الحُكْم لله وحدَهُ وليس للقاعات

 

لصحيفة صوت الإيمان بتاريخ 21 ربيع الأول 1431هـ الموافق 7 مارس 2010م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     في هذا العصر تنتشر الجرأة وتزداد الادعاءات وتكثر الاعتداءات ، ومن ذلك الاعتداء على حق الله في التشريع .  

     ومن بَدَهيات العقيدة أن الله هو الذي خلَق فهو الذي يحكُم في خلقه ، وهو الذي يـأمـر فيهم قال تعالى : (ألا له الخلْق والأمر) الأعراف . وقال تعالى : (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) يوسف .

     والاعتداء على التشريع معناه الشرك بالله ، قال تعالى : (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) الشورى . وقال تعالى : (ولا يُشرِك في حكمه أحدا) الكهف . وقال تعالى : (وإن أطعتموهم إنكم لَمُشْرِكون) الأنعام .

     وإن الله لم يأذن بالتشريع الاجتهادي إلا للعلماء المجتهدين أهل الاستنباط ، المتوفِّرة فيهم شروط الاجتهاد ، في حدود ما أجاز لهم الاجتهاد فيه ، قال تعالى : (و لو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) النساء .

     ومن أمثلة الاعتداء على تشريع الله تشريعات إباحة الربا ، والله في تشريعه قد حرّم الربا !.. 

     و تشريعات الجنسية والتَّفْرِقة التي تُفَرِّق بين المسلمين ، فتُميِّز مُسلِم البلد أو الكيان أو التشكيل المُعَيَّن على المسلم الآخَر اللاجئ أو المهاجِر أو الوافِد أو الآفاقي ، أو المسلم الذي في التيار أو الكيان أو التشكيل الآخر !..  

والله جعل المسلمين جسداً واحداً وجعلهم إخْوةً متعادلين في الحقوق والواجبات لا يفترقون إلا في التقوى ..

     وتشريعات تقييد تعدُّد الزوجات  التي تمنع الزواج بأكثر من واحدة ، وتقييد الطلاق  التي تمنع الطلاق إلا من المحكمة ، وتقييد السن في الزواج ، التي تمنع الزواج دون سن الثامنة عشرة !.. والله أباح كل ذلك دون تقييد ، تيسيراً للناس ليتصرَّف كل إنسان منهم بحسب ظرْفه ..     

     وهذه النماذج من الاعتداءات في الغالب تصدُر عن مجالس تشريعية ، أومجالس كيانات أوتشكيلات ليس عند الأغلبيات الساحقة لأعضائها القدْر القليل من العلم الشرعي ، فضلاً عن الانعدام التام عند هذه الأغلبيات لِأَهلية الاجتهاد .

     ومنذ فترة غير بعيدة أنشأت آخر خلافة إسلامية وهي الدولة العثمانية برلمانها المسمَّى مجلس المبعوثان ، ولكنها شكَّلتْ لجنة من العلماء المجتهدين الذين قاموا بإصدار مجلة الأحكام الشرعية العدلية ، لكي تكون مرجعاً اجتهاديّاً شرعيّاً عامّاً ، فأعطت القوس باريها ، و لم تجعل للبرلمان أيَّ سلطان على لجنة العلماء ، ولم تسمح لغير ذوي الاختصاص بالخوض في القضايا العلمية الاجتهادية ، أو التصويت عليها ، احتراماً للتخصُّص ، وصيانةً لشريعة الله من أن يقول فيها الذين لا يعلمون ، قال تعالى : (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، و لا تَتَّبِعْ أهواء الذين لايعلمون) الجاثية .

     والقول على الله بغير عِلْم أعظم الذنوب كما ذكر ابن القيم رحمه الله و غيره من العلماء ، قال تعالى : ( قل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) الأعراف .

     و في فترة الدولة السابقة في اليمن تَمَّ تكليف مجموعة من العلماء لإعداد اختيارات اجتهادية في المعاملات لكي تكون مرجعاً للقضاة للحكم  بموجبها ، وقد تَمَّ ذلك ، واشتهرت تلك الاختيارات وكانت في صورة موادّ ، و قد تمت الاستفادة منها في التقنينات الجديدة بصورة واضحة كما يعلم المطّلعون .

      وأذكر أنه تَمَّ توزيعها علينا ـ الدفعة الأولى ـ في معهد القضاء بصنعاء قبل أكثر من ربع قرن للاستفادة منها ، وكانت هذه الاختيارات تتحرّى في الغالب القول الراجح لأهل العلم ، ولم تكن محصورة على مذهب معيَّن ، على خلاف الحال في مجلة الأحكام العدلية التي كانت تعتمد على المذهب الحنفي فقط .

     وإنه من الخير للمسلمين وللبرلمانات في بلدانهم في هذه الأيام أن يتركوا الاجتهاد لأهل الاجتهاد ، وأن يتم في كل بلد تشكيل نُخْبَةٍ من علماء الشريعة الكبار المعتبَرين الذين يثق الناس بعدالتهم ، ليختاروا الاجتهادات الفقهية ، فيما تجوز فيه الاجتهادات ، ويكون ذلك بالتصويت فيما بينهم هم ، دون سواهم ، تماماً كما يُصوِّت المختصون في الطب دون سِواهم في القضايا الطبية ، والمختصون العسكريون دون سِواهم في القضايا العسكرية ، والمهندسون المختصون دون سِواهم في المشاريع الهندسية ..وهكذا ...  ويُريحوا غير المختصين  من الخوض فيما لا يعنيهم  ، و في تعاطي ما لم يأذن به الله ..

     و من أراد أن يأذن الله له فليتعلَّم العِلْم الشرعي ، ولْيَتَحقَّقْ بالعدالة . فعلماء الشريعة المأذون من الله لهم أعلم بأحكام الله وبما يجوز وما لايجوز ..  حتى لا تكون تجاوزات في هذا الأمر العظيم ،وتعرُّضاتٌ لِسُخْط الله وعقابه ، و حتى يكون الحكم لله وحده ، وحتى تسْلَم قضية التشريع ـ وهي من قضايا العقيدة ـ من الموبِقات و من تحكيم القاعات .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©