الكَثِير مِن تفسير ابن كَثِير (14)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)}:

     قَالَ السُّدِّيُّ: {خَتَمَ اللَّهُ} أَيْ: طَبَعَ اللَّهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ إِذْ أَطَاعُوهُ؛ فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ.

    وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: قَالَ مُجَاهِدٌ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ الذُّنُوبَ عَلَى الْقَلْبِ تَحُفُّ بِهِ  مِنْ كُلِّ نَوَاحِيهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ، فَالْتِقَاؤُهَا عَلَيْهِ الطَّبْعُ، وَالطَّبْعُ الْخَتْمُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ.

    قَالَ ابْنُ جُرَيْج: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثير، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: الرّانُ أَيْسَرُ مِنَ الطَّبْعِ، وَالطَّبْعُ أَيْسَرُ مِنَ الْأَقْفَالِ، وَالْأَقْفَالُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.

     وَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَرَانَا مُجَاهِدٌ بِيَدِهِ فَقَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي مِثْلِ هَذِهِ  - يَعْنِي: الْكَفَّ المفتوح - فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا ضُمَّ مِنْهُ، وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ الْخِنْصَرِ هَكَذَا، فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمّ، وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى، فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمّ. وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى وَهَكَذَا، حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ : يُطْبَعُ عَلَيْهِ بِطَابَعٍ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ: الرَّيْنُ . وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ وَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ.

    قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ أيْ كنايةٌ عَنْ تَكَبُّرِهِمْ، وَإِعْرَاضِهِمْ .

     قَالَ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ . يعني بعد أن تكبَّروا.

    فههنا فعلان : فِعْلٌ مِن الكافرين وهو التكبُّر والإعراض ، والآية السابقة تشير إليه ، والفِعْل الثاني مِن الله كما في الآية الثانية ، وهو الختْم فهو عقابٌ على فعْلهم المذكور لأن الله لا يظلم أحدًا .  

    والمعتزلة ومنهم الزمخشري كما سيأتي ، لايريدون نسبة الختْم إلى الله تنزيهًا له بزعْمهم ، مع أنه لانَقْص فيه ،لأن معاقبة المُسِيء محمودة ، وكما يعاقبهم الله بالختْم في الدّنيا لتكبُّرهم يُعاقبهم في الآخِرة بالنار ، وفِعْل الله محمودٌ في العقابَين ، لأن ذلك قمَّة العدْل ، قال تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ، لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) الرعد .

    الختْم وأمثاله من أنواع العقاب فِعْلٌ من الله جزاءً على أفعال الكافرين في الإعراض:     

    (قُلْتُ) : وَقَدْ أَطْنَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَا رَدَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَمَا جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اعْتِزَالُهُ؛ لِأَنَّ الْخَتْمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَمَنْعَهَا مِنْ وُصُولِ الْحَقِّ إِلَيْهَا لا يلِيقُ بالله فِي اعْتِقَادِهِ ، وَلَوْ فَهِمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} الصف ، وَقَوْلَهُ :{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الأنعام ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ لَعَرَف أَنَّ الله خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى ، جَزَاءً وِفَاقًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ، وَهَذَا عَدْلٌ حَسَنٌ مِن الله وَلَيْسَ بِقَبِيحٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

    قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْخَتْمِ وَالطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ مُجَازَاةً لِكُفْرِهِمْ كَمَا قَالَ: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} .

    وَذكَر حَدِيث تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ" رواه أحمد وغيره ، وقال محقِّقو مسند أحمد صحيح على شرط الشيخين ، وَذكَر حَدِيث حُذَيْفَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا" الْحَدِيثَ ، رواه مسلم وغيره .

    قَالَ ابن جرير: وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي ذَلِكَ مَا صَحّ بِنَظِيرِهِ الخبرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ ونزعَ وَاسْتَعْتَبَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الْمُطَفِّفِينَ 14، رَوَاهُ أحمد والتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

     ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَغْلَقَتْهَا، وَإِذَا أَغْلَقَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الْخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالطَّبْعُ، فَلَا يَكُونُ لِلْإِيمَانِ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ .

     وَالْوَقْفُ التَّامّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} ، وَقَوْلُهُ {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} جُمْلَةٌ أُخرى تَامَّةٌ، فَإِنَّ الطَّبْعَ يَكُونُ عَلَى الْقَلْبِ وَعَلَى السَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةُ معناها الْغِطَاءُ وتَكُونُ عَلَى الْبَصَرِ، كَمَا قَالَه السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

     وروى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ. وَروى عن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْبَصَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} الشُّورَى 24، وَقَالَ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} الجاثية 23  .

