الخوفُ والرَّجاء

خطبة جمعة في مسجد جمعية أمة في 27 من ذي الحجة 1439هـ الموافق 7 سبتمبر 2018م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

     لا بدَّ من اجتماع الخوف والرجاء:

     قال تعالى عن زكريَّا وأُسرته: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) الأنبياء. وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) غافر.

      قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة وقال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) الحِجْر.

      والخوف هو التأثر بالإيمان بعظمة الله في أسمائه وصفاته وأقواله وأفعاله، فالله هو الملِك الجبار المتكبِّر المُنتقِم خالق الكون العظيم قَدَّر الكوارث والزلازل والفِتَن ويُقيم الساعة فيغيِّر الكون ويُبدِّله ويقبِض السماوات والأرض بيمينه، وجهنَّم سِجْنه لأعدائه لا مثيلَ لغضبه ولا لعذابه.

      والرجاء هو التأثر بالإيمان بعظمة الله في أسمائه وصفاته وأقواله وأفعاله أيضًا فالله هو الملِك الودود اللطيف الرحيم العفوُّ الغفور الوهاب القريب يُجيب الدعاء، ويفرِّج الكربات، قاصم الجبارين وناصر المستضعفين، خالق الرحَمات، أرحم بخلْقه من الوالدة بولدها، والمنْعم على خلقه بالنِّعَم التي لا تحصى، ويقيم الساعة من أجل إقامة العدل بين خلقه، فيجازي المحسنين بالجنة التي فيها ما لاعينٌ رأتْ ولا أُذُنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلْب بشَر، وينتقم للمظلومين بمجازاة الظالمين بما يستحقون.

       ولا بدَّ من اجتماع الخوف والرجاء في عقيدة وحياة المسلم، قال ابن القيِّم في المدارج في منزلة الخوف: الْقَلْبُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ، فَالْمَحَبَّةُ رَأْسُهُ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَاهُ، فَمَتَى سَلِمَ الرَّأْسُ وَالْجَنَاحَانِ فَالطَّائِرُ جَيِّدُ الطَّيَرَانِ، وَمَتَى قُطِعَ الرَّأْسُ مَاتَ الطَّائِرُ، وَمَتَى فُقِدَ الْجَنَاحَانِ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِكُلِّ صَائِدٍ وَكَاسِرٍ، وَلَكِنَّ السَّلَفَ اسْتَحَبُّوا أَنْ يَقْوَى فِي الصِّحَّةِ جَنَاحُ الْخَوْفِ عَلَى جَنَاحِ الرَّجَاءِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا يَقْوَى جَنَاحُ الرَّجَاءِ عَلَى جَنَاحِ الْخَوْفِ.

    وذكَر ابن القيِّم في منزلة الرجاء قَولَ اللَّهِ تَعَالَى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) الإسراء، وقال: فَابْتِغَاءُ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ: طَلَبُ الْقُرْبِ مِنْهُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ. فَذَكَرَ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ الثَّلَاثَةَ الَّتِي عَلَيْهَا بِنَاؤُهُ: الْحُبَّ، وَالْخَوْفَ، وَالرَّجَاءَ.

      وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) الرعد.

     و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» رواه مسلم والأربعة.

       جاء في تعليق محمد فؤاد عبد الباقي على الحديث: (المسجد) أي في السجود فهو مصدرٌ ميمى أو في الموضع الذي كان يصلي فيه في حجرته، وفي نسخة بكسر الجيم.

      (أعوذ برضاك من سخَطك)، ذكَر النووي أن الإمام أبا سليمان الخطابي رحمه الله تعالى ذكَر في هذا معنى لطيفًا، وذلك أنه استعاذ بالله تعالى وسأله أن يجيره برضاهُ من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدَّان متقابلان، وكذلك المعافاة والعقوبة، فلما صار إلى ذِكْر مالا ضدَّ له وهو الله سبحانه وتعالى، استعاذ به منه لا غير.

      (لا أُحصِي ثناءً عليك) أي لا أطيقُه ولا آتي عليه، وقيل لا أحِيط به، وقال مالك رحمه الله تعالى معناه لا أُحصِى نعمتك وإحسانك والثناء بها عليك وإن اجتهدتُ في الثناء عليك.

     (أنتَ كما أَثنَيتَ على نفسك) اعترافٌ بالعجز عن الثناء، وأنه لا يقدر على بلوغ حقيقته فوكَل ذلك إلى الله سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء، وكما أنه لا نهاية لصفاته، فلا نهاية للثناء عليه.

      من فوائد الخوف:

      قال ابن القيم في المدارج في منزلة الخوف : سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ.

        وذكَر ابن القيِّم أن الْوَجَل وَالْخَوْف وَالْخَشْيَة وَالرَّهْبَة أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرَادِفَةٍ. ومن خاف هرَب ممَّن يخاف، إلَّا الله فإن الخوف يكون بالهرب إليه، قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) الذاريات.

      قال تعالى: (...وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة. وسمِّيَتِ السورة بذلك.

       من فوائد الرجاء:

       قال ابن القيِّم في المدارج في منزلة الرجاء: الرَّجَاءُ حَادٍ يَحْدُو الْقُلُوبَ إِلَى اللَّه وَالدَّار الْآخِرَة. وَقِيلَ: هُوَ الِاسْتِبْشَارُ بِجُودِ وَفَضْلِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَالِارْتِيَاحُ لِمُطَالَعَةِ كَرَمِهِ سُبْحَانَهُ.

      وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ  قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِالله عزوجل» ،.

       وعند أحمد وابن حبان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي إن ظنَّ خيرًا فلَه، وإن ظنَّ شرًّا فلَه» . وهو صحيح كما في صحيح الجامع .

     وعند أحمد وابن حبان والحاكم والطبراني وغيرهم عن واثلة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظُنَّ بي ما شاء» وهو صحيح كما في صحيح الجامع.

      وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً " متفق عليه.

      ولا بدَّ ونحن في نهاية العام من وقْفة ومراجعة لعلاقتنا بالله، ومن ذلك الخوف منه ورجاؤه، قال تعالى: (وهو الَّذي جعَل الَّليلَ والنهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أرادَ أَن يَذَّكَّرَ أو أرادَ شُكُورًا) الفرقان.

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©