاء إسلامي، وتسويقُ العلمانية من بعض الحركات التي وصلت إلى السلطة من أجل البقاء فيها أطول فترة ممكنة, وتقديمُ التنازلات بلا حدود، حتى ساد أو كاد يسود مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) عند كثير من السياسيين المُتَعَقْلِنين المنتمين لبعض الحركات.
في آخر يونيو المنصرم انعقدت قمة الأطلسي في تركيا تحت رعاية الحزب الحاكم هناك، المنظور إليه أنـه إسلامي, وناقشت قضايا التآمر على المسلمين باطمئنان, بما في ذلك المزيد من التآمر على أفغانستان والعراق, ولم ينْسَ بوش بعد نهاية القمة أن يشهد لحكام تركيا أن نموذجهم الديمقراطي العلماني هو النموذج الذي تريد أمريكا أن يعمّ البلدان الإسلامية... بمعنى أن أمريكا راضية عن هؤلاء الحكام وحكْمهم... فكيف حدث هذا والله يقول: (( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ))[البقرة:120]؟
ومع ازدياد الهيمنة الغربية على بلاد المسلمين, واستمرار الانقسام فيما بين الحركات الإسلامية، وحتى في داخل كلٍّ منها وتهميش العلماء, يُستبعَد أن يحقق الممارسون للعمل السياسي في هذه الحركات نجاحاً في المرحلة المقبلة، لا سيما وهم ماضون كما ذكرنا في الإخلال بالثوابت, فقد أخلُّوا مثلاً بمبدأ الأُخُوَّة والولاء حين كانت ممارستهم سبباً واضحاً في الانقسامات في الصف الإسلامي, وأصابهم في ذلك مرض الحكام عندما أوْجَدُوا لأنفسهم مراكز قُوَى صرفوا لها الطاقات والإمكانات لدعم سياساتهم، وكان ذلك على حساب الكيان الأكبر, وكما كان للحكام بطاقات لأحزابهم وأفضليات لأَتْباعهم، وجنسيات وجوازات وترتيبات لشعوبهم, وكلٌّ من ذلك له ضرَرُه في التشتيت والتفتيت على حساب مجموع الأمة، فكذلك كان لهؤلاء ولسياساتهم ما يشبه ذلك -مع الفارق- على مستوى الطليعة المتديّنة في الأمة.
وفي ذلك من الخطر ما لا يخفى عندما يكون الضرر مركَّزاً على الطليعة.
كما أخلُّوا كذلك -مثل الحكام- بمبدأ البراء عندما روّجوا للفكر الديمقراطي المستورد، وتفاعلوا وتعاونوا مع سَدَنَته وحَمَلَته, وزاد من الضرر والتلبيس محاولة مزْج ذلك بالإسلام, والزّعْم بإقامة وخدمة الإسلام بما ليس من الإسلام ويتناقض معه، وصدق عمر رضي الله عنه في مقالته الشهيرة: [[ إن الله أعزّكم بالإسلام، وإن ابتغيتم العزة في غيره أذلكم الله ]].
ولقد نسي بعض الإسلاميين -في غمرة حماسهم للديمقراطية والحكم- دعوتَهم الأصلية للإسلام, وصاروا منظّرين وممارسين ممتازين للديمقراطية, كما شهد لبعضهم بوش كما سبق, وقد أجّلوا العودة لدعوة الإسلام -التي أشْهَرَتْهم في الناس- إلى أجل غير مسمّى, وربّما إلى ما بعد البعث... وهم ديمقراطيون مع الآخرين إلى العظْم, ولكن بأسهم مع إخوانهم شديد ... والذي بين الترابي وأربكان وتلاميذهما لا يخفى0
إن خير سياسة تتفق مع الشرع: هي تأجيل الخوض في السياسة في الظروف الراهنة, وليس تأجيل التّميّز بالإسلام والدعوة إليه, كما انتهى إلى ذلك الشيخ حسن البنا رحمه الله في آخر حياته بعد تجربته مع السياسة, كما روى ذلك عنه الشيخ الندوي رحمه الله في كتابه (مذكرات سائح في الشرق العربي) نقلاً عن الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله, وقرّر الاكتفاء بالتربية والدعوة ولكن لم يمهله الأجل -كما نقل مثل ذلك عن الشيخ البنا الأستاذ فريد عبد الخالق القيادي الكبير السابق في الإخوان في مقابلة له في قناة الجزيرة قبل أسابيع-.
