وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 11 جمادى الآخر 1433هـ الموافق 2 مايو 2012م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ، لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) آل عمران .

     ما قاله ابن كثير في التفسير :

     قال ابن كثير : يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يُعْطَوا، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ادَّعَى دَعْوى كاذبة لِيتَكَثَّر بها لم يَزِدْه الله إلا قِلَّة) ، وفي صحيح مسلم : (المتشبع بما لم يُعْطَ كلابس ثَوْبَي زُور) .

     وقال الإمام أحمد: حدثنا حَجَّاج عن ابن جُرَيْج أخبرني ابن أبي مُلَيكة أن حُمَيد بن عبد الرحمن بن عَوْف أخبره: أن مروان قال: اذهب يا رافع - لبَوَّابه- إلى ابن عباس، رضي الله عنه، فقل لئن كان كل امرئ منَّا فَرح بما أتَى وأحب أن يُحمد بما لم يفعل - معَذَّبًا، لنُعَذبن أجمعون؟ فقال ابن عباس: وما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)  وتلا ابن عباس: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) الآية. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه  وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أرَوْه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه.

     وهكذا رواه البخاري في التفسير ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما، وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مَرْدُويه ، والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث عبد الملك بـن جُرَيج، بنحوه .

     ورواه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عَلقمة بن وقاص: أن مَرْوان قال لبوابه: اذهبْ يا رافع إلى ابن عباس، فذكره ..

     إلا أن الشيخ الوادعي ذكر في تعليقه على تفسير ابن كثير أن رافعا مجهول و أن الحديث انتقده الدارقطني ، و أن انتقاده في محله ، و رجّح الوادعي أن حديث أبي سعيد المتفق عليه الآتي أصحّ و أقوم في سبب نزول الآية !.. لكن تبقى دلالة السياق القرآني ، فالآية السابقة في أهل الكتاب كما هو ظاهر ، و إتفاق الشيخين و غيرهما على الحديث أقوى من انتقاد الدارقطني و الله أعلم .

     و قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه؛ أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تَخَلَّفوا عنه، وفَرِحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قَدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا  إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) الآية.. وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم، بنحوه .

     وقد رواه ابن مَرْدُويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشَام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أبو سعيد ورافع بن خَديج وزيد بن ثابت عند مَرْوان فقال: يا أبا سعيد، رَأيت قول الله تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) ونحن نفرح بما أتَيْنا ونُحِب أن نُحْمَد بما لم نفعل؟ فقال أبو سعيد: إن هذا ليس من ذاك، إنما ذاك أن ناسا من المنافقين كانوا يَتخلَّفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْثًا، فإن كان فيه نَكْبة فرحوا بتخلفهم، وإن كان لهم نَصْر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح ، فقال مروان: أين هذا من هذا؟ فقال أبو سعيد: وهذا يَعْلَمُ هذا، فقال مروان: أكذلك يا زيد؟ قال: نعم، صدق أبو سعيد. ثم قال أبو سعيد: وهذا يعلم ذاك - يعني رافع بن خديج - ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قَلائصه في الصدقة. فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري: ألا تحمدني على شهادة لك  ؟ فقال أبو سعيد: شهدتَ الحق. فقال زيد: أو لا تحمدني على ما شهدت الحق؟

     ثم رواه من حديث مالك، عن زيد بن أسلم، عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مَروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، فقال مروان: يا رافع يعني ابن خديج ، في أي شيء نزلت هذه؟ فذكره  كما تقدم عن أبي سعيد، رضي الله عنهم ، وكان مَرْوان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم ، فقال له ما ذكرناه، ولا منَافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، والله أعلم ..

     و قد كرّر الشيخ الوادعي أن حديث أبي سعيد السابق المتفق عليه أصح و أقوم ، و في الحقيقة أن أبا سعيد هنا في حديث ابن مردويه يكرّر السبب نفسه الذي في حديثه المتفق عليه ، و لا يوجد هنا رافع البواب المجهول ،  فلعل مُجْمَل كلام ابن كثير في محله لذلك و لِمَا سبق .

     وقد روى ابن مَرْدُويه أيضا من حديث محمد بن أبي عَتِيق وموسى بن عُقْبة، عن الزهْري، عن محمد بن ثابت الأنصاري؛ أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله، والله لقد خشيت أن أكون هلكت. قال: (لِمَ؟) قال: نهى الله المرء أن يُحِب أن يُحْمَدَ بما لم يفعل، وأجدني أُحِبُّ الحمدَ. ونهى الله عن الخُيلاء، وأجدني  أحب الجمال، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا  امرؤ جهوري الصوت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تَرْضى أن تَعِيش حَمِيدا، وتُقْتَل شَهِيدا، وتدخل الجنة؟) قال: بلى يا رسول الله. فعاش حميدا، وقُتل شهيدا يوم مُسَيْلَمة الكذاب  .

     قال المحقق سامي سلامة :  ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من طريق الزهري عن محمد بن ثابت به. ورواه الحاكم في المستدرك من طريق إسماعيل بن محمد عن أبيه محمد بن ثابت به. ورواه ابن حبان في صحيحه ، والطبراني في المعجم الكبير كلاهما من طريق إسماعيل بن ثابت أن ثابتا فذكره. ورواه عبد الرزاق في مصنفه من طريق الزهري أن ثابت بن قيس فذكره مرسلا ، ورواه مالك . ومن طريق ابن عبد البر في الاستيعاب من طريق الزهري عن إسماعيل بن محمد بن ثابت عن ثابت به. والأصح: الزهري عن محمد بن ثابت عن ثابت به ، وهي رواية ابن مردويه والطبراني في المعجم الأوسط  ، وقد صرح محمد بن ثابت بالتحديث عند الطبراني فقال: حدثني ثابت بن قيس فذكره ، والحديث حسن إن شاء الله . اهـ . كلام المحقق .

      و قد تضمَّن كلام هذا المحقق جوابًا على ما ذكره الوادعي في تعليقه من عدم سماع الزهري من محمد ، لأنه قد وُجدت واسطة و هو ابنه إسماعيل في بعض الروايات ، و كذا من احتمال أن محمدا لم يسمع من أبيه ، والجواب أنه قد

صرح بتحديث أبيه له  .

    ما جاء في الظلال :

    هناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب ، وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه . ثم هم يكتمونه . ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع ، حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري!

     وأما الثانية ، ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية . وهي تصور نموذجاً من الناس يوجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ويوجد في كل جماعة نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي ، وتكاليف العقيدة ، فيقعدون متخلفين عن الكفاح  فإن غُلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة .. أما إذا انتصر المكافحون وغنموا ، فإن هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم؛ وينتحلون لأنفسهم يداً في النصر ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا!

     إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء . نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين . فإذا ملامحه واضحة للعيان ، وسماته خالدة في الزمان . . وتلك طريقة القرآن .

هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لا نجاة لهم من العذاب ، وأن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه و لا معين . اهـ.

     الحكام في بلاد المسلمين و أسيادهم من أهل الكتاب يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا , و هي عادة قديمة لهم كما في الآية ، و من ذلك ما يفعلونه  اليوم  في سورية و غيرها من التنكيل مع زعمهم مناصرة المظلومين :

   أهل الكتاب و المنافقون ينطبق عليهم كما في حديثي ابن عباس و أبي سعيد السابقين ما ورد في الآية أنهم يتآمرون على المسلمين ويحبون أن يحمدهم المسلمون على ذلك ، وهذه الصفة فيهم في الماضي و الحاضر ، و نجد أهل الكتاب في هذا العصر  أسقَطوا دولة الخلافة بعد أن أسْمَوها الرجل المريض ، ثم استعمروا أقاليمها بالتعاون هع المنافقين و بعد أن أعطوهم الاستقلال ، قدّسوا لهم الاستقلال عن المسلمين و الحدود و أنشأوا عشرات الدويلات ، و قدّسوا الديمقراطية والدساتير العلمانية و القوانين و التعددية ومساواة الرجل بالمرأة والمسلم بالكافر و عزْل الدين عن الحياة و عن السياسة بالذات .

      وزعموا أنهم مع المنافقين صنعوا الحضارة والتنوير ، و أن ما ذكرناه منجزات مع أنه استعمار اقتصادي و سياسي و فكري و تمزيق و حرب على الإسلام ..إلخ. و اجتهدوا في أنهم يُحمَدون بما لم يفعلوا . و هكذا كل مؤامرات أهل الكتاب مع إخوانهم المنافقين من الحكام و غيرهم يزعمونها منجزات و يريدون الحمْد عليها من المسلمين .

     و من مؤامراتهم الحالية مع المنافقين الروافض و غيرهم وَجَبات القتل في سورية  التي تحصد العشرات كل يوم منذ أكثر من عام رغم المؤتمرات والملتقيات و المبعوثين و اجتماعات الجامعة العربية و مجلس الأمن و إرسال المراقبين  من الجامعة ثم من مجلس الأمن ، و كلها للخداع و لتمكين النصيريين من المزيد من القتل و تدمير المدن والأرياف .

    و جرائم الاغتصاب أمام الأهل مستمرة ، و دفن الأحياء أو تعذيبهم و محاولة الإجبار على تأليه بشار أو الركوع لصُوَره  مستمرة !!

     و التشكّي و الاستجداء لأهل الكتاب و الحكام المنافقين إنما هي إثارة للشماتة و لا جدوى منها !! فلماذا لا يكسر المسلمون الحدود و الحواجز و يتجاوزون الاستقلالات المزيّفة للدويلات الجاثمة على صدورهم فيعينوا إخوانهم في سورية و غيرها فهم أمة واحدة ، أليست الولايات المتحد اثنتان و خمسون دولة في دولة؟ أليس الاتحاد الأوروبي بضعا وعشرين دولة في كيان واحد يسافر الشخص من طرفه إلى طرفه دون اعتراض؟ أليس الاتحاد الروسي يمنع أي تنفس للشيشان و غيرها ؟ أليست الصين تقبض على تركستان الشرقية بيد من حديد؟

    أليست كل الطرق مفتوحة ما بين إيران و سورية و جنـوب لبنان و العراق كمنظومة واحدة ؟  و من الذي سلّم العراق للروافض ، وسمح لهم بجنوب لبنان و بالسيطرة على سورية ؟ أليس هو الغرب ؟ و هو الذي جعل كل هؤلاء يدعمون روافض سورية و جعل روسيا والصين تمدهم بالعتاد و السلاح ؟ و الروافض على مدار التاريخ هم حلفاء أهل الكتاب ضد المسلمين .. و ما يجري من التنكيل باستمرار لأهل السنة في إيران يتكرّر في العراق و في لبنان و غيرها و الآن في سورية ؟

    أين أهل السنة ؟! لا زالوا متقوقعين يحترمون هذه الحدود والاستقلالات التي لا يجوز احترامها و يتفرجون على مآسي إخوانهم في سورية و غيرها كفلسطين و أفغانستان والصومال .

     هل يجوز احترام القيود و الأغلال التي تُكبّل المسلمين و احترام السجّانين:

     هل يجوز أن نحترم القيود و الأغلال التي تُكبّل المسلمين و نحترم الأعداء كالحلف الغربي و المناهج كمنهج الديمقراطية و المنظمات كمنظمة الأمم المتحدة و مجلس الأمن التي وضعتْ تلك الأغلال و التي تؤصّل لها و تعمل على توسيع دائرتها  إلى عقر ديارنا بالتعدّديات و الحزبيات و الفيدراليات و حق تقرير المصير و الانفصال  كما في تيمور الشرقية و جنوب السودان و جنوب لبنان و جنوب اليمن (و الدستور عندنا الآن يتم طبخه من الفرنسيين لأجل زيادة العَلْمنة و التأسيس للفيدرالية) .

     و تريد هذه المناهج و المنظمات أن تُحْمَد بأنها بأفعالها تجعل العالم أكثر أمنا ، و يكذِّب ذلك كل تقتيل و تنكيل و كل تقسيم و تفصيل في بـلاد المسلمين و الغربيون هم من يقفون وراءه ؟

     لماذا لا يسمح الغربيون مثلا بتقرير المصير في الأهواز و في هرَر وفي إيرلندة الشمالية و في الباسك و في كشمير و في الشيشان و في تركستان الشرقية؟!

     إن على المسلمين العمل على كسر الحواجز و تحطيم الأغلال و نصرة إخوانهم بالمال و السلاح و الرجال .. إن إخواننا في سورية يستغيثون .. و في الختام يقول سبحانه : (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©