سلامة القلوب ضرورة لسلامة المجتمع

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 14رمضان 1430هـ الموافق 4 سبتمبر 2009م

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     *المجتمع المسلم متراصٌّ (كالبنيان يشد بعضه بعضا) متفق عليه . (كأنهم بنيان مرصوص) الصف . ولكنه رغم شدة التراصّ حيّ (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) متفق عليه .

     *و التراصّ يحتاج إلى التهذيب و إزالة النتوءات ، كما أن الحيوية معناها التآلف و التجانس و جودة التوصيل ، و معنى ذلك تحرير المادة من الشوائب ليتم التماسك والتواصل .

     *و اللبنة في البناء أو الخلية في الجسد هو المؤمن التقي سليم القلب واللسان .. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قلنا يا نبي الله من خير الناس ؟ قال: (ذو القلب المخموم واللسان الصادق) .قالوا : يا نبي الله قد عرفنا اللسان الصادق فما القلب المخموم ؟ قال : (التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد) قال قلنا يا رسول الله : فمن على أثَره ؟ قال  : (الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة) قلنا : ما نعرف هذا فينا ، إلا رافعٌ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن على أثره ؟ قال: (مؤمن في خلق حسن) قلنا : أما هذه فإنها فينا . رواه ابن ماجه بإسناد صحيح  والبيهقي وهذا لفظه وهو أتم .1

     *و لذلك عمل الإسلام على إصلاح القلوب و تأهيلها بالعبادات (ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة . وقد قال صلى الله عليه وسلم : (التقوى هاهنا) رواه أحمد و مسلم  وكذلك تأهيلها بالابتلاءات ..عن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأيُّ قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) رواه مسلم وغيره . ومعنى ذلك تحقُّق نوع من العصمة للقلب الذي لا تضره فتنة حتى قال صلى الله عليه و سلم : (استفت قلبك واستفت نفسك ـ ثلاث مرات ـ البر ما اطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)رواه أحمد وغيره .1

    *وصلاح القلب هو صلاح كل شيء (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) متفق عليه . والقلوب هي التي ينظر الله إليها مع الأعمال (إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم و أموالكم و لكن إنما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم) م هـ  عن أبي هريرة .

     * و لا يقوم الكيان الإسلامي المتراصُّ الحيّ إلا بترابط القلوب (هو الذي أيّدك بنصره و بالمؤمنين ، و ألّف بين قلوبهم) الأنفال . (المؤمنون هيّْنون ليّْنون كالجمل الأنِف(الذي يشتكي أنفه) إن قيد انقاد و إذا أنيخ على صخرة استناخ) ابن المبارك  عن مكحول مرسلا ، هب  عن ابن عمر ، وقال الألباني : حسن . وتشتت الكيان الخصومات .. عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أبغض الرجال إلى الله الألَدُّ الخَصِم) رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي .1

     *فلا بد من ترويض القلوب حتى تتحقق الذلة على المؤمنين والالتئام والانسجام ، و ذلك من أعظم مقاصد العبادة ومنها الصوم (فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) متفق عليه . فهو متنازل حتى و هو معتدى عليه .1

     و في مسند أحمد : حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري قال أخبرني أنس بن مالك قال : كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه ، قد تعلَّق نعليه في يده الشمال ، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا ، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى ، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال إني لاحيتُ (خاصمت) أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا ، فان رأيت ان تؤويني إليك حتى تمضي فعلت ، قال: نعم . قال أنس  :وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا ، غير انه إذا تعارّ وتقلّب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر ،  قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول الا خيرا ، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن  أحتقر عمله قلت يا عبد الله : إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار : (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) فطلعت أنت الثلاث مرار فأردت ان آوي إليك لأنظر ما عملك ، فاقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال ما هو إلا ما رأيت . قال فلما وليت دعاني فقال : ما هو الا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه . فقال عبد الله هذه التي بلغت بك وهى التي لا نطيق .قال الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين .1

     *والمسلم إما ولدٌ أوعبدٌ أوزوجةٌ أومأمورٌ لأمير أو أصغرُ سنا أو طالبُ علم عند شيخ ففي كل هذه الأحوال لا بد أن يخضع ويطيع قطعا في الجملة في غير معصية ، وإن لم يكن واحدا من هؤلاء فلا بد أن يذل لأخيه المسلم ويداريه ، بل حتى وهومظلوم معتدًى عليه فإنه يصبر و يدفع بالتي هي أحسن ، وهذا الخلُق هو ما يهدف الصوم إلى تربية المسلمين عليه على مدى شهر الصوم . وهو كذلك ما تحرص الجيوش على وجوده في الأفراد للحصول على المرونة والتلاحم والانصهار والقدرة على المواجهة  ، وتحصل على ذلك بالتدريبات ولكن في الإسلام في الإطار المسموح به شرعا (قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده) البقرة .1

     *و لا بد في التجمعات كمثل جامعتنا  ـ بعد سرْدِنا لما ذُكِر ـ من الحرص على التوافق مع المشايخ و الجيران والزملاء و في القاعات والسكن و المسجد و عدم التنافر (ليُصلِّ الرجل في المسجد الذي يليه و لا يتّبع المساجد)طب عن ابن عمر،قال الألباني : صحيح .   وعن جابر : أن رجلا قال يوم الفتح يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس . فقال : صلِّ ها هنا) فسأله فقال : (صلِّ ها هنا، فسأله فقال : (شأنك إذا) رواه أحمد و أبو داود وقال الألباني صحيح ، و قال الأرنؤوط : إسناده قوي رجاله رجال الصحيح . فلا يبحث الشخص عن مسجد أبعد إلا لمزيد فضل ليس غير، وإلا فيصلي في منطقته حيث يعمِّق معاني الأُخوّة .1

   * وهذا نموذج للتوافق القلبي و الانسجام والتعاون ..عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذا إلى اليمن فقال : ( يسِّرا ولا تعسِّرا ، وبشِّرا ولا تُنفَّرا وتطاوَعا ) . فقال أبو موسى  :يا نبي الله إن أرضنا بها شراب من الشعير المزر وشراب من العسل البتع فقال : ( كل مسكر حرام ) . فانطلقا فقال معاذ لأبي موسى : كيف تقرأ القرآن ؟ قال قائما وقاعدا وعلى راحلتي وأتفوَّقه تفوُّقا . قال : أما أنا فأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي . وضرب فسطاطا فجعلا يتزاوران فزار معاذ أبا موسى فإذا رجل موثق ، فقال ما هذا ؟ فقال : أبو موسى يهودي أسلم ثم ارتد فقال معاذ : لأضربن عنقه .1

     *وفي الختام فإن سلامة القلوب كما تجلب سعادة الدنيا للمؤمنين فإنها تجلب لهم سعادة الآخرة ، يقول سبحانه : (يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء .و لا بد من الاستعداد للعشر الأواخر من رمضان بالاعتكاف إن أمكن وتحري الليالي الوتر من أجل الحرص على ليلة القدر .

   

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©