|
وَكَذَا تُسْتَحَبُّ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ فِي مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَأَوْجَبَهَا
آخَرُونَ على مَن يَحْضُرُهُ ذِكْرُها ،
وَمُطْلَقًا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ .
وَتُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْأَكْلِ لِمَا فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِرَبِيبِهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ:
"قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ،
وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ" . وَمِنَ
الْعُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَهَا .
وَكَذَلِكَ تُسْتَحَبُّ عند الاتِّصالِ
بالأهْل لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ
أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ:
بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا
الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا
رَزَقْتَنا، فإنَّه إنْ يُقَدَّرْ بَينَهُما
وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا"
.
وتَقْدِيرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْبَاءِ فِي
قَوْلِكَ: بِاسْمِ اللَّهِ، إمَّا اسْمٌ أَوْ
فِعْلٌ ، وَكُلٌّ مِنهما قَدْ وَرَدَ بِهِ
الْقُرْآنُ ، فمَنْ قَدَّرَهُ بِاسْمٍ،
فتَقْدِيرُهُ: بِاسْمِ اللَّهِ ابْتِدَائِي،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ ارْكَبُوا
فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا
وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
هُود: 41 ، وَمَنْ قَدَّرَهُ بِالْفِعْلِ
أَمْرًا وَخَبَرًا ، فَنَحْوَ: ابدَأْ
بِبِسْمِ اللَّهِ أَوِ ابْتَدَأْتُ بِبِسْمِ
اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} الْعَلَقِ: 1 ،
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا
بُدّ لَهُ مِنْ مَصْدَرٍ، فَلَكَ أَنْ
تُقَدِّرَ الْفِعْلَ وَمَصْدَرَهُ، وَذَلِكَ
بِحَسَبِ الْفِعْلِ الَّذِي سَمَّيْتَ
قَبْلَهُ، إِنْ كَانَ قِيَامًا أَوْ قُعُودًا
أَوْ أَكْلًا أَوْ شُرْبًا أَوْ نَحْوَ ذلك ،
فَالْمَشْرُوعُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ فِي
الشُّرُوعِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَبَرُّكًا
وَتَيَمُّنًا وَاسْتِعَانَةً عَلَى
الْإِتْمَامِ وَالتَّقَبُّل .
لَفْظُ الجَلَالَةِ "الله" :
{اللَّهِ} عَلَمٌ عَلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى، يُقَالُ: إِنَّهُ الِاسْمُ
الْأَعْظَمُ؛ لِأَنَّ اللهَ يُوصَفُ بِجَمِيعِ
أسماءِ اللهِ الأُخْرَى ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ
الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ
الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ
الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ
الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ} [الْحَشْرِ: 22 -24 ، فَأَجْرَى
الْأَسْمَاءَ الْبَاقِيَةَ كلها صفاتٍ لَهُ ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وللهِ الأسْمَاءُ
الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180 ،
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ
تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلَّا
وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ"
.
وَهُوَ اسْمٌ لَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ ، وذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ
مِنَ النُّحَاةِ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ جَامِدٌ
لَا اشْتِقَاقَ لَهُ. وَقَدْ نَقَلَ
الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ
وَالْخَطَّابِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَرُوِيَ عَنِ
الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّ الْأَلِفَ
وَاللَّامَ فِيهِ لَازِمَةٌ. قَالَ
الْخَطَّابِيُّ: أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ:
يَا اللَّهُ، وَلَا تَقُولُ: يَا الرَّحْمَنُ،
فَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ
لَمَا جَازَ إِدْخَالُ حَرْفِ النِّدَاءِ
عَلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ،
وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِلَفْظِ
الْمَصْدَرِ، وَهُوَ التَّأَلُّهُ، مِنْ
أَلِهَ يَأْلَهُ إِلَاهَةً وَتَأَلُّهًا،
كَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَ:
"وَيَذَرَكَ وَإلَاهَتَك" قَالَ: عِبَادَتَكَ،
أَيْ: أَنَّ فِرْعونَ كَانَ يُعْبَد وَلَا
يَعْبُد، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى
كَوْنِهِ مُشْتَقًّا بِقَوْلِهِ تعالى:
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي
الأرْضِ} الْأَنْعَام 3، أَيْ: الْإلَهُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَمَا قَالَ:
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي
الأرْضِ إِلَهٌ} الزُّخْرُفِ 84 ، وَنَقَلَ
سِيبَوَيْهِ عَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّ أَصْلَهُ:
إِلَاهٌ، مِثْلُ فِعَالٍ، فَأُدْخِلَتِ
الْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلًا مِنَ
الْهَمْزَةِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: مِثْلُ
النَّاسِ، أَصْلُهُ: أُنَاسٌ، وَقِيلَ: أَصْلُ
الْكَلِمَةِ: لَاه ، فَدَخَلَتِ الْأَلِفُ
وَاللَّامُ لِلتَّعْظِيمِ وَهَذَا اخْتِيَارُ
سِيبَوَيْهِ. قَالَ ذو الإِصْبَعِ
العَدْوَانِيُّ:
لَاهِ ابْنُ عَمِّكَ لَا أَفْضَلْتَ فِي
حَسَبٍ ... عَنِّي وَلَا أَنْتَ دَيَّانِي
فَتَخْزُونِي
أيْ لِلَّهِ ابنُ عَمِّكَ ، بعد حذْفِ
لام الجرِّ واللامِ التي بعدها ، قَالَ
الْقُرْطُبِيُّ: فَتَخْزُونِي ، بِالْخَاءِ
الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: فَتَسُوسُنِي، وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ:
الْإِلَهُ حَذَفُوا الْهَمْزَةَ وَأَدْغَمُوا
اللَّامَ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ، كَمَا
قَالَ: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}
الْكَهْفِ: 38 ، أَيْ: لَكِنَّ أَنَا .