    {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}:

      تَقَدَّمَ وَصْفُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَرْبَعِ آيَاتٍ، والْكَافِرِينَ بِآيَتَيْنِ، ثم بَيَّن تَعَالَى حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُمْ يَشْتَبِهُ عَلَى النَّاسِ أَطْنَبَ فِي ذِكْرِهِمْ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كُلُّ واحدةٍ منها نِفَاقٌ.

    كَمَا أَنْزَلَ فيهم سُورَةَ بَرَاءَة ، وَسُورَةَ الْمُنَافِقِينَ ، وَذَكَرَهُمْ فِي سُورَةِ النُّورِ وَغَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، تَعْرِيفًا لِأَحْوَالِهِمْ ، لِاجتناب كل صفةٍ مِن هذه الصفات، وَاجتناب المنافقين أيْضًا .    

    والنِّفَاقُ: هُوَ إِظْهَارُ الْخَيْرِ وَإِسْرَارُ الشَّرِّ، وَهُوَ نوعان : اعْتِقَادِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُدُ صَاحِبُهُ فِي النَّارِ، وَعَمَلِيٌّ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، و كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُه فِعْلَهُ، وسِرّه عَلَانِيَتَهُ، وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ، وَمَشْهَدُهُ ومَغِيبه .

   سَبَب ظهور النفاق في المدينة :

    وَنَزَلَتْ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ، بَلْ على العكْس كَانَ بعض النَّاسِ يُظْهِرُ الْكُفْرَ مُكْرَهًا، وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنٌ، فلمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ بِهَا الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَبِهَا الْيَهُودُ: بَنُو قَيْنُقَاع وَبَنُو النَّضِير حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ ، وَبَنُو قُرَيْظَة حُلَفَاءُ الْأَوْسِ .. أسلَم الْأَنْصَار مِنْ قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَقَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلام، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

     وكان عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ رَأْسًا فِي الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ سَيِّدَ الأوس والخزرج فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ، فَلمَّا أَسْلَمُوا، وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ، بَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ .

     فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ قَالَ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّه فَأَظْهَرَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، وَدَخَلَ مَعَهُ طَوَائِفُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ ، وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَمِنْ ثَمّ وُجِد النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ مكرَهًا، بَلْ يُهَاجِرُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ، وَوَلَدَهُ، وَأَرْضَهُ ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

     قَال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ. وَكَذَا فسَّرها بِالْمُنَافِقِينَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ.

    وَلِهَذَا نبَّه اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بهِمُ الْمُؤْمِنُونَ، فَيَقَعَ فَسَادٌ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُمْ، وَهُمْ كُفَّارٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لأن إحسان الظنِّ بأهل الفجور مِنَ الْمَحْذُورَاتِ الْكِبَارِ.. فَقَالَ تَعَالَى: 

    {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } ، أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ مجرَّد قَوْلٍ كاذب ..  

    كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الْمُنَافِقُونَ: 1 ، أَيْ: إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فَقَطْ ؛ وَلِهَذَا يُؤَكِّدُونَ فِي الشَّهَادَةِ بِإِنَّ وَلَامِ التَّأْكِيدِ فِي خَبَرِهَا؛ كَمَا أكَّدوا هنا قَوْلَهُمْ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} إمْعانًا في الخداع !! وقد أكْذَبهم اللَّهُ فِي شَهَادَتِهِمْ ، بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} الْمُنَافِقُونَ: 1 ، وَبِقَوْلِهِ هنا :{وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} .

 {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وما يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُم وما يَشْعُرُون(9)} :

    أَيْ: يُظْهِرون الْإِيمَان مَعَ إِسْرَارِهِمُ الْكُفْرَ، ويَعْتَقِدُونَ بِجَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ الخداع نَافِعُهُمْ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ يَرُوجُ عَلَيْهِ و يَرُوجُ أيضًا عَلَى بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ!! ومِن جهْل المنافقين فإنّهم يُكَرِّرون ذلك يوم القيامة !!كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُون} الْمُجَادَلَةِ: 18 .

    وَلِهَذَا قَابَلَهُمْ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} النِّسَاءِ: 142 .

     وَمِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ: "وَمَا يُخَادِعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ"، وَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ تَرْجِعُ إلى معنى واحد.  
     

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©