ثم جعلناك على شريعة من الأمر

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 26 ربيع الآخر 1434هـ الموافق 8 مارس 2013م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/shriaa.mp3

    قال تعالى : (وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) الجاثية .

     قال ابن كثير في تفسيره :

     يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم، وجعْله الملك فيهم؛ ولهذا قال: (و َلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) أي: من المآكل والمشارب ، (وَ َضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: في زمانهم .

     (و آتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ) أي: حُجَجًا وبراهين وأدلة قاطعات ، فقامت عليهم الحُجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة ، وإنما كان ذلك بغيًا منهم على بعضهم بعضا، (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي: سيفصل بينهم بحُكْمه العدل.

     وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تَسْلُك مَسلَكهم، وأن تقصد منهجهم؛ ولهذا قال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا) أي: (اتبع ما أُوحِي إليك من ربِّك لا إلهَ إلا هو، وأعرِضْ عن المشركين) الأنعام . وقال هاهنا: (وَ ا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي: وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضا ، فإنهم لا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا، (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) ، وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.

ثم قال: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) يعني: القرآن (وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الجاثية .

     و قال الشوكاني في تفسيره :

     (و َلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) المراد بالكتاب التوراة وبالحكْم الفهم والفقه الذي يكون بهما الحكْم بين الناس وفصل خصوماتهم وبالنبوة مَن بعثه الله من الأنبياء فيهم (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) أي المستلذات التي أحلها الله لهم ومن ذلك المن والسلوى (وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلْق البحر ونحوه (و آتيناهُم بيِّناتٍ من الأمْرِ) أي شرائع واضحات في الحلال والحرام أو معجزات ظاهرات وقيل العلم بمَبعث النبي صلى الله عليه و سلم وشواهد نبوته وتعيين مُهاجَره (فما اختَلَفُوا إلا من بعدِ ما جاءَهم العلمُ) أي فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمْر إلا بعد مجيء العلم إليهم ببيانه و إيضاح معناه ، فجعلوا ما يوجِب زوال الخلاف مُوجِبا لثبوته ، وقيل المراد بالعلم يوشع بن نون فإنه آمن به بعضهم و كفر بعضهم ، وقيل نبُوَّة محمد صلى الله عليه و سلم فاختلفوا فيها حسدًا وبغيا وقيل (بغْيًا بينَهم) من بعضهم على بعض بطلَب الرئاسة (إن ربَّك يقْضي بينهم يوم القيامةِ فيما كانوا فيه يختلفون) من أمر الدين فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .

    (ثم جعلناكَ على شريعةٍ من الأمر) الشريعة في اللغة المذْهب والملة والمِنهاج ويقال : لِمَشْرَعة الماء وهي مَورِد شاربيه شريعة  ، ومنه الشارع لأنه طريقٌ إلى المقصد ، فالمراد بالشريعة هنا ما شرعه الله لعباده من الدين والجمع شرائع : أي جعلناك يا محمد على منهاجٍ واضع من أمر الدين يوصلك إلى الحق (فاتّبِعْها) فاعمَل بأحكامها في أمتك (و لا تَتَّبِعْ أهواءَ الذين لا يعلمون) توحيد الله وشرائعه لعباده وهم كفار قريش ومن وافقهم . (إنهم لن يُغْنُوا عنكَ من اللهِ شيئًا) أي لا يدفعون عنك شيئا ممَّا أراده الله بك إن اتبعت أهواءهم (و إنّ الظالمينَ بعضُهم أولياءُ بعضٍ) أي أنصارٌ ينصر بعضهم بعضا قال ابن زيد : إن المنافقين أولياء اليهود (و اللهُ وليُّ المتقين) أي ناصرُهم والمراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي  .  

    والإشارة بقوله (هذا) إلى القرآن أو إلى اتباع الشريعة وهو مبتدأ وخبره (بصائرُ للناس)أي براهين ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب .

     (وهدًى) أي رشْد وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به (و رحمةٌ) من الله في الآخرة (لقومٍ يوقنون) أي من شأنهم الإيقان وعدم الشكِّ والتزلزل بالشُّبَه ... و قد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر) يقول : على هدًى من أمر دينه .

       واقع المسلمين اليوم الانخداع بشريعة الديمقراطية :

    يجاهد بعض الإسلاميين اليوم للاستدلال بمنهاج الديمقراطية و أنه لا يتعارض مع الشريعة ، مع أنه منهاج المغضوب عليهم و الضالين ، و الديمقراطية هي وراء التمزيق المسمّى التعدُّدية ، و وراء الزعْم بأن الشعْب و ليس الله مصدر التشريع ، و وراء التشريعات البرلمانية  كالدساتير التي صارت المرجعية بكل ما فيها من تخليطٍ و تشريكٍ لإرضاء كل الأطراف .

     و الديمقراطية بأغلبيّتها هي وراء قوانين الربا و الاقتصاد الرأسمالي و الجنسية المُفَرِّقة للمسلمين والاستقلال عن بعضهم ، و وراء قوانين الإعلام و السياحة .. و هي وراء التوقيع على الاتفاقيات اللادينية كالميثاق العالمي لحقوق الإنسان و ميثاق الأمم المتحدة ، و اتفاقية السِّيْدَاو و الجَنْدَر ..

     فلماذا هذا الخلْط قال تعالى : (يا أهلَ الكتابِ لِمَ تَلْبِسُون الحقَّ بالباطلِ؟!!) آل عمران . و هل تجوز التسوية و المزْج بين الشرْع الإلهي و الديمقراطية كما يروّج بعضهم ، و يدّعي أنه من العلماء ؟ قال تعالى : (قلْ هل يَستوِي الأعمَى و البصيرُ ؟! أم هل تستوِي الظلماتُ و النُّور؟!!) الرعد .

    و رغْم الأغلبية الواضحة للإسلاميين على منهج الديمقراطية في هذه الأيام ، في مصر مثلًا ، إلا أن المُؤامراتِ مُتواصلة ، و في كل مَرَّةٍ يطلبُون من الإسلاميين أن يعملوا على التوافُق و الحوار ، و في الوقت ذاته يتآمرون بالتعاون مع اليهود و المنافقين والغربيين لإقْلاق الأمْن و إزالة الاستقرار و تدمير الاقتصاد ، حتى تمرَّ الفترة و يقولون فشِل الإسلاميون زز و يعاونهم القضاء في العرْقلة بإصدار الأحكام المُهَدِّمة لكيانات الدولة ..

     مع أنه لو كان الحائزون على الأغلبيّة علمانيين لقالوا يجب احترام الأغلبية ، و تجب إتاحة الفرصة لهم لتنفيذ برنامجهم خلال المُدَّة المُحدّدة .. و كذلك الحال في تونس ، و في ليبيا و في اليمن و في السودان .

     و ما أشبهَ المسارعين في الديمقراطية من الإسلاميين بما قاله الشاعر :

غُرَابٌ تعلَّمَ مشْيَ الحمَامِ   ***    و قد كانَ يُحْسِنُ مَشْيَ الحَجَل

فهرْوَلَ ما بين هذا و ذَا    ***       فلا ذا تأتَّى و لا ذا حصَل

     وفي الختام يقول سبحانه: (صِبْغَةَ اللهِ و من أحسنُ من اللهِ صِبْغَةً و نحن لهُ عابدُون) البقرة .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©