فَقَسَّمَ الْكُفَّارَ هَهُنَا إِلَى
قِسْمَيْنِ: دَاعِيَةٌ وَمُقَلِّدٌ، كَمَا
ذَكَرَهُمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ ،
قَالَ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ
فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا
كِتَابٍ مُنِيرٍ} الْحَجّ 8 . وقال سبحانه:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ
مَرِيدٍ} الحج 3.
وَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
فِي أَوَّلِ الْوَاقِعَةِ وَآخِرِهَا وَفِي
سُورَةِ الْإِنْسَانِ، إِلَى قِسْمَيْنِ:
سَابِقُونَ وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ،
وَأَصْحَابُ يَمِينٍ وَهُمُ الْأَبْرَارُ.
فَيَتَلَخَّص مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ
الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ: أَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَانِ: مُقَرَّبُونَ
وَأَبْرَارٌ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ
صِنْفَانِ: دُعَاةٌ وَمُقَلِّدُونَ، وَأَنَّ
الْمُنَافِقِينَ صِنْفَانِ: مُنَافِقٌ
خَالِصٌ، وَمُنَافِقٌ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ
نِفَاقٍ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ
مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ
وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ
مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعها: مَنْ إِذَا
حَدّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،
وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" .
واسْتَدَلُّوا بِالحديث عَلَى أَنَّ
الْإِنْسَانَ قَدْ تَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ
مِنْ إِيمَانٍ، وَشُعْبَةٌ مِنْ نِفَاقٍ.
إِمَّا عَمَلي لِهَذَا الْحَدِيثِ، أَوِ
اعْتِقَادِيٌّ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ
الْآيَةُ، كَمَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ
السَّلَفِ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ.
وقد أخرج أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ:
قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ
يَزْهَرُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى
غِلَافِهِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَقَلْبٌ
مُصْفَحٌ، فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ:
فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ
نُورُهُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ:
فَقَلْبُ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْقَلْبُ
الْمَنْكُوسُ: فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ،
ثُمَّ أَنْكَرَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ
الْمُصْفَحُ: فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ
وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ
كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ
الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ
كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ
وَالدَّمُ، فَأَيُّ الْمَدَّتَيْنِ غَلَبَتْ
عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ " .
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ حَسَنٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}
قَالَ: لِمَا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ بَعْدَ
مَعْرِفَتِهِ .{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ مَا أَرَادَ
بِعِبَادِهِ مِنْ نِقْمَة أَوْ عَفْوٍ،
قَدِيرٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّمَا وَصَفَ
اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛
لِأَنَّهُ حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ بَأْسَهُ
وَسَطْوَتَهُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ بِهِمْ
مُحِيطٌ، وَأَنَّهُ عَلَى إِذْهَابِ
أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قَدِيرٌ .
وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ وَمَنْ تَبِعَهُ
مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَيْنِ
الْمَثَلَيْنِ مَضْرُوبَانِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ
مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَتَكُونُ "أَوْ" فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّمَاءِ} بِمَعْنَى الْوَاوِ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ
كَفُورًا} الإنسان 24 ، أو تكون للتخبير، أَي
اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا بِهَذَا، وَإِنْ
شِئْتَ بِهَذَا، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ .
أَوْ لِلتَّسَاوِي مِثْلَ جَالِسِ الْحَسَنَ
أَوِ ابْنَ سِيرِينَ، عَلَى مَا وَجَّهَهُ
الزَّمَخْشَرِيُّ .
قُلْتُ: وَهَذَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أنّ
الْمُنَافِقِينَ أَصْنَافٌ وَلَهُمْ أَحْوَالٌ
وَصِفَاتٌ كَمَا ذَكَرَهَم اللَّهُ تَعَالَى
فِي سُورَةِ بَرَاءَة : وَمِنْهُمْ ..
وَمِنْهُمْ .. وَمِنْهُمْ ..
{يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(22) }:
توجيهٌ بوَحْدَانِيَّةِ إلَهِيَّتِهِ
تَعَالَى وأنَّه الْمُنْعِمُ عَلَى عَبيده،
الأوّلين والآخرين، الذي خَلَقَهم أي
أخْرَجَهم مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ،
وجَعَلَ لَهُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا، أَيْ
كَالْفِرَاشِ مُمَهَّدةً مُوَطَّأَةً
مُثَبَّتَةً بِالرَّوَاسِي ، وَالسَّمَاءَ
بِنَاءً، كالسَّقْف، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ
الْأُخْرَى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا
مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا
مُعْرِضُونَ} الْأَنْبِيَاء 32 ، وَأَنْزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ، والْمُرَادُ بِالسماء هنا
السَّحَابُ، ماءً، أي عِنْدَ احْتِيَاجِهِمْ
إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ بِالماء مِنْ أَنْوَاعِ
الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ؛
رِزْقًا لَهُمْ وَلِأَنْعَامِهِمْ .
ومِنْ أَشْبَهِ آيَةٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ} غَافِر 64 .
وَالمُراد أَنَّ الله هو الْخَالِقُ
الرَّازِقُ مَالِكُ الدَّارِ، وَسَاكِنِيهَا،
وَرَازِقُهُمْ، فَبِهَذَا يَسْتَحِقُّ العبادة
وَحْدَهُ لتحصيل التقوى اجتِنابًا لِعذابه،
وَعدَم إشْرَاك غَيره معه؛ وَلِهَذَا قَالَ:
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ:
"أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا، وهو خلقَك"
الحديث . وعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا
مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى
عِبَادِهِ؟ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى
اللَّهِ؟» ، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ
عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ
يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ العِبَادِ
عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ
يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» . متفق عليه .
وعَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا
تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَشَاءَ
فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ
ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ» رواه أحمد وأبو داود ،
وقال المحققون للحديث إنه صحيح .
وَهَذَا صِيَانَةٌ وَحِمَايَةٌ لِجَنَابِ
التَّوْحِيدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بسنده عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ
وَجَلَّ: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، قَالَ:
الْأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ، أَخْفَى مِنْ
دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاء فِي
ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ:
وَاللَّهِ وَحَيَاتِكَ يَا فُلَانُ،
وَحَيَاتِي، وَيَقُولُ: لَوْلَا كَلْبَةُ
هَذَا لَأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَوْلَا
الْبَطُّ فِي الدَّارِ لَأَتَى اللُّصُوصُ،
وَقَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: مَا شَاءَ
اللَّهُ وشئتَ، وَقَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْلَا
اللَّهُ وَفُلَانٌ. لَا تَجْعَلُ فِيهَا
"فُلَانَ". هَذَا كُلُّهُ بِهِ شِرْكٌ .
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أَيْ
عُدَلَاءَ شُرَكَاءَ. وَهَكَذَا قَالَ
الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ،
والسُّدي، وَأَبُو مَالِكٍ، وَإِسْمَاعِيلُ
بْنُ أَبِي خَالِدٍ .
حَدِيثٌ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ:
عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ
نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ
أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ يَعْمَلَ
بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، وَكَادَ أَنْ
يُبْطِئ.
فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِنَّكَ قَدْ
أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ
بِهِنَّ، وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ
يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ
تُبَلِّغَهُنَّ، وَإِمَّا أَنْ
أُبَلِّغَهُنَّ. فَقَالَ: يَا أَخِي، إِنِّي
أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ
يُخْسَفَ بِي".
قَالَ: " فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتَّى
امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، فَقُعِدَ عَلَى
الشُّرَفِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ
وَجَلَّ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ
أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ
تَعْمَلُوا بِهِنَّ :
أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فَإِنَّ
مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا
مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ،
فَجَعَلَ يَعْمَلُ، وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ
إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ سَرَّهُ
أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ، وَإِنَّ
اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ،
فَاعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
.
وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللهَ
عَزَّ وَجَلَّ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ
عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا
صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا.
وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ
ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ
مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ
الْمِسْكِ، وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ
عِنْدَ اللهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ.
وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ
مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ
الْعَدُوُّ، فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى
عُنُقِهِ، وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا
عُنُقَهُ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ
أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ؟ فَجَعَلَ
يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ .
وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللهِ عَزَّ
وَجَلَّ كَثِيرًا، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ
كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا
فِي أَثَرِهِ، فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا،
فَتَحَصَّنَ فِيهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ
أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا
كَانَ فِي ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " .
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَأَنَا
آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ :
بِالْجَمَاعَةِ، وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ،
وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ
اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ
الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ
رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا
أَنْ يَرْجِعَ ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى
الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ
" .
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنْ
صَامَ، وَإِنْ صَلَّى ؟ قَالَ: " وَإِنْ
صَامَ، وَإِنْ صَلَّى، وَزَعَمَ أَنَّهُ
مُسْلِمٌ، فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ
بِأَسْمَائِهِمْ، بِمَا سَمَّاهُمُ اللهُ
عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ
عِبَادَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " .
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، رواه أحمد وغيره ،
وَالشَّاهِدُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
قَوْلُهُ: "وَإِنَّ اللَّهَ خَلْقَكُمْ
وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا".
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى
تَوْحِيدِهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ .. قَالَ بَعْضُ
الْأَعْرَابِ، وَقَدْ سُئِلَ: مَا الدَّلِيلُ
عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى؟ فَقَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْبَعْرَةَ
لَتَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ، وَإِنَّ أَثَرَ
الْأَقْدَامِ لَتَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ،
فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَأَرْضٌ ذَاتُ
فِجَاجٍ، وَبِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ؟ أَلَا
يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؟
وَحَكَى الرازي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ سَأَلُوهُ عَنْ
وُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى، فَقَالَ لَهُمْ:
ذَكَرُوا لِي سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ فِيهَا
أَنْوَاع الْمَتَاجِرِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ
تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَسِيرُ بِنَفْسِهَا
وَتَخْتَرِقُ الْأَمْوَاجَ الْعِظَامَ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَسُوقَهَا أَحَدٌ . فَقَالُوا:
هَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، فَقَالَ: هَذِهِ
الْمَوْجُودَاتُ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُحْكَمَةِ لَيْسَ لَهَا
خالق ؟!! فَبُهِتَ الْقَوْمُ وَأَسْلَمُوا .
وعَن مَالِكٍ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَهُ
عَنْ ذَلِكَ فَاسْتَدَلَّ بِاخْتِلَافِ
اللُّغَاتِ وَالْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ .
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ سُئِلَ
عَنْ وُجُودِ الله، فَقَالَ: هَذَا وَرَقُ
التُّوتِ طَعْمُهُ وَاحِدٌ تَأْكُلُهُ
الدُّودُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْإِبْرَيْسِمُ،
وَتَأْكُلُهُ النَّحْلُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْعَسَلُ، وَتَأْكُلُهُ الشَّاةُ
وَالْبَعِيرُ وَالْأَنْعَامُ فَتُلْقِيهِ
بَعْرًا وَرَوَثًا، وَتَأْكُلْهُ الظِّبَاءُ
فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْمِسْكُ وَهُوَ شَيْءٌ
وَاحِدٌ .
وَعَن أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ: هَاهُنَا حِصْنٌ أَمْلَسُ،
لَيْسَ له بابٌ وَلَا مَنْفَذٌ، ظَاهِرُهُ
كالْفِضَّةِ، وَبَاطِنُهُ كَالذَّهَبِ،
فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذِ انْصَدَعَ
فَخَرَجَ مِنْهُ حَيَوَانٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ،
ذُو شَكْلٍ حَسَنٍ وَصَوْتٍ مَلِيحٍ، يَعْنِي
بِذَلِكَ الْبَيْضَةَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا
الفرْخ .
وَقال أَبُو نُوَاسٍ:
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ
*** إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ
*** بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ
عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ***
بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ:
فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ
*** أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةً *** تَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
|