قَالَ: وَصَحَّ ضَرْبُ مَثَلِ الْجَمَاعَةِ
بِالْوَاحِدِ، كَمَا قَالَ: {رَأَيْتَهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}
الْأَحْزَاب 19 ، أَيْ: كَدَوَرَانِ عَيْنَيِ
الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ،
وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ
أَسْفَارًا} الْجُمُعَة 5 . وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: مَثَلُ
قِصَّتِهِمْ كَقِصَّةِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُسْتَوْقِدُ
وَاحِدٌ لِجَمَاعَةٍ مَعَهُ.
قُلْتُ: وَقَدِ الْتَفَتَ فِي أَثْنَاءِ
الْمَثَلِ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْجَمْعِ،
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ
مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ *
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}
وَهَذَا أَفْصَحُ فِي الْكَلَامِ .
ذِكْرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ
السَّلَفِ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ:
ذكَر السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ}
... ناسٌ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مَقْدَم
نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ نَافَقُوا،
فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رجُل كَانَ فِي
ظُلْمَةٍ، فَأَوْقَدَ نَارًا... فَأَبْصَرَ ما
حوله حَتَّى عَرَفَ مَا يَتَّقِي ، فَبَيْنا
هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طَفِئَتْ نَارُهُ،
فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ
أَذَى، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ: كَانَ فِي
ظُلْمَةِ الشِّرْكِ فَأَسْلَمَ، فَعَرَفَ
الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَعَرَفَ الْخَيْرَ
وَالشَّرَّ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ
كَفَرَ، فصار لا يعرف الحلال من الْحَرَامِ،
وَلَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَّا إِضَاءَةُ
النَّارِ فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى .
وقال عطاء الخراساني: هَذَا مَثَلُ
الْمُنَافِقِ، يُبْصِرُ أَحْيَانًا وَيَعْرِفُ
أَحْيَانًا، ثُمَّ يُدْرِكُهُ عَمَى الْقَلْبِ
.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ
عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ،
والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ
بْنِ أَسْلَمَ : هَذِهِ صِفَةُ
الْمُنَافِقِينَ..آمَنُوا حَتَّى أَضَاءَ
الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، كَمَا أَضَاءَتِ
النَّارُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا
، ثُمَّ كَفَرُوا فَذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ فَانْتَزَعَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ
فَيُشْبِهُ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: هَذَا
مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَزُّونَ
بِالْإِسْلَامِ، فَيُنَاكِحُهُمُ
الْمُسْلِمُونَ وَيُوَارِثُونَهُمْ
وَيُقَاسِمُونَهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا
مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ العِزّ،
كَمَا سُلِب صَاحِبُ النَّارِ ضَوءَه.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ،
عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي
الْعَالِيَةِ: إِنَّمَا ضَوْءُ النَّارِ مَا
أَوْقَدْتَهَا، فَإِذَا خَمَدَتْ ذَهَبَ
نُورُهَا، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، كُلَّمَا
تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، بِلَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَضَاءَ لَهُ، فَإِذَا
شَكَّ وَقَعَ فِي الظُّلْمَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: هِيَ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ؛ أَضَاءَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا
بِهَا وَشَرِبُوا وَأَمِنُوا فِي الدُّنْيَا،
وَنَكَحُوا النِّسَاءَ، وَحَقَنُوا
دِمَاءَهُمْ، حَتَّى إِذَا مَاتُوا ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ.
وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ مثْل ذلك ...
فلما كان عند الموت ، سُلِبَهَا الْمُنَافِقُ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فِي
قَلْبِهِ، وَلَا حَقِيقَةٌ فِي عَمَلِهِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}
يَقُولُ: لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى وَلَا
يُبْصِرُونَهُ وَلَا يَعْقِلُونَهُ، وَكَذَا
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ .
{فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَا يَرْجِعُونَ إِلَى هُدًى،
وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ بِسَنَدِهِ: لا
يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ . وَقَالَ
قَتَادَةُ: لَا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ
ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ
الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) }:
وَهَذَا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ
تَعَالَى لِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ قَوْمٌ يَظْهَرُ
لَهُمُ الْحَقُّ تَارَةً، وَيَشُكُّونَ
تَارَةً ، فَقُلُوبُهُمْ فِي حَالِ شَكِّهِمْ
وَتَرَدُّدِهِمْ {كَصَيِّبٍ} ، وَالصَّيِّبُ:
الْمَطَرُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ، وَنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَبُو
الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بن جبير،
وعطاء ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ،
وَقَتَادَةُ، وَعَطِيَّةُ العَوْفِي،
وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، والسُّدي،
وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَس .
كَمَطَرٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي
حَالِ ظُلُمَاتٍ، وَهِيَ الشُّكُوكُ
وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ . {وَرَعْدٌ} وَهُوَ
مَا يُزْعِجُ الْقُلُوبَ مِنَ الْخَوْفِ،
فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ
الْخَوْفَ الشَّدِيدَ وَالْفَزَعَ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ} الْمُنَافِقُونَ: 4، وَقَالَ:
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ
لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ
قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً
أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا
إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} التَّوْبَةِ:
56، 57 .
وَالْبَرْقُ: هُوَ مَا يَلْمَعُ فِي
قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الضَّرْبِ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ،
مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ:
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} أَيْ: وَلَا يُجْدي
حَذَرُهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ
بِهِمْ ، وَهُمْ تَحْتَ إِرَادَتِهِ، كَمَا
قَالَ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ *
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ
وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} الْبُرُوج 17-20 .
وَالصَّوَاعِقُ: جَمْعُ صَاعِقَةٍ، وَهِيَ
نَارٌ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَقْتَ
الرَّعْدِ الشَّدِيدِ .
ثُمَّ قَالَ: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ} أَيْ: لِشِدَّتِهِ ، وَضَعْفِ
بَصَائِرِهِمْ، وَعَدَمِ ثَبَاتِهَا
لِلْإِيمَانِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ} أَيْ لِشِدَّةِ ضَوْءِ
الْحَقِّ، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا
فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}
أَيْ كُلَّمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ
شَيْءٌ اسْتَأْنَسُوا بِه وَاتَّبَعُوهُ،
وَتَارَةً تعْرِض لَهُمُ الشُّكُوكُ فأظلمتْ
قلوبَهم فوقَفوا حائرين.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {كُلَّمَا أَضَاءَ
لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} يَقُولُ: كُلَّمَا
أَصَابَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ عِزِّ
الْإِسْلَامِ اطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ، وَإِنْ
أَصَابَ الْإِسْلَامَ نَكْبَةٌ قَامُوا
لِيَرْجِعُوا إِلَى الْكُفْرِ، كَقَوْلِهِ:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى
حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ
بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ
على وجْهِه} الْآيَةَ ، الْحَجّ 11 .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْرِفُونَ الْحَقَّ
وَيَتَكَلَّمُونَ ... عَلَى اسْتِقَامَةٍ ،
فَإِذَا ارْتَكَسُوا ... إِلَى الْكُفْرِ ،
{قَامُوا} أَيْ: مُتَحَيِّرِينَ.
وَهَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ،
وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ،
وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيُّ
بِسَنَدِهِ، عَنِ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَصَحُّ
وَأَظْهَرُ. وَاللَّهُ أعلم .
النُّور
الذي يُعْطاهُ المؤمنون يوم القيامة ويُحْرَم
منه المنافقون :
يُعْطَى النَّاسُ النُّورَ يوم القيامة
بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ
يُعْطَى مِنَ النُّورِ مَا يُضِيءُ لَهُ
مَسِيرَةَ فَرَاسِخَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يطْفَأ نُورُهُ تَارَةً وَيُضِيءُ لَهُ
أُخْرَى، فَيَمْشِي عَلَى الصِّرَاطِ تَارَةً
وَيَقِفُ أُخْرَى .
وَمِنْهُمْ مَنْ يطْفَأُ نُورُهُ
بِالْكُلِّيَّةِ وَهُمُ الخُلَّص مِنَ
الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى
فِيهِمْ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا
انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ
ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}
الْحَدِيد 13.