الرَّحمَنِ الرَّحيمِ :
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسْمَانِ
مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ
الْمُبَالِغَةِ، وَرَحْمَنُ أَشَدُّ
مُبَالَغَةً مِنْ رَحِيمٍ، وَفِي كَلَامِ
ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهِم حِكَايَةَ
الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا، وَفِي تَفْسِيرِ
بَعْضِ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مَا خَرَّجَهُ
التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ
وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ
وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا
قَطَعْتُهُ". قَالَ: وَهَذَا نَصٌّ فِي
الِاشْتِقَاقِ فَلَا مَعْنَى لِلْمُخَالَفَةِ
وَالشِّقَاقِ.
قَالَ: وَإِنْكَارُ الْعَرَبِ لِاسْمِ
الرَّحْمَنِ لِجَهْلِهِمْ بِاللَّهِ وَبِمَا
وَجَبَ لَهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُمَا
بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَنَدْمَانَ وَنَدِيمٍ
قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ
بِنَاءُ فَعْلَانَ كَفَعِيلٍ، فَإِنَّ
فَعْلَانَ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى
مُبَالَغَةِ الْفِعْلِ نَحْوَ قَوْلِكَ:
رَجُلٌ غَضْبَانُ، وَفَعِيلٌ قَدْ يَكُونُ
بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولُ، قَالَ
أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الرَّحْمَنُ:
اسْمٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ
الرَّحْمَةِ يَخْتَصُّ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى،
وَالرَّحِيمُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ
الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}
الْأَحْزَابِ 43 ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ، أَحَدُهُمَا
أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ، أَيْ أَكْثَرُ
رَحْمَةً .
قَال
ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ
يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ
بْنُ زُفَر، سَمِعْتُ العَرْزَميّ يَقُولُ:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه:5
، فَذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ بِاسْمِهِ
الرَّحْمَنِ لِيَعُمَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ
بِرَحْمَتِهِ، وَقَالَ: {وَكَانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} الْأَحْزَابِ 43،
فَخَصَّهُمْ بِاسْمِهِ الرَّحِيمِ، قَالُوا:
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَنَ أَشَدُّ
مُبَالَغَةً فِي الرَّحْمَةِ لِعُمُومِهَا فِي
الدَّارَيْنِ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ،
وَالرَّحِيمُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ .
وَاسْمُهُ تَعَالَى الرَّحْمَنُ خَاصٌّ
بِهِ لَمْ يُسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ ،كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الأسْمَاءُ الْحُسْنَى}
الإسراء
110، وَلَمَّا تَجَهْرَمَ (جاهَر وأَجْرَم
كما قال الشيخ أحمد
شاكر) مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابِ وَتَسَمَّى
بِرَحْمَنِ الْيَمَامَةِ كَسَاهُ اللَّهُ
جِلْبَابَ الْكَذِبِ ؛ فَلَا يُقَالُ إِلَّا
مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ .
فذَكَر في البَسْملة اسْمَ اللَّهِ
الَّذِي لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ،
وَذَكَر اسمَ الرَّحْمَنِ الَّذِي مَنَعَ مِنَ
تَسمِيَةِ غَيْرِهِ به، وَأَمَّا الرَّحِيمُ
فَإِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ بِهِ غَيْرَهُ
حَيْثُ قَالَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ} التَّوْبَةِ: 128، كَمَا
وَصَفَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ
كما فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا خَلَقْنَا
الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا
بَصِيرًا} الْإِنْسَانِ: 2 .