والمقصود بتأجيل الخوض في السياسة, تلك السياسة التي تعني السعي للوصول إلى الحكم، وذلك لأن البيئة غير مواتية والمقدمات غير واردة، والاقتصار في البداية على مثل الدعوة والتعليم وإصلاح النفوس وجمْع الكلمة، كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام في أول أمره، وكانت هذه هي سياسته الأولى مع الكفّ، فلما نهض للسياسة التالية وكان عنده نصاب كافٍ من المؤمنين المجتمعين الذين هم كالجسد الواحد؛ أُذِن له بالقوة لحماية هذه السياسة التي انتهجها على الطريقة الإسلامية... ثم تتابعت المراحل.
إن أتْباع الحركات الإسلامية اليوم -على مستوى العالم- لا ينقصهم النصاب فهم بالملايين, ولكن أصابتهم الغثائية التي أصابت مجموع الأمة؛ للأسباب المذكورة وغيرها.
ولذلك فإن الإسلاميين اليوم أمامهم شوط لا بد لهم أن يكملوه قبل الصراع من أجل الحكم، وهو أن يحسنوا التربية أكثر, ويحققوا التمسك بالشرع بشكل أكبر, ويقدِّموا العلماء, ويجمعوا كلمة الصالحين في الأمة على الأقل؛ لكي يشكلّوا نصاباً صحيحاً لحماية البيئة النظيفة للسياسة الشرعية الخاصة بالسعي للحكم، ثم إقامتِه على طريقة الإسلام وليس على طريقة سواه, وليسوا مكلفين قبل استكمال هذا الشوط في أن يخوضوا في المستنقع الآسن لكي يلوّثوا أنفسهم ويمارسوا الاختلالات, وينظِّروا ويطبِّقوا غير الإسلام كالديمقراطية والعلمانية, بحجة حسن النية في إقامة الحكم الإسلامي.
.................................................                                     
س5: هل يمكن أن تذكروا لنا في نقاط محددة أهم الدروس المستفادة من تجربتكم في العمل الإسلامي في الحقبة الماضية؟
ج: الحياة ابتلاء ومكابدة, قال تعالى: (( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ))[البلد:4]0 والالتزام بالدين والدعوة إليه من التكاليف التي تستصعبها النفوس؛ لأن الجنة حُفتْ بالمكاره, فلا بد من التحمل والثبات وتجديد الهمة والصبر على ذلك وعلى العقبات، ولا بد من تقوية الصلة بالله لكي يمد الإنسان بروح منه, قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ))[البقرة:153]. وبالصبر والصلاة تتربّى النفس وتُرْزَق السكينة ويأتي من الله المدَد وأنواع المخارج التي ليست في الحسبان.
* طلب الهداية من الله باستمرار، واستشعار الحاجة المُلحّة لذلك عندما يقول المؤمن في كل ركعة: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ))[الفاتحة:6]أمرٌ لا بد منه, ولا بد أن يرافق المؤمن في كل حال، فالإنسان ضعيف ومعرض للانحراف والخطأ مهما كانت قدراته، { كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم }.
رواه مسلم
* الثبات على الحق إذا اظهر للإنسان ولو خالف من خالف، وحتى إذا بقي الإنسان منفرداً, فنحن في زمان الغربة، والقابض على دينه كالقابض على الجمر في بعض الأحيان، ومن ثبت على الحق فلا بد أن يجد ثمرة ذلك، إذ يرجع الناس فيحمدون موقفه في نهاية المطاف، وعلى قدر ثباته تكون له إمامة ولسان صدق، (( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ))[الرعد:17].
* الجماعات الإسلامية التي يمكن أن يشملها الإطار الواسع لأهل السنة والجماعة فيها خير كثير، وحفِظ الله بها كثيراً من شباب المسلمين من الانحراف, وأحيا بها الدين في مجالات عديدة، ولكنها ليست معصومة، ولا تسلم من السلبيات كما ذكرنا من قبل، ولا توجد جماعة في مقام الصحابة أو في مقام أهل بدر، وقد وُجد ممّن كان حول الرسول صلى الله عليه وسلم مَن هم من المنافقين، فكذلك كل جماعة يمكن أن يوجد فيها من هؤلاء.
