رحم
الله سيد قطب الذي قال عند تفسير قوله تعالى :
( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... ) من
سورة الإسراء : ( ولكن الانحراف الطفيف في أول
الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية
الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في
جزء منها ولو يسيراً ، وفي إغفال طرف منها ولو
ضئيلاً ، لا يملك أن يقف عندما سلّم به أول
مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلّما رجع
خطوة إلى الوراء ) .
إن زماننا زمان الغربة والشدة والحرب على
المتمسكين بالدين في سائر بلاد المسلمين ،
وتقلّ الشدة كلّما تنازل المتمسك عن المبادئ
والتكاليف وتكيّف مع الواقع . وبسبب ذلك
يتفاوت الناس ومنهم الدعاة ، فمنهم من يرزقه
الله الثبات ، لأنه سبحانه يعلم شدة حرصه على
التمسك، فيكافئه بالطمأنينة في ثباته ويزيده
هدًى إلى هداه ويجعل له مخرجا . ومنهم من يبدأ
مسلسل التنازلات التي لا تقف عند حد ، حتى
يصير إحدى مفردات الواقع التي تسير معه ، فلا
يؤمّل منها إصلاح ولا تحسين . ( أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) . أتذكَّرُ
في الماضي القريب في ديار المسلمين حين كان
معظم الدعاة منزعجين من الاختلاط في بعض
المؤسسات التعليمية وفي بعض الوظائف ، وكانوا
يتكلمون ويحذّرون ويذكرون الضوابط الشرعية
لخروج المرأة وعملها ، ويُفَصِّـلون في الكلام
على الحجاب ، وأن الأصل قرار المرأة في دارها
، وأنها قاعدة الأسرة ومدرسة البيت ونائبة
الرجل في معظم اليوم ... ثم تواردت الأفكار
الأجنبية وتكاثف الغزو الغربي ، وبدأ التراجع
، وإذا بالمرأة تقترب بالتدريج من الرجل حتى
في مؤسسات المتديّنين ، ويتم التساهل في
الضوابط الشرعية ، وتترك المرأة البيت معظم
النهار على عكس ما سبق ، وقد تُصافِح الرجل
وتخالطه وتزاحمه فيما كان في الماضي من
خصوصياته ، وتُهمِل ولايتها في البيت لتُنافِس
الرجل في ولايته في الخارج .... وما كان
يتبنّاه من ذلك غير المعروفين بالتمسك بالدين
، صار يتبنّاه بعض من كانوا معروفين بالتمسك ،
وأخذوا يُزايدون في الوقوف مع ما يزعمونه حقوق
المرأة لرفع الظلم الموهوم ، ويقفون مع
الكُوتا وهي فرْض نسبةٍ للنساء في المجالس
والولايات ، وهو أمرٌ غير مقبول في الغرب نفسه
، لأنه يتناقص مع الديمقراطية نفسها . وأذكر
في الماضي أنه عندما وَفَد شعار الديمقراطية
من الغرب ، قال الناس وفي مقدّمتهم الدعاة إن
مبدأنا هو الشورى وهو يختلف كل الاختلاف عن
الديمقراطية التي تسوّي بين العالم والجاهل
والمتديّن والفاسق ، وتسمح بالتحليل والتحريم
بعيداً عن الدين . ثم مع كثافة الغزو قال
بعضهم : ننحني للعاصفة فنقيّد ما نأخذه من
الديمقراطية بالشورى ، فنقول : الديمقراطية
الشوروية ... ومرّتْ الأيام ولم تستمر مدة
القيد والتلفيق ! فإذا بالشورى تذهب ويبقى
مصطلح الديمقراطية … وإذا بالذين كانوا
يرفضونه صاروا يتفننون في الترويج له بأنه
المخرج والخيار النموذجي … حتى في داخل
مؤسساتهم … وأن التفريق بين العالم وغيره
كهنوت … وأن لكل شخص الحق في ترشيح نفسه
. وتمّ تجاوز المانع الشرعي ، وتم
إقصاء أصحاب المناصحات وتقديم الصداقات
والولاءات ، وصار غير الملتزم بالتديّن ممن
يمارس غوايةً وانحرافاً لا يعبَّر عنه
بالمصطلح الشرعي ، وإنما يعبّر عنه بـ ( الآخر
) من باب الاعتذار له والاحترام . وأذكر في
الماضي أنه كان إذا انتشر منكرٌ في الشوارع أو
في وسائل الإعلام أو في غيرها ضجّ الناس وفي
مقدمتهم الدعاة ـ رغم قلتهم ـ وتعاونوا عبر
المساجد ومن خلال العلماء والواجهات
والمسئولين حتى يتم إيقاف المنكر ، لا يهدأ
للجميع بال إلا بذلك ، ولكن في هذه الأيام سكت
الناس وفي مقدمتهم كثير من الدعاة عن كثير من
المنكرات التي لا يخطئها نظَرُ الناظر ولا
سمْعُ السامع ، وصارتْ اهتماماتهم ولقاءاتهم
وتنظيماتهم وترتيباتهم تتناول أموراً أخرى ،
وتتهرّب من الحديث عن المنكرات وتتحاشى الخطاب
الشرعي ، وتقتصد إلى أبعد الحدود في ذكر
الآيات والأحاديث حذراً من تهمة التزمّت ،
وأخْذاً بِلُغة العصْرنة ، وصارت الصحف
والمجلات والمؤتمرات التي كانت لديهم في
الماضي مكرّسة في الأصل للتواصي بالحق
والتواصي بالصبر ، صارتْ تحلّق بعيداً في
عوالم السياسة العقيمة والتعبيرات المطّاطة
والدغدغات الحالمة ، وإذا ذكرتْ شيئاً من الحق
فتستعير له غطاء آخر ولا تسميه باسمه الشرعي ،
وإن نقَدتْ شيئاً من الباطل فتنقده باسم حقوق
الإنسان والحرية والسلام الاجتماعي وتخجل أن
يكون النّقْد باسم الدين والإسلام ، وهكذا مضى
الكثير في مسلسل التنازلات … ولن تقف عند
حد!!! كما أشار سيد قطب رحمه الله ولَـئِن
أصبحنا نردّد بأسفٍ قول القائل :
يا معشر القُرّاء يا ملْح البلدْ ما يصلح
الملْح إذا الملحُ فسدْ
لكننا نقول : إن من اختار لنفسه ذلك ولم يراجع
نفسه بالتوبة فإنما يضر نفسه ، ونحن اليوم في
الدنيا وغداً في الآخرة ( وَمَا يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ ) . وسوف يبقى
الإسلام ولو تنازَل من تنازَل قال تعالى : (
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ
) .
|