روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن عمر
قال : كنا قد نتحدث أن غسان
تَنْعَل الخيل ـ
أي تُجَهِّز النعال للخيل ـ لغزْونا. فنزل
صاحبي الأنصاريُّ يوم نَوْبَتِه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فرجع إلينا عِشاءً فضرب
بابي ضرباً شديداً ، وقال أثَمَّ هو ؟
ففزعتُ فخرجتُ إليه ، فقال قد حدث اليوم أمرٌ
عظيم ! قلت ما هو؟ أجاءتْ غسان ؟ قال : لا بل
أعظم من ذلك وأَهْوَل! طلَّق النبي صلى الله
عليه وسلم نساءه ... ثم قال : فجمعت عليَّ
ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله
عليه وسلم ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم
مشرَبة ـ غُرْفة في مكان مرتفع ـ له واعتزل
فيها ... فخرجت فجئت إلى المنبرـ يعني في
المسجد ـ فإذا حوله رهطٌ يبكي بعضهم ، فجلست
معهم قليلا ثم غلبني ما أجِد فجئت المشرُبة
التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت
لغلام له أسود: استأذن لعمر . فدخل الغلام
فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع فقال
كلمت النبي صلى الله عليه وسلم وذكرتُك له
فصمَت ، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند
المنبر، ثم غلبني ما أجِد فجئت فقلت للغلام
استأذن لعمر . فدخل ثم رجع فقال قد ذكرتك له
فصمَت ، فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند
المنبر، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت
أستأذن لعمر . فدخل ثم رجع إلي فقال قد ذكرتك
له فصمَت ، فلما ولَّيت منصرفاً قال إذا
الغلام يدعوني فقال قد أذن لك النبي صلى الله
عليه وسلم .
فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا
هو مضطجع على رِمال ـ حِبال ـ حصير ليس بينه
وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه ، متكئاً على
وسادة من أَدَم ـ جِلْد ـ حَشْوُها ليف ،
فـسلمتُ علـيه ثـم قلـت وأنـا قائم يا رسول
الله أطلقت نساءك ؟ فرفع إليَّ بصره فقال:( لا
) فقلت الله أكبر ـ وكان الرسول صلى الله عليه
وسلم اعتزل نساءه لمدة شهر بسبب بعض تصرفاتهن
في أمور ترجع إلى الغيرة ونحوها ـ ...
وفي صحيح مسلم أن عمر هو الذي استنبط
الحقيقة في تطليق الرسول صلى الله عليه وسلم
نساءه وتأَكَّد أنه لم يَحْدُث ، ونزل قوله
تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ
الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى
أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) النساء
.اهـ .
ويظهر جليّاً في هذا الحديث شدة اعتناء
الصحابة بما يشغل خاطر النبي صلى الله عليه
وسلم ، وأنه كان أعظم من عليهم من غزو غسان
حتى صار بعضهم يبكي من ذلك . وأنهم كانوا لا
يبالون كثيراً بالغزو الخارجي إذا كان وضعهم
الداخلي مستقراً رغم أنه ورد في بعض روايات
الحديث أن عمر قال عن غزو غسان إنه ملأ صدورنا
، وفي رواية أنهم كانوا يخافون ذلك .. ولكن
الله كفاهم هذا الغزْو .
كما أن الحديث يفيد أن مرجعية الاستنباط إلى
العلماء ، ويدل على مكانتهم ، فعمر هو الذي
تابع شائعة الطلاق حتى عرف الحقيقة وأخبر
الناس .
وإن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو إيذاء
ورثته وهم العلماء ، أو إيذاء الصالحين أمرٌ
خطيرٌ وإخلالٌ بالجبهة الداخلية قال تعالى:
(والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما
اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا)
الأحزاب .
وعن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان و صهيب وبلال في نَفَر ،
فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عُنُق
عدوِّ الله مأْخَذَها ـ وكان هذا قبل إسلام
أبي سفيان عندما جاء إلى المدينة لمحاولة
تثبيت صلح الحديبية عندما أخَلَّت قريشٌ
وحلفاؤها به ـ قال فقال أبو بكر: أتقولون هذا
لشيخ قريش وسيدهم ؟ فأتى النبي صلى الله عليه
وسلم فأخبره فقال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتَهم
، لئن كنت أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربك!) فأتـاهم
أبو بكر فقال يا إخْـوَتَاه أغـضـبتـكم ؟
قالوا : لا, يغفر الله لك يا أخي . رواه مسلم
وغيره .