والصالحون وأفراد الطائفة الناجية موزّعون في هذه الجماعات وخارجها، ولذلك يجب التعاون مع هذه الجماعات كلها في كل خير تقوم به ومع غيرها, ويجب الاستمرار في نصحها، ومدّ الجسور بينها، وهدم الحدود المصطنعة التي تفصل بعضها عن بعض, والتي هي شبيهة بالحدود المصطنعة التي تفصل بين بلدان المسلمين، ويحب العمل على ربط هذه الجماعات أو أفرادها على الأقل بمرجعية العلماء.
وهذه التوعية يجب القيام بها من الجميع, سواء من الأفراد المنتمين لهذه الجماعات أم ممن هم خارجها، بحكمة ومحبة, ويجب إقناع هذه الجماعات أفراداً وقيادات أن التجربة أثبتت -خلال ما يقرب من قرن- عجْز كل جماعة على حِدَة عن استعادة الخلافة، ولا يمكن لهذا المشروع العظيم الذي يهمّ جميع المسلمين أن يتحقق دون تعاون المسلمين.
* أثبتت التجارب أن الهياكل السرية داخل بعض الجماعات -واستخدام الأساليب الاستخباراتية- أضرارها كبيرة, وفي أجواء السرية المظلمة قد يتسلق غير الأكفاء، وقد يسيطر الانتهازيون ويتحكمون في المفاصل، ويجندون الطاقات لخدمة تحالفهم، ويرفعون الموالين، ويستبعدون غيرهم ولو كانوا أكفاء صالحين.
وقد يُدان من يدان بالأدلة الاستخباراتية السرية وهو لا يعلم، ولا يمكّن من الدفاع عن نفسه، وهذه الأمراض الخطيرة لا تنشأ في الهواء الطلق، والنوافذ المفتوحة، وأشعة وأنوار العلنية تقضي عليها، ولذلك لابد من نشر الوعي بأن السرية استثناء, ولا تكون إلا بقدر الضرورة، ولا يقال ببراءة الإسلاميين من هذا, فهم بَشَر قد يضعفون مع طول الأمد.
هذه بعض النقاط المحددة التي استفدتها من تجربتي في العمل الإسلامي في اليمن، على مدى أكثر من خمسة وثلاثين سنة, وأرجو أن تكون نافعة.

.................................................                                     
س6: ما هي أهم المعوقات والمبشرات في طريق العمل الإسلامي في اليمن؟
أهم المعوقات:
 1) تزايد المؤامرات والأفكار الأجنبية، وتزايد الفساد الناشئ عن ذلك، وتزايد بلاء زراعة وتعاطي القات.
 2) تنافر الجماعات الإسلامية، وتنافر الأجنحة داخل بعضها, واجتهاد بعضها في التحالف مع القوميين والاشتراكيين, مع عدم الاجتهاد في الأخذ بأسباب التنسيق مع الجماعات الأخرى.
 3) عدم اجتماع كلمة العلماء، مما سبّب تعدّد الخطاب الديني.
 4) الترويج لبعض الشذوذات وتبنيها, كتولية المرأة، ونشر الأغاني، وحلق اللحى، ونحو ذلك بحجة الانفتاح، والتعايش مع العلمانيين والمبتدعين، ومع المنكرات والمفاسد بحجة التدرج والتسامح... إلخ.
م أهم المبشرات:
 1) أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تبيّن أن الإيمان يمان، وأن اليمن مَدَد, وأنه سيكون في اليمن جنودٌ مجندة (لنصرة الدين)، وأنه سيخرج من عدن أبين اثنا عشر ألفاً... إلخ، وكلها أحاديث صحيحة.
 2) تزايد أعداد الشباب الملتزمين بالدين باستمرار.
3) تزايد أعداد طلاب العلم الشرعي، وتخرّج علماء جدد من بينهم.
 4) انتشار الوعي الإسلامي في مختلف القرى والمدن.
 5) وجود طلائع من كافة الجماعات أخذت تتبنى تعميق الأخُوَّة فيما بينها، وتدعو إلى ضرورة جمع الكلمة في ضوء الكتاب والسنة، ودائرة هذه الطلائع آخذة في الاتساع يوماً بعد يوم.
 6) وجود بعض المساعي للتنسيق بين العلماء.

                               والله المستعان, والأمر لله من قبل ومن بعد، والعاقبة للمتقين.

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©