الكَثِير مِن تفسير ابن كَثِير (16)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


   {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) }:

   وَإِذَا قِيلَ لِلْمُنَافِقِينَ: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أَيْ: كَإِيمَانِ النَّاسِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ والجنَّة والنَّار وكلِّ ما أَخْبَرَ الله الْمُؤْمِنِينَ بِهِ ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ المناهي {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} يَعْنُونَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - أصحابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالسُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ يَقُولُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُهُمْ، يَقُولُونَ: أَنَصِيرُ نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَعَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمْ سُفَهَاءُ؟!!

    وَالسُّفَهَاءُ: جَمْعُ سَفِيهٍ، كَمَا أَنَّ الْحُكَمَاءَ جَمْعُ حَكِيمٍ ، وَالسَّفِيهُ: هُوَ الْجَاهِلُ ، ضعِيفُ الرَّأْيِ ، قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ؛ وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ سُفَهَاءَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} النِّسَاء 5، قَالَ عَامَّةُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ.

    وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ، سُبْحَانَهُ، جَوَابَهُمْ فِي دَعَاوَاهُم كُلِّهَا، وقَالَ هنا: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} فَأَكَّدَ السَّفَاهَةَ وحصَرَها فِيهِمْ.

    {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} يَعْنِي: وَمِنْ تَمَامِ جهلِهم وعقابِ الله لهم أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِحَالِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهْلِ، كالأحْمق الذي لا يعلم بحُمْقه ، والتائِهِ الذي لا يعلَم أنه ليس في الطريق ، وَذَلِكَ أَرْدَى لَهُمْ وَأَبْلَغُ فِي الْعَمَى، وَالْبُعْدِ عَنِ الْهُدَى.

     {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}:

     وَإِذَا لَقِيَ الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: {آمَنَّا} أَيْ: أَظْهَرُوا لَهُمُ الْإِيمَانَ وَالْمُصَافَاةَ، خِداعًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَمُصَانَعَةً وَتَقِيَّةً، لِيَشرَكوهم فِيمَا أَصَابُوا مِنْ خَيْرٍ وَمَغْنَمٍ، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} يَعْنِي: وَإِذَا انْصَرَفُوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ، فَضُمِّنَ {خَلَوْا} معنى انصرفوا؛ لتَعْدِيَتِه بإلى . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: "إِلَى" بِمَعْنَى "مَعَ"، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَعَلَيْهِ يَدُورُ كَلَامُ ابْنُ جَرِيرٍ.

     وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: {خَلَوْا} يَعْنِي: مَضَوْا، وَ {شَيَاطِينِهِمْ} يَعْنِي: سَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ من أحبار اليهود ورؤوس الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.

قَالَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} رؤوسهم مِنَ الْكُفْرِ. وقريبٌ من ذلك مروِيٌّ عن ابن عباس وعن مجاهد وعن قتادة ،وَبِنَحْوِ ذَلِكَ فسَّره أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ.

     قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَشَيَاطِينُ كُلِّ شَيْءٍ مَرَدَتُه، وَتَكُونُ الشَّيَاطِينُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} الْأَنْعَام 112 .

    وَأخرج أحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ"  .

    {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ إِنَّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: إِنَّمَا نَحْنُ نَسْتَهْزِئُ بِالْقَوْمِ وَنَلْعَبُ بِهِمْ.

     وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ.

     وَقَوْلُهُ تَعَالَى مُقَابَلَةً عَلَى صَنِيعِهِمْ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ...} ، ذَكَر ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الله فَاعِلٌ بِهِمْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الْآيَةَ ، الْحَدِيد 13 ، وَقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} آل عِمْرَانَ 178 . قَالَ: فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ، مِنَ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ وَسُخْرِيَّتِهِ وَمَكْرِهِ وَخَدِيعَتِهِ لِلْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الشِّرْكِ عِنْدَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ.

    وَقَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ:{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، وَقَوْلُهُ:{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} النِّسَاء 142 ، وَقَوْلُهُ:{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} التَّوْبَة 79، وَقوله:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} التَّوْبَة 67، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَجزاءَ

 الْخِدَاعِ ، فَأَخْرَجَ جَزَاءَهُ في الّلفْظ مخْرج فِعْلِهِم ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَيَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الشُّورَى 40، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} الْبَقَرَة 194 ، فَالْأَوَّلُ ظُلْمٌ، وَالثَّانِي عَدْلٌ، فَهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَا لَفْظًا فَقَدِ اخْتَلَفَا مَعْنًى . قَالَ: وَإِلَى هَذَا وَجَّهوا كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ.

    قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ المنافقين إِذَا خَلَوا إِلَى مَرَدَتِهم قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فِي التَّكْذِيبِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ في إظهار التصديق مُسْتَهْزِئُونَ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، فَيَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الدُّنْيَا، في عِصْمَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ خِلَافُ الَّذِي لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ  .

    ثُمَّ نَصَر ابْنُ جَرِير هَذَا الْقَوْلَ ؛ لِأَنَّ الْمَكْرَ وَالْخِدَاعَ وَالسُّخْرِيَةَ عَلَى وَجْهِ الّلعِب مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الِانْتِقَامِ وَالْمُقَابَلَةِ بِالْعَدْلِ وَالْمُجَازَاةِ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ.

     واستدلّ بما أخرجه بسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .. {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}، قَالَ: يَسْخَرُ بِهِمْ لِلنِّقْمَةِ مِنْهُمْ.

    {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قَالَ السُّدِّيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاس مِنَ الصَّحَابَةِ .. يَمُدهم: يُمْلِي لَهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَزِيدُهُمْ.

    قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ يَزِيدُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِمْلَاءِ وَالتَّرْكِ لَهُمْ فِي عُتُوّهم وتَمَرّدهم، كَمَا قَالَ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الْأَنْعَام 110.     

     وَالطُّغْيَانُ: هُوَ الْمُجَاوَزَةُ فِي الشَّيْءِ. كَمَا قَالَ: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} الْحَاقَّة 11

     قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: والعَمَه: الضَّلَالُ، يُقَالُ: عَمِهَ فُلَانٌ يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا: إِذَا ضَلَّ. وَقَوْلُهُ: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِم ، يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى ضُلَّالا ، لَا يَجِدُونَ إِلَى الْمَخْرَجِ سَبِيلًا .

    وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَمَى فِي الْعَيْنِ، وَالْعَمَهُ فِي الْقَلْبِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْعَمَى فِي الْقَلْبِ أيضًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الْحَجّ 46 .

     {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) }:

    قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} قَالَ: أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى.

    وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} أَيِ: الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ.

   وَحَاصِلُ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بَذَلُوا الْهُدَى ثَمَنًا لِلضَّلَالَةِ ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَصَلَ لَهُ الْإِيمَانُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا في قَوله تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}الْمُنَافِقُونَ 3.

    أَوْ مَن كان منهم اسْتَحَبَّ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى من البِداية كَمَا هو حَالُ فَرِيقٍ آخَرَ .. قَالَ تَعَالَى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أَيْ: مَا رَبِحَتْ تجارتُهم فِي تفْضيلِ الضَّلالة ، {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} أَيْ: رَاشِدِينَ فِي صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ.

    وروَى ابْنُ جَرِيرٍ في ذلك بسنده عَنْ قَتَادَةَ : قَدْ – وَاللَّهِ - رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَمِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْفُرْقَةِ، وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ . وبِسنَده روَى مثْلَه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ .

   {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) }:

     تَقْدِيرُ هَذَا الْمَثَلِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، شبَّههم فِي اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ، وَفي عَمَاهُم بَعْدَ التَّبْصِرَةِ ، بِمَنِ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ، وَاستَأْنَس بها ، وَأَبْصَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، إذا بنارِه تَنْطَفِئُ  وَيصير فِي ظَلَامٍ شَدِيدٍ، لَا يَدرِك شيئًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَصَمُّ الأذُن ، أَبْكَمُ اللسان ، أَعْمَى البصَر ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فِي اسْتِبْدَالِهِمُ الضَّلَالَةَ بالْهُدَى، وَفِي هَذَا الْمَثَلِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، كَمَا أَخْبَرَ الله عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ حَكَى هَذَا الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ السُّدِّيِّ ، ثُمَّ ذكَر أَنَّهُمْ بِإِيمَانِهِمُ اكْتَسَبُوا أَوَّلًا نُورًا ، ثُمَّ بِنِفَاقِهِمْ ثَانِيًا أَبْطَلُوا ذَلِكَ النُّورَ ، فَوَقَعُوا فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ فَإِنَّهُ لَا حَيْرَةَ أَعْظَمُ مِنْ حَيْرَةِ الدِّينِ.

     وَزَعَمَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَضْرُوبَ لَهُمُ الْمَثَلُ هَاهُنَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} الْبَقَرَة 8 .

    وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْهُمْ فِي حَالِ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنَّهُ كَانَ حَصَلَ لَهُمْ إِيمَانٌ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سُلبوه وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَحْضِرِ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} الْمُنَافِقُونَ 3 ؛ فَلِهَذَا وَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْمَثَلَ بِأَنَّهُمُ استضاؤوا بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَعْقَبَهُمْ الله ظُلُمَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.   
     

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©