العدالة في ضمير القاضي

 

                     
                                       بتاريخ 1427/4/25 الموافق 2006/5/23  

 

 اشتهر عند الناس أن العدالة في ضمير القاضي، وليست في نص القانون، وذلك لأن حرص القاضي على إحقاق الحق يجعله يصل إليه حتى إذا لم يوجد قانون، أو حتى إذا كان هناك قانون منحرف؛ فإنه يعمل على حسن تفسيره حتى ينسجم مع الحق، وإذا لم يكن في ضمير القاضي حرص على الحق؛ فإنه حتى لو كان نص القانون سليماً فإنه قد يتحايل عليه ليفسره حسب هواه، فالقانون وسيلة يمكن تكييفها لإحقاق الحق الذي هو الهدف وإقامة العدالة، وكذلك يقال في مصطلح الحديث هو قانون لغربلة الأحاديث وحمايتها من الشوائب، وكذلك يقال في أصول الفقه بأنها قانون لضبط الاستدلال بنصوص الشريعة، وحماية النصوص من التحريف أو الإهدار، وكذلك يقال في أي تنظيم لحركة إسلامية بأنه وسيلة لنصرة الإسلام وحماية الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأخطر ما يكون في هذا الباب هو إهمال الهدف، وتحول الوسيلة إلى هدف أحياناً، فإهمال هدف مصطلح الحديث مثلاً، قد يجعل الباحث فيه لا يبالي بحماية الأحاديث الصحيحة والحفاظ عليها، بل بالعكس قد يستخدم هذه الوسيلة استخداماً سيئاً للطعن في أحاديث تجاوزت القنطرة وتلقتها الأمة بالقبول؛ من أجل إظهار الإغراب والتمكن في مصطلح الحديث، بحيث يصبح هذا الإظهار وإبراز التمكن هدفاً في ذاته ويضيع الهدف الأصلي ويختل الميزان. ونعود إلى قانون القضاء الذي هدفه إقامة العدالة فنضرب المثل بما ورد في الحديث المتفق عليه أن داود عليه السلام اختصمت لديه امرأتان في طفل فقضى به للكبرى لمعيار قانوني لديه، ولكن ابنه سليمان عليه السلام اجتهد عند استئناف القضية لديه ليجعل المعيار القانوني أكثر فعالية لإقامة العدالة وتحقيقها لأن القانون وسيلة يمكن تكييفها لخدمة العدالة، فاستدرج المرأتين إلى موقف عاطفي، تغلب فيه عاطفة الأمومة، وتظهر فيه الأم الحقيقية؛ عندما قال بأنه سوف يقطع الطفل نصفين بين المرأتين، فإذا بالأم الحقيقية قبل أن تفكر في جدية هذا الكلام تغلبها العاطفة فتتنازل عن الطفل للمرأة الأخرى حفاظاً على حياته. ولو كان سليمان حرفياً في تطبيق القانون بحيث جعل القانون هدفاً لا وسيلة، لكان وقف عند معيار أبيه في القضاء بالطفل للكبرى، أو لكان اكتفى بمعيار آخر كالبحث عن بينة أو يمين، ولكنه أراد استخراج الحقيقية بطريقة غريبة غير تقليدية من شدة حرصه على الحقيقة، فهي أغلى من شكليات القانون، فوصل إليها بتلك الطريقة، وقضى بالطفل للأم الحقيقية التي كانت قبلت التنازل عنه حفاظاً على حياته.

ونأتي إلى أصول الفقه، فالغرض منه حماية النصوص في الدرجة الأولى، وتقديمها على كلام الناس، وضبط طريقة الاستدلال بالنصوص، وليس الغرض أن تتحول أصول الفقه إلى هدف لإظهار الحذلقة ونقل الخلافات، حتى يصبح الخلاف في ذاته دليلاً لإهدار النصوص واختيار ما يهواه الشخص تحت مظلة الأصول؟ كما يفعل كثير من الناس اليوم باسم الانفتاح وعدم الانغلاق، وباسم تفعيل أصول الفقه وتجديدها،و باسم المرونة وعدم الجمود، فيعودون بمدرستهم هذه على النصوص نفسها بالإهمال والإهدار، وهي التي ما جاءت أصول الفقه إلا لحمايته وتقديمها على كلام الناس، ولو كانت هذه النصوص في قضايا فروعية، فما دام النص في الجملة ثابتاً؛ فالأخذ به تعظيم للشارع، وإن كان قد يوجد معذور أو معذورون لم يأخذوا به لملابسات، إلا أن من ترجح لديه ثبوت النص، فلا يجوز له أن يتعلّل بعذر المعذور، وفتواه، ومن هنا نفهم توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح أن يأخذ الشخص بالعزيمة وليس بالتردد وإن أفتاه المفتون وأن يستفتي قلبه في جانبه الصافي من التردد بمعنى أن يحتاط، ومعنى ذلك أن العدالة في ضمير وقلب القاضي كما سبق، أي في الأخذ بالعزيمة وليس الاحتجاج بالخلاف والتردد.

ونأتي إلى التنظيمات فهي وسائل، ويكون الحرص على الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم من الحرص على هذه التنظيمات، فيهون على الحريصين على الدين استهلاك التنظيمات لحماية الدين أو ما أمكن منه، ولا يمكن أن يقبلوا بذهاب شيء من الدين أو انتشار المنكرات بحجة الحفاظ على التنظيمات، وبهذا نفهم فقه الحسن رضي الله عنه الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم وسوَّده وسدَّد فعله عندما تنازل عن تنظيمه بل وعن خلافته في سبيل حفظ الدين وجمع كلمة المسلمين تحت سلطة خصمه معاوية رضي الله عنه، ونفهم كذلك فقه السلطان عبدالحميد آخر سلطان عثماني عندما رفض أموال اليهود وإغراءهم مقابل التنازل عن فلسطين ففقد سلطانه ونظامه، ولو كان العثمانيون استعماراً لسهل عليهم التنازل عن فلسطين، ولكن المبادئ لا تقبل التنازل.


 

 

 .................................................                                         

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©