وَقَالَ تعالى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ:
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} الْآيَةَ ، الْحَدِيد 12
، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي
اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا
أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا
إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
التَّحْرِيمِ: 8 .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ
قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}
الْآيَةَ ، الْحَدِيد 12 ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَقُولُ: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ
يُضِيءُ نُورُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى
عَدَنَ، أَوْ بَيْنَ صَنْعَاءَ وَدُونَ
ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
مَنْ لَا يُضِيءُ نُورُهُ إِلَّا مَوْضِعَ
قَدَمَيْهِ". رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ،
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ
قَتَادَةَ، بِنَحْوِهِ.
وَهَذَا كَمَا قَالَ المِنْهَال بْنُ
عَمْرٍو، عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:
يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ
أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى نُورَهُ
كَالنَّخْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى نُورَهُ
كَالرَّجُلِ الْقَائِمِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا
عَلَى إِبْهَامِهِ يطفأ مرَّة ويَتَّقِد مرَّة
. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ
ابْنِ مُثَنَّى، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ الْمِنْهَالِ.
وَروَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن ابْنِ
مَسْعُودٍ: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ} التَّحْرِيم 8 ، قَالَ: عَلَى
قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى
الصِّرَاطِ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ
الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ
النَّخْلَةِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ
نُورُهُ فِي إِبْهَامِهِ يَتَّقِدُ مَرَّةً
وَيُطْفَأُ أُخْرَى.
وَروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ التَّوْحِيدِ إِلَّا يُعْطَى نُورًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْمُنَافِقُ
فَيُطْفَأُ نُورُهُ، فَالْمُؤْمِنُ مُشْفِقٌ
مِمَّا يَرَى مِنْ إِطْفَاءِ نُورِ
الْمُنَافِقِينَ، فَهُمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا
أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا.
تقسيم المؤمنين والكفار والمنافقين :
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا صَارَ النَّاسُ
أَقْسَامًا: مُؤْمِنُونَ خُلَّص، وَهُمُ
الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَاتِ الْأَرْبَعِ فِي
أَوَّلِ الْبَقَرَةِ، وَكُفَّارٌ خُلَّصٌ،
وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِالْآيَتَيْنِ
بَعْدَهَا، وَمُنَافِقُونَ، وَهُمْ قِسْمَانِ:
خُلَّصٌ، وَهُمُ الْمَضْرُوبُ لَهُمُ
الْمَثَلُ النَّارِيُّ، وَمُنَافِقُونَ
يَتَرَدَّدُونَ، تَارَةً يَظْهَرُ لَهُمْ
لُمَعٌ مِنَ الْإِيمَانِ وَتَارَةً يَخْبُو،
وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَثَلِ الْمَائِيِّ،
وَهُمْ أَخَفُّ حَالًا مِنَ الَّذِينَ
قَبْلَهُمْ.
وَهَذَا يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ
مَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ النُّورِ، مِنْ ضَرْبِ
مَثَلِ الْمُؤْمِنِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي
قَلْبِهِ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ،
بِالْمِصْبَاحِ فِي الزُّجَاجَةِ الَّتِي
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّي، وَهِيَ قَلْبُ
الْمُؤْمِنِ الْمَفْطُورِ عَلَى الْإِيمَانِ
وَاسْتِمْدَادُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ
الْخَالِصَةِ الْوَاصِلَةِ مِنْ غَيْرِ
تَخْلِيطٍ .
ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلَ العُبّاد مِنَ
الْكُفَّارِ، الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ
أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَيْسُوا عَلَى
شَيْءٍ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْجَهْلِ
الْمُرَكَّبِ، فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا
جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} الْآيَةَ،
النُّور 39 .
ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلَ الْكُفَّارِ
الجُهَّالِ الجَهْلَ الْبَسِيطَ، وَهُمُ
الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {أَوْ
كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ
مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ
سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ
إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا
فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} النُّور 40.
|