ونحن اليوم نتوقع الخطر الكبير من
التآمر الأجنبي على بلدنا، فالبوارج في البحار
المحيطة ، والفوضى الخلاقة على أشدُّها ، و
لقاء لندن الذي انعقد بدون استئذان اليمن بغرض
فرْض الوصاية على اليمن خرج بقرارات
بُرْقُعُها التفضُّل ، وحقيقتها التدخُّل ،
ولا خطر أعظم علينا من أن نؤتى من قِبَل
أنفسنا وذنوبنا ، والأصل أن نتوب ونرجع إلى
الله ثم نرجع إلى أولي الأمر وهم علماؤنا و
إلى أهل الحل والعقد فينا ، ونجْمَع كلمتنا ،
ونحْرِص على أُخُوَّتنا ووَحدتنا من أجل
المَخْرَج و معالجة الأوضاع ، ونُخْلِص في
التوبة والرجوع إلى الله ونُلِحُّ في الدعاء
والقنوت كما ذكر العلماء في بيانهم ، و قد نال
البيان قبولاً واسعاً في الداخل والخارج
والحمد لله .
وإذا اجتهد الناس في تقوية
علاقتهم بالله فالله يدْفع عنهم ، والأمور
كلها بيده ، قال تعالى : ( ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا )النساء . وقال
تعالى: ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) الحج
. وقال تعالى : (وإن تصبروا وتتقوا لايضركم
كيدهم شيئا) آل عمران . وقال تعالى مخاطباً
الكافرين : ( ولن تُغْني عنكم فئتُكم شيئاً
ولو كَثُرتْ وأن الله مع المؤمنين )الأنفال .
وقال تعالى: ( وإن يقاتلوكم يولُّوكم الأدبار
ثم لا ينصَرون ) آل عمران . فالنصر بعيد عن
الكافرين إلا أنهم قد يُسلَّطون عليهم بسبب
الذنوب . (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن
الكافرين لا مولى لهم) محمد .
و في (حلية الأولياء)
عن رجل من قريش أن عمر بن عبد العزيز عَهِد إلى بعض عُمَّاله : عليك
بتقوى الله في كل حال يَنْزِل بك ، فإن تقوى
الله أفضلُ العُدَّة وأبلَغُ المكيدة وأقْوى
القوة ، ولا تكن في شيء من عداوة عدوِّك أشدَّ
احتراساً لنفسك ومَن معك من معاصي الله ، فإن
الذنوب أخوف عندي على الناس من مكيدة عدُوّهم
، وإنما نعادي عدوَّنا ونستنصر عليهم بمعصيتهم
، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم ، لأن عددنا
ليس كعددهم ولا قوَّتنا كقوتهم ، فإنْ لا
ننصرْ عليهم بطاعتنا لا نغلبهم بقوتنا ، ولا
تكونن لعداوة أحد من الناس أحذر منكم لذنوبكم
، ولا أشدّ تعاهداً منكم لذنوبكم ، واعلموا أن
عليكم ملائكةً لِلَّهِ حفَظَةً عليكم يعلمون
ما تفعلون في مسيركم ومنازلكم ، فاستحيُوا
منهم وأحسنوا صحابتهم ولا تؤذوهم بمعاصي الله
، وأنتم زعمتم في سبيل الله ، ولا تقولوا إن
عدونا شرٌّ منا ولن يُنصَروا علينا وإن أذنبنا
، فكم من قوم قد سُلِّط أو سُخِط عليهم بأشرَّ
منهم لذنوبهم ، وسلوا الله العون على أنفسكم
كما تسألونه العون على عدوكم .. نسأل الله ذلك
لنا ولكم . اهـ .
وأملنا في الله عظيم أن يوفقنا للتوبة
النصوح ، وأن يستجيب دعاءنا وأن يجمع كلمتنا
، وأن يكفينا تدخُّلات أعدائنا ، فقد عوَّدنا
سبحانه في كل مرّة أن يحفظ هذا البلد ويحفظ
أبناءه ويحفظ الخير الذي فيه رغم كثافة
المؤامرات ، وإن نَفَس ـ فَرَج ـ الرحمن من
قِبَل اليمن ، والحمد لله رب العالمين . |