بدأت تجربة الحلال والحرام والتساهل والالتزام
مع الإنسان منذ بدايته الأولى في الجنة . منذ
كان آدم وحواء حين أبيح لهما ما في الجنة ،
وحرّمتْ عليهما شجرة واحدة . والحرام عادةً
تحيط به عوامل إغراء وجذب ، فوسوس لهما
الشيطان ومارَس معهما الإغراء وأقسم لهما بأن
هذا الحرام إنما هو حرمان لهما من فرصة التحول
إلى ملَكين أو الصيرورة من الخالدين ، فكان
الانخداع بالإغراء وإذا بالنتيجة تأتي عاجلة
وهي فقدان الستر وفقدان نعيم الجنة . وهبط
الإنسان إلى الأرض ومعه الشيطان بخداعه
وإغرائه، ومعه الابتلاء بالحلال والحرام
وبالتساهل والالتزام على نطاق أوسع ومع مساحة
من الشبهات . وبقيتْ مع الإنسان الذكرى في
التجربة الأولى التي كانت نتيجتها معروفة .
قال تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ لا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ
أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ
عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا
سَوْآتِهِمَا ) . والابتلاءات في دنيا الناس
كثيرة ، وفي كل مرة تتكرر التجربة فهنالك من
ينجح فلا يلتفت إلى الإغراءات المزيفة ولا إلى
تخديرات شياطين الإنس والجن فيظل عازفاً عن
المحرمات متقيّاً للشبهات ملتزماً غير متساهل
، وهنالك من رَسَب فيتجاوب مع الإغراءات ،
ويستسلم للمخدرات فيفقد بتعاطيها صوابه وقدرته
على التمييز فيسترسل في التجاوب مع الخداع وهو
سكران ، ويتناول الطُّعم فإذا هو قد صار داخل
الشبكة ، وقد لا يكتشف أنه في المصيدة إلا بعد
فوات الأوان .
إن كيد ومكر ووسوسة شياطين الإنس والجن المغلّف
بالإغراءات والتخديرات لا يتوقف ، وهو فوق كل
ما يتوقعه الكثيرون بكثير ، قال تعالى : (
وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبَالُ ) . وفي مقدمة هؤلاء الشياطين
شياطين أهل الكتاب ، قال تعالى : ( مَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ ) وقال سبحانه : ( وَدَّ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ
مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) . وهنالك القابلية
في البشر للانجذاب أمام الإغراءات والوسوسة ،
فإذا كان انجذَب آدم وحواء فغيرهما أكثر
قابليةً لذلك ، قال تعالى : ( فَدَلَّاهُمَا
بِغُرُورٍ ) . ولذلك حذّرنا سبحانه تحذيرات
كثيرة من ذلك وبأشدّ أنواع التحذير فقال
سبحانه على سبيل المثال : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ
كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) وقال سبحانه : (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ ) . وقال سبحانه : ( وَاحْذَرْهُمْ
أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ إِلَيْكَ ) . وحذّر النبيُّ صلى الله
عليه وسلم من قابلية ابتلاع الطعم ثم الدخول
في الشبكة وجحر الضب فقال : ( لتتبعن سنن
الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذارع حتى
لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) قالوا : اليهود
والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) . وحذّر سبحانه
المندفعين من عقوبة التبلُّد والفتنة إلى درجة
الغفلة عن الخطر في غمرة النشوة والتخدير
والسُكْر، بل التَّغنِّي بالخطر والانسجام معه
، فقال سبحانه :
( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ) . وقال
سبحانه : ( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ
يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا
أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) . وفَرَض ربنا جل
وعلا تنبيهاً متكرراً يوميّاً على مستوى كل
ركعة في كل صلاةِ فرْضٍ ونفْلٍ مضمونهُ واضح
لا لَبْس فيه باجتناب طريق المغضوب عليهم
والضالين . ومع ذلك نجد ضحايا كثيرة سكارى
بالمستوردات، وأسارى للمنظمات والسفارات ،
منظمات وسفارات المغضوب عليهم والضالين دون
تحرُّج أو حساسية ، بعد أن ابتلعوا الطُّعم
فخدّرَهم فصاروا يجادلون عن المستوردات في
مجالات السياسة والاقتصاد والمرأة وهيكلة
المجتمع ... الخ وصاروا يتراجعون بالتدريج عن
اهتماماتهم الأصلية ، وبعضهم يتراجع عن
هُوِيَّته الأصيلة ، فغابت مصطلحات الشرع
وأحكامه عن لغتهم ، ولم يعودوا يتحدثون
بإيجابية عن الدعوة والدعاة ، ولا عن العلم
والعلماء ، ولا عن الأنبياء والصحابة ، ولا عن
الإيمان والكفر ، ولا عن القرآن والسنة ، ولا
عن الجنة والنار واليوم الأخر ، ولا عن الولاء
والبراء ، ولا عن العقيدة والعبادة ، ولا عن
الشريعة والفقه ، ولا عن الحلال والحرام ، ولا
عن الفرائض والنوافل ، ولا عن الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، ولا عن الأخوة والنصيحة ،
ولا عن رسالة المسجد ونحو ذلك ... ولم يعودوا
يهتمون بقضية الحجاب والحشمة ، ولا بضرورة
محاربة الربا والخمر والتبرج والاختلاط وجلساء
السوء والتدخلات الأجنبية ... الخ ، وخلطوا
المفهومات ، وخلطوا الأوراق فلم يعودوا يفرقون
بين المطيع والعاصي ، ولا بين المتدين
والمنفلِت ، ولا بين المحتشمة والمتبرجة ، ولا
بين الطرح الإسلامي والطرح العلماني ، ولا بين
حضور الندوات الإسلامية والندوات المحاربة
للإسلام ، ولا بين نشر مقال منضبط بالشرع أو
مقال مناقض له ، ولا بين الترويج لقصيدة عفيفة
أو قصيدة منسلخة ، ولا بين مقابلة عدو للإسلام
أو داعية له ، ولا بين الأغنية والأنشودة ،
ولا بين الصورة الجائزة والصورة الخليعة ، ولا
بين مصافحة المرأة من المحارم ومصافحة
الأجنبية ... ! ذهولٌ وفقدانٌ للتمييز وهذيانٌ
وعدم اتزان في الأقوال والأفعال في كثير من
الأحيان ... حالةٌ أشْبَهُ ما تكون بعدوٍّ
أسَرَ أشخاصاً فحقَنَهم بالمخدّر أو ضللّهم
بالسحْر فأصبحوا منطرِحين له ، موظِّفين
لطاقاتهم معه وهم لا يشعرون بعداوته ، متنكرين
لإخوانهم ، يعتقدون عداوتهم ويكيدون لهم ،
وإخوانهم مشفقون عليهم في همّ وغمّ أمام
تضاعُف المسئولية عليهم في العمل على إخراجهم
من سيطـرة العدوّ ،ّ ومداواتهم ورُقْيَـتهم ثم
في إعادة تأهيلهم ... فيا لها من مُكابَدة !
ويا له من بلاء ! إلى أن يأذن الله بالفتح أو
أمرٍ من عنده ... وكُلنا للخطر معرّضون فما
ندري غداً من هو المفتون ( أَفَأَمِنُوا
مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) .
|