العلماء هم المؤهلون للتشريع الاجتهادي

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 26 ربيع الأول 1431هـ الموافق 12 مارس 2010م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/olma.mp3

     * مجلس شورى عمر كان من القراء : عن ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ ، وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ  ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي ، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ؟ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ : هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ! فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ) الأعراف . وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ . وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ .

     قال الحافظ في ( الفتح ) : وكان القُرَّاء أي العلماء العُبَّاد (العدول) أصحاب مجلس عمر فدل على أن الحُرَّ كان متصفا بذلك اهـ. ولعل الحافظ أخذ وصف العُبَّاد بمعنى العدول من لفظ القراء فهو يفيد كثرة قراءة القرآن ، وكما يدل على كثرة العلم فهو يدل على كثرة العبادة .

     ولما أدخل عمر ابن عباس في مجلس الشورى واعترض بعض المجلس بيّن لهم عمر أهلية ابن عباس .. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ ، فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ . فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ ، قَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا . وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا . فَقَالَ لِي : أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ .فَقُلْتُ : لَا . قَالَ : فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ : هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ ، قَالَ : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ ،( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ .

     ومعنى ذلك ان القراء( العلماء ) هم أهل الشورى لا سواهم لاسيما في القضايا الشرعية ، وإن الله لم يأذن بالتشريع الاجتهادي إلا للعلماء المجتهدين أهل الاستنباط