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعَرَبَ
لَا تَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، وَلِهَذَا قَالَ
كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ
لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَليٍّ: "اكْتُبْ
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "،
فَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ وَلَا
الرَّحِيمَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَفِي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: لَا نَعْرِفُ
الرَّحْمَنَ إِلَّا رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا
الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا
وَزَادَهُمْ نُفُورًا} الفرقان: 60.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ هَذَا
إِنَّمَا هُوَ جُحود وَعِنَادٌ وَتَعَنُّتٌ
فِي كُفْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي
أَشْعَارِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَسْمِيَةُ
اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَن كما ذكَر ابْنُ
جَرِيرٍ ، وَ أَنْشَدَ بَعْض ذلك .
الحَمْدُ لِله :
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ مَعْنَى
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} الشُّكْرُ لِلَّهِ
خَالِصًا دُونَ سِوَاه... بِمَا أَنْعَمَ
عَلَى عِبَادِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا
يُحْصِيهَا الْعَدَدُ ... ومِنها الْأَسْبَابُ
الْمُؤَدِّيَةُ إِلَى الْخُلُودِ فِي
النَّعِيمِ الْمُقِيمِ .
كما ذَكَر أنَّه فِي ضِمْنِ ذلك أَمَرَ
عِبَادَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ
قَالَ: قُولُوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} .
وحَاصِلُ كلامِه بعد ذلك أَنَّ جَمِيعَ
أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ
يَجعلون الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ بمعنىً واحد.
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتهرَ
عِنْدَ كَثِيرٍ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ
الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ بِالْقَوْلِ عَلَى
الْمَحْمُودِ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ
وَالْمُتَعَدِّيَةِ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ
إِلَّا عَلَى الصّفاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ،
وَيَكُونُ بِالْقلْب وَاللِّسَانِ وَالْجوارِح
.
فبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوص :
الْحَمْدُ عامٌّ؛ تَدْخُل فيه الصِّفَاتُ
اللَّازِمَةُ وَالصِّفاتُ الْمُتَعَدِّيَةُ ،
تَقُولُ: حَمدته لِفُرُوسِيَّتِهِ
وَحَمِدْتُهُ لِكَرَمِهِ. لكنَّهُ خاصٌّ
بِالْقَوْلِ . وَالشُّكْرُ عامٌّ ، لأنَّه
يكونُ بالقَولِ والعمَل والنِّيَّة ، لكنَّهُ
خاصٌّ بالصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ فقط ،
تَقُولُ: شَكَرْتُهُ عَلَى كَرَمِهِ
وَإِحْسَانِهِ ، ولَا يُقَالُ: شَكَرْتُهُ
لِفُرُوسِيَّتِه . والله أعلم .
وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ
الْحَمْدِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ لِلْحَيِّ
وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْجَمَادِ كَمَدْحِ
الطَّعَامِ وَالْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ،
وَيَكُونُ قَبْلَ الْإِحْسَانِ وَبَعْدَهُ،
وَعَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ
وَاللَّازِمَةِ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ
وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ طَلْحَةَ
بْنِ خِرَاشٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ
الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ" .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
والحمدُ أفْضلُ الدُّعاء لأنَّ الحَمْدَ فيه
مَعْنَى حِفْظِ النِّعَمِ وزيادتها ، فكأنَّ
الحامِدَ دَعَا بذلك، لِقَولِه تعالى: (وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ) إبراهيم7.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً
فَقَالَ:الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَّا كَانَ
الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ".قَال
البوصيري:إسناده حسن(سلامة).
وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حدَّثَهم أنَّ عبْدًا مِن
عباد اللهِ قال : (يَا رَبِّ لَكَ الْحَمْدُ
كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ
سُلْطَانِكَ، فَعَضَلَتْ بِالْمَلَكَيْنِ
فَلَمْ يَدْرِيَا كَيْفَ يَكْتُبَانِهَا،
فَصَعدَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَا يَا
رَبِّ، إِنَّ عَبْدًا قَدْ قَالَ مَقَالَةً
لَا نَدْرِي كَيْفَ نَكْتُبُهَا، قَالَ
اللَّهُ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ
عَبْدُهُ-: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ قَالَا :
يَا رَبِّ إِنَّهُ قَدْ قَالَ: يَا رَبِّ لَكَ
الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ
وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ. فَقَالَ اللَّهُ
لَهُمَا: اكْتُبَاهَا كَمَا قَالَ عَبْدِي
حَتَّى يَلْقَانِي فَأَجْزِيَهُ بِهَا" . قال
الشيخ شاكر:إسناده جيِّد ليس فيه مجروح .
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي (الْحَمْدِ)
لِاسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْحَمْدِ،
وَصُنُوفِهِ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ
كُلُّهُ، وَلَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ،
وَبِيَدِكَ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ
يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ" الْحَدِيثَ الذي
رواه البيهقي(سلامة) .
|
