الكَثِير مِن تفسير ابن كَثِير (15)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  

   قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَإِنْ قِيل: كَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخَادِعًا، مع أن أمْرَه ظاهرٌ لهم وأنَّه لَا يُنافِقهم إِلَّا تَقِيَّةً ؟! ، قِيلَ: لَا تَمْتَنِعُ الْعَرَبُ مِن تَسْمِيَتِه مُخادِعًا ، لأنه يَظُنّ أنّه تَخَلَّص مِن قَتْلِ وَسَبْيِ وَعَذَابِ الذين خَدَعَهم بِنِفاقِه وخِداعه في الدُّنيا .. ثم يَرْتَقِي في الخِداع حتّى يَخْدَع نَفْسَه ، عندما يُظْهِر لِنفْسه أنَّه يُعْطِيهَا أُمْنِيَّتَهَا وسُرُورَهَا، وَهُوَ يُجرِّعها كَأْسَ عَطَبِها، ويُنْزِلُ بها غَضَبَ اللَّهِ وَعِقَابَه ،ظَنًّا مِنْهُ مَعَ إِسَاءَتِهِ إِلَى آخِرتهِ أَنَّهُ مُحْسِنٌ !! كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .

   وَروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْج : {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} قَالَ: يُظْهِرُونَ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" يُرِيدُونَ أَنْ يَحْرِزُوا بِذَلِكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ  .

     وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ : نَعْتُ الْمُنَافِقِ ... يُصَدِّقُ بِلِسَانِهِ وَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَيُخَالِفُ بِعَمَلِهِ، يُصْبِحُ عَلَى حَالٍ وَيُمْسِي عَلَى غَيْرِهِ، وَيُمْسِي عَلَى حَالٍ ويصبح على غيره، ويتكفَّأُ تكَفُّؤَ السَّفِينَةِ كُلَّمَا هبَّت رِيحٌ هَبَّ مَعَهَا.

    {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }:

     قَالَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قَالَ: شَكٌّ، {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قَالَ: شَكًّا.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}: شكٌّ . وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ.

وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَطَاوُسٍ: يَعْنِي: الرِّيَاءَ.

    وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نِفَاقٌ ، {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قَالَ: نِفَاقًا، وَهَذَا كَالْأَوَّلِ.

    وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هَذَا مَرَضٌ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ فِي الْأَجْسَادِ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالْمَرَضُ: الشَّكُّ الَّذِي دَخَلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} قَالَ: زَادَهُمْ رِجْسًا، وَقَرَأَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} التَّوْبَةِ: 124، 125 ، قَالَ: شَرًّا إِلَى شَرِّهِمْ وَضَلَالَةً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ.

    وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، حَسَنٌ، وَهُوَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ قَالَهُ الْأَوَّلُونَ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِه تَعَالَى : {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} مُحَمَّد 17.

      وَقَوْلُهُ {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وَقُرِئَ: "يُكَذِّبُونَ"، وَقَدْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِهَذَا وَهَذَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا كَذَبَةً ويُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ ، يَجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا.

     لماذا كفَّ الرسول عليه الصلاة والسلام عن المنافقين ؟ :

     سُئِلَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ حِكْمَةِ كَفِّهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَعْيَانِ بَعْضِهِمْ، وَذَكَرُوا أَجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ :

    مِنْهَا : مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: "أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" ، أيْ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَغَيُّرٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يَعْلَمُونَ حِكْمَةَ قَتْلِهِ لَهُمْ، وهيَ الْكُفْر، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْرِفون مَا يَظْهَرُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ .

    قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا وَغَيْرِهِمْ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَالْأَبْهَرِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ  .  وهذا شبيهٌ بإعطائِهِ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِشَرِّ اعْتِقَادِهِمْ.

    وَمِنْهَا: مَا قَالَ مَالِكٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِيُبَيِّنَ لِأُمَّتِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ.

    قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ .

    قَالَ: وَمِنْهَا : مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا مَنَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِنِفَاقِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا يُظْهِرُونَهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُجْمَعِ عَلَى صِحَّتِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" .

     وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ مَنْ قَالَهَا جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، فَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُهَا وَجَدَ ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهَا لَمْ تَنْفَعْهُ فِي الْآخِرَةِ أحكامُ الدُّنْيَا، وأنه كان خَلِيطَ أَهْلِ الْإِيمَانِ ، قال تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} الْآيَةَ ، الْحَدِيد: 14 ، فَهُمْ يُخَالِطُونَهُمْ إلى بَعْضِ الْمَحْشَرِ، ثمّ يتَمَيَّزُون مِنْهُمْ وَيتَخَلَّفُون بَعْدَهُمْ ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا مَعَهُمْ حين يُكْشَف عن ساق .

    وَمِنْهَا : أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ مَعَ وُجُودِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَيُقْتَلُونَ إِذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ وَعَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ، قَالَ مَالِكٌ: الْمُنَافِقُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الزِّنْدِيقُ الْيَوْمَ .

    قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَتْلِ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ هَلْ يُسْتَتَابُ أَمْ لَا ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ دَاعِيَةً أَمْ لَا ؟ أَوْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ارْتِدَادُهُ أَمْ لَا ؟ أَوْ يَكُونُ إِسْلَامُهُ وَرُجُوعُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بَعْدَ أَنْ ظَهَر ؟ عَلَى أَقْوَالٍ ليس هنا مَوْضِعُ بَسْطِهَا .

     هل كان عليه الصلاة والسلام يعلَم كلَّ المنافقين ؟

      كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَعْلَمُ أَعْيَانَ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ ، وَمُسْتَنَدُ ذلك حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عند مسلم وأحمد وغيرهما فِي الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مُنَافِقًا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّذِينَ هَمُّوا أَنْ يَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظَلْمَاءِ اللَّيْلِ عِنْدَ عَقَبَةٍ هُنَاكَ؛ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُنْفِرُوا بِهِ النَّاقَةَ لِيَسْقُطَ عَنْهَا ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَمْرَهُمْ فَأَطْلَعَ عَلَى ذَلِكَ حُذَيْفَةَ ..

    وَلَعَلَّ امتناعَ الرسول صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ المنافقين كَانَ لِسَبَب مِن الأسباب المذكورة أَوْ لِغَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

    فَأَمَّا الذين لا يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أعيانهم ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فيهم: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} الْآيَةَ، التوبة .  

     وَقَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} الأحزاب ، وفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَد الإِغْراءُ بِهِمْ وَلَمْ يُدْرِكْ أَعْيَانَهمْ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُذْكَرُ لَهُ صِفَاتٌ ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وَقَدْ كَانَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ بِالنِّفَاقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ.

     {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ(12)}:

     قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ...الْفَسَادُ هُوَ الْكُفْرُ، وَالْعَمَلُ بِالْمَعْصِيَةِ.

وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: لَا تعصُوا فِي الْأَرْضِ ...لِأَنَّهُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أَوْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بالطَّاعة.

    وَهَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ.

    وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ مُجَاهِدٍ: إِذَا رَكِبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا ... قَالُوا: إِنَّمَا نحن على الهُدى، مصلحون.

   وَكما روى ابن جرير في تفسيره عن وَكِيع، وَعِيسَى بْن يُونُسَ، وعثَّام بْن عَلِيٍّ ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: قَالَ لَمْ يَجِئْ أَهْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ.

    وَروى ابْنُ جَرِيرٍ: بسنَده أيضًا، عَنْ سَلْمَانَ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ .

   ثمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : إنَّ سَلْمَانَ أَرَادَ بِهَذَا أَنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِهَذِهِ الصِّفَة فيما بعدُ ، أَعْظَمُ فَسَادًا مِنَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ أَحدٌ مِمَّنْ تِلْكَ صِفَتُهُ . 

    ومُعْظم الذين يحكمون المسلمين هذه الأيام ، أو لهم نُفُوذٌ فيهم ، تنطبِق عليهم هذه الصفات بصورة أعظم وطاقاتهم لم يَسْبِق لها مثيلٌ في أيِّ زمان ، ولعلهم الذين قصدهم سلمان رضي الله عنه - وكلامه في حكْم المرفوع - .. يزعمون الإسلام ، وهم يدمِّرون كل مقدَّرات الإسلام والمسلمين بكلِّ إمكانات وقدُرات المسلمين ، لأنهم مستحْوِذون على كل ذلك بسبب حُكْمهم للمسلمين ، و بسبب معاونة الدُّوَل الكبرى لهم الحاقدة على الإسلام والمسلمين ، وولائهم لهم ، واستيراد مناهجهم في الحياة كالديمقراطية والاشتراكية ، ومع ذلك يزعمون الإصلاح وهم أعظم المفسدين !! وأما المنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا حكَّامًا ، ولا عندهم عُشْر معشار ماعند مُنافَقي هذه الأيام من الإضرار بالمسلمين.

    قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَهْلُ النِّفَاقِ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِمَعْصِيَتِهِمْ رَبَّهُمْ، وَتَضْيِيعِهِمْ فَرَائِضَهُ، وَشَكِّهِمْ فِي دِينِهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا التَّصْدِيق بِه وَاليقين ، وبِكَذِبِهِم الْمُؤْمِنِينَ ، وَمُظَاهَرَتِهمْ الكافرينَ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، فَذَلِكَ إِفْسَادُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ.

     وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ، فَإِنَّ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ اتِّخَاذَ الْمُؤْمِنِينَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} الْأَنْفَالِ: 73، فَقَطَعَ اللَّهُ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} النِّسَاء 144، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} النِّساء145.

    فَالْمُنَافِقُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُهُ الْإِيمَانُ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ الْفَسَادُ مِنْ جِهَةِ الْمُنَافِقِ حَاصِلًا؛ لِأَنَّهُ غَرّ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَوَالَى الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أَيْ: نُرِيدُ أَنْ نُدَارِيَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَنَصْطَلِحَ مَعَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، كَمَا روَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عن ابن عَبَّاسٍ .. يَقُولُ اللَّهُ: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} يَقُولُ: أَلَا إِنَّ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِصْلَاحٌ هُوَ عَيْنُ الْفَسَادِ، وَلَكِنْ مِنْ جَهْلِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ بِكَوْنِهِ فَسَادًا.
     

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©