والعَوْدُ أحمد يا ملْح البلد

 

 

25/1/1428ـــ13/2/2007

 

 رحم الله سيد قطب الذي قال عند تفسير قوله تعالى : ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ... ) من سورة الإسراء : ( ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً ، لا يملك أن يقف عندما سلّم به أول مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلّما رجع خطوة إلى الوراء ) .

إن زماننا زمان الغربة والشدة والحرب على المتمسكين بالدين في سائر بلاد المسلمين ، وتقلّ الشدة كلّما تنازل المتمسك عن المبادئ والتكاليف وتكيّف مع الواقع . وبسبب ذلك يتفاوت الناس ومنهم الدعاة ، فمنهم من يرزقه الله الثبات ، لأنه سبحانه يعلم شدة حرصه على التمسك، فيكافئه بالطمأنينة في ثباته ويزيده هدًى إلى هداه ويجعل له مخرجا . ومنهم من يبدأ مسلسل التنازلات التي لا تقف عند حد ، حتى يصير إحدى مفردات الواقع التي تسير معه ، فلا يؤمّل منها إصلاح ولا تحسين . ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) . أتذكَّرُ في الماضي القريب في ديار المسلمين حين كان معظم الدعاة منزعجين من الاختلاط في بعض المؤسسات التعليمية وفي بعض الوظائف ، وكانوا يتكلمون ويحذّرون ويذكرون الضوابط الشرعية لخروج المرأة وعملها ، ويُفَصِّـلون في الكلام على الحجاب ، وأن الأصل قرار المرأة في دارها ، وأنها قاعدة الأسرة ومدرسة البيت ونائبة الرجل في معظم اليوم ... ثم تواردت الأفكار الأجنبية وتكاثف الغزو الغربي ، وبدأ التراجع ، وإذا بالمرأة تقترب بالتدريج من الرجل حتى في مؤسسات المتديّنين ، ويتم التساهل في الضوابط الشرعية ، وتترك المرأة البيت معظم النهار على عكس ما سبق ، وقد تُصافِح الرجل وتخالطه وتزاحمه فيما كان في الماضي من خصوصياته ، وتُهمِل ولايتها في البيت لتُنافِس الرجل في ولايته في الخارج .... وما كان يتبنّاه من ذلك غير المعروفين بالتمسك بالدين ، صار يتبنّاه بعض من كانوا معروفين بالتمسك ، وأخذوا يُزايدون في الوقوف مع ما يزعمونه حقوق المرأة لرفع الظلم الموهوم ، ويقفون مع الكُوتا وهي فرْض نسبةٍ للنساء في المجالس والولايات ، وهو أمرٌ غير مقبول في الغرب نفسه ، لأنه يتناقص مع الديمقراطية نفسها . وأذكر في الماضي أنه عندما وَفَد شعار الديمقراطية من الغرب ، قال الناس وفي مقدّمتهم الدعاة إن مبدأنا هو الشورى وهو يختلف كل الاختلاف عن الديمقراطية التي تسوّي بين العالم والجاهل والمتديّن والفاسق ، وتسمح بالتحليل والتحريم بعيداً عن الدين . ثم مع كثافة الغزو قال بعضهم : ننحني للعاصفة فنقيّد ما نأخذه من الديمقراطية بالشورى ، فنقول : الديمقراطية الشوروية ... ومرّتْ الأيام ولم تستمر مدة القيد والتلفيق ! فإذا بالشورى تذهب ويبقى مصطلح الديمقراطية … وإذا بالذين كانوا يرفضونه صاروا يتفننون في الترويج له بأنه المخرج والخيار النموذجي … حتى في داخل مؤسساتهم … وأن التفريق بين العالم وغيره كهنوت … وأن لكل شخص الحق في ترشيح نفسه     .    وتمّ تجاوز المانع الشرعي ، وتم إقصاء أصحاب المناصحات وتقديم الصداقات والولاءات ، وصار غير الملتزم بالتديّن ممن يمارس غوايةً وانحرافاً لا يعبَّر عنه بالمصطلح الشرعي ، وإنما يعبّر عنه بـ ( الآخر ) من باب الاعتذار له والاحترام .    وأذكر في الماضي أنه كان إذا انتشر منكرٌ في الشوارع أو في وسائل الإعلام أو في غيرها ضجّ الناس وفي مقدمتهم الدعاة ـ رغم قلتهم ـ وتعاونوا عبر المساجد ومن خلال العلماء والواجهات والمسئولين حتى يتم إيقاف المنكر ، لا يهدأ للجميع بال إلا بذلك ، ولكن في هذه الأيام سكت الناس وفي مقدمتهم كثير من الدعاة عن كثير من المنكرات التي لا يخطئها نظَرُ الناظر ولا سمْعُ السامع ، وصارتْ اهتماماتهم ولقاءاتهم وتنظيماتهم وترتيباتهم تتناول أموراً أخرى ، وتتهرّب من الحديث عن المنكرات وتتحاشى الخطاب الشرعي ، وتقتصد إلى أبعد الحدود في ذكر الآيات والأحاديث حذراً من تهمة التزمّت ، وأخْذاً بِلُغة العصْرنة ، وصارت الصحف والمجلات والمؤتمرات التي كانت لديهم في الماضي مكرّسة في الأصل للتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، صارتْ تحلّق بعيداً في عوالم السياسة العقيمة والتعبيرات المطّاطة والدغدغات الحالمة ، وإذا ذكرتْ شيئاً من الحق فتستعير له غطاء آخر ولا تسميه باسمه الشرعي ، وإن نقَدتْ شيئاً من الباطل فتنقده باسم حقوق الإنسان والحرية والسلام الاجتماعي وتخجل أن يكون النّقْد باسم الدين والإسلام ، وهكذا مضى الكثير في مسلسل التنازلات … ولن تقف عند حد!!! كما أشار سيد قطب رحمه الله ولَـئِن أصبحنا نردّد بأسفٍ قول القائل :

يا معشر القُرّاء يا ملْح البلدْ     ما يصلح الملْح إذا الملحُ فسدْ

لكننا نقول : إن من اختار لنفسه ذلك ولم يراجع نفسه بالتوبة فإنما يضر نفسه ، ونحن اليوم في الدنيا وغداً في الآخرة ( وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ ) . وسوف يبقى الإسلام ولو تنازَل من تنازَل قال تعالى : ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) .

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©