وتَفَقَّدَ الطَّيْر

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 28 ربيع الآخر 1435هـ الموافق 28 فبراير 2014م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة عبر برنامج " الريل بلاير " اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/tayr.mp3

    قال تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) النمل .

     جاء في تفسير الشوكاني :

    (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) التَّفَقُّدُ: تَطَلُّبُ مَا غَابَ عَنْكَ وَتَعَرُّفُ أَحْوَالِهِ ، وَالطَّيْرُ: اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا يَطِيرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَطَلَّبَ مَا فَقَدَ مِنَ الطَّيْرِ، وَتَعَرَّفَ حَالَ مَا غَابَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الطَّيْرُ تَصْحَبُهُ فِي سَفَرِهِ، وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا فَقالَ : (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ رُؤْيَةِ الْهُدْهُدِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَالِي لَا أَرَاهُ هَلْ ذَلِكَ لِسَاتِرٍ يَسْتُرُهُ عَنِّي، أَوْ لِشَيْءٍ آخَرَ؟ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ غَائِبٌ فَقَالَ: (أَمْ كَانَ من الغائبين) ، وأم هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ ، قَرَأَ ابْنُ كثير وهشام وعاصم والكسائي (ماليَ) بفتح الياء، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِإِسْكَانِها .

     (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) ، اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْعَذَابِ الشَّدِيدِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ جميعا ، وقال يزيد ابن رُومَانَ: هُوَ أَنْ يَنْتِفَ رِيشَ جَنَاحَيْهِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَحْبِسَهُ مَعَ أَضْدَادِهِ ، وَقِيلَ: أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ .

     (عَذَابًا) اسْمُ مَصْدَرٍ أَوْ مصدر على حَذْفِ الزَّوَائِدِ كَقَوْلِهِ: (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) ، (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ بِنُونِ التَّأْكِيدِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا نُونُ الْوِقَايَةِ ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ فَقَطْ، وَهِيَ نُونُ التوكيد، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: هُوَ الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ فِي غَيْبَتِهِ .

    (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أَيِ: الْهُدْهُدُ مَكَثَ زَمَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ (مَكُثَ) بِضَمِّ الْكَافِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحْدَهُ بِفَتْحِهَا، وَمَعْنَاهُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ: أَقَامَ زَمَانًا غَيْرَ بَعِيدٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: مَكَثَ يَمْكُثُ مُكُوثًا كَقَعَدَ يَقْعُدُ قُعُودًا.

    وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي مَكَثَ لِسُلَيْمَانَ، وَالْمَعْنَى: بَقِيَ سُلَيْمَانُ بَعْدَ التَّفَقُّدِ وَالتَّوَعُّدِ زَمَانًا غَيْرَ طَوِيلٍ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى فَقالَ (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أَيْ: عَلِمْتُ مَا لَمْ تَعْلَمْهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْإِحَاطَةُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ .

    قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ إِدْغَامُ التَّاءَ فِي الطَّاءِ، فيقال: أحطّ، وَإِدْغَامُ الطَّاءِ فِي التَّاءِ فَيُقَالُ: أَحَتُّ (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ سَبَإٍ بِالصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، نُسِبَ إِلَيْهِ قَوْمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ *** قد عضّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ

    وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَتَرْكِ الصَّرْفِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ مَدِينَةٍ، وَذكَرَ الزَّجَّاجُ أن سَبَأ اسْمُ مَدِينَةٍ تُعْرَفُ بِمَأْرِبِ اليمن، بينها وَبَيْنَ صَنْعَاءَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، و قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، كَمَا فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ.

    وَالْقَوْلُ فِي سَبَأٍ مَا جَاءَ التَّوْقِيفُ فِيهِ أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ رَجُلٍ، فَإِنْ صَرَفْتَهُ فَلِأَنَّهُ قَدْ صَارَ اسْمًا لِلْحَيِّ، وَإِنْ لَمْ تَصْرِفْهُ جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، مِثْلَ ثَمُودَ، إِلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ الصَّرْفُ، انْتَهَى.

     وَلَا شَكَّ أَنَّ سَبَأً مَدِينَة بِالْيَمَنِ كَانَتْ فِيهَا بِلْقِيسُ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمُ رَجُلٍ مِنْ قَحْطَانَ! وَهُوَ سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ هُودٍ، والْمُرَادَ هُنَا أَنَّ الْهُدْهُدَ جَاءَ ممَّا عَايَنَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ بِخَبَرٍ يَقِينٍ، وَالنَّبَأُ: هُوَ الْخَبَرُ الْخَطِيرُ الشَّأْنِ .اهـ . بتصرُّف .

      جاء في تفسير السعدي :

     والشاهد أن تفقد سليمان عليه السلام للطير، وفقْده الهدهد يدل على كمال حزمه وتدبيره للملْك بنفسه وكمال فطنته حتى فقَد هذا الطائر الصغير وتساءَل : هل عدم رؤيتي إياه لقلة فطنتي به لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة ؟ أم لأنه كان غائبا من غير إذني ولا أمري؟.

    فحينئذ تغيَّظ وتوعَّده فقال: (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) دون القتل، (أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: حجة واضحة ، وهذا من كمال ورَعه وإنصافه أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل ، لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر فلذلك استثناه .

     (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) وهذا يدل على هيبة جنوده منه ، حتى إن الهدهد بالعذر الواضح لم يقدر على التخلُّف كثيرا، وقَالَ لسليمان: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) مع علمك الواسع . اهـ . بتصرُّف .

      يستفاد من الآيات :

     1- تفقُّد الرَّعيّة مهما قلّ شأنهم ، و الوعيد الشديد على التقصير ، والتصعيد في الوعيد لأن المخالفة على مستوى الدولة خطيرة ، لذلك كان سليمان في قمة الحزم ، مع قمة العدالة في فتح باب العذر ، ولا يتفقَّد ويشتَدّ إلا من كان قُدْوَةً في نفسه  .

     2- التأخير المحدود والعذر الواضح يدُلَّان على المراقبة عند العامل و شدة الحزم عند المسؤول وعدم الانفلات ، كما أن الشجاعة في الجواب ، وعدم التقرُّب بالتملُّق وألقاب الخنوع ، والتعامل مع الملك النبيّ بصيغة الفرْد و أنه بشر ، وليس الفرْد المعجزة ، تدل على حسن التربية للعامل و على حب الحق عند المسؤول و عدم الاستبداد .

     3- التفقُّد ربَّى مثل الهدهد على الدين والورع والغَيرة وإنكار المنكر مثل تمليك امرأة وعبادة غير الله ، مع دقة الملاحظة والوصف . والناس على دين ملوكهم .

    4- استمرار المسؤول على الحزم والحيطة ودقة المتابعة والرقابة وعدم الاستسلام للعجائب التي ذَكَرَها الغائب ، وذلك عندما قال : (سنَنْظُرُ أَصَدقْت ...؟) .. وحسن الإدارة والرقابة والمتابعة معناها الاستفادة المثلى من كل طاقة حتى من طاقة الهدهد ، الذي كان السبب في تغيير التاريخ بالدلالة على أُمَّة كبيرة ومملكة عظيمة دخلت في دين الله ، وإهمال ذلك تضييعٌ للكفاءات والعلم والتَّمَيُّز .

        5- فأين دولتنا من ذلك ؟ و الدولة بالإهمال واللامبالاة والاستجابة للأجانب تذوب كل يوم ، وتترك المجال للمفسدين بالمماطلة في سحْب الأسلحة من المجموعات المسلَّحة ، وعدم فرض هيبة الدولة ، و المماطلة في التحقيقات في الحوادث والاغتيالات والتفجيرات وقطع الكهرباء وأنابيب النفط !!

    والقرار الأجنبي الذي صدر أخيرًا بوضع اليمن تحت الفصل السابع ، وعدم ذكر المفسدين بالاسم وهم معروفون !! هو مماطلة ٌكذلك وتلبيسٌ وتغرير .. وماذا ننتظر من الأجانب؟!! .. وعاقبة كل ذلك استثمار المفسدين فسادهم للمزيد من التمكُّن .. فأين دولتنا و أين مسؤولونا؟...........

    ثم أين التفقد بعد ذلك لأحوال المسلمين ونحن جسد واحد ، و جرائم الإبادة للمسلمين تتزايد وآخرها ما يجري في أفريقية الوسطى بإشراف فرنسا ، وما يسمّى بالدول الكبرى تتعاون كلها اليوم في المؤمرات على المسلمين ؟      ..    وفي الختام يقول سبحانه : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبتْ أيديكم ويعْفُو عن كثير) الشورى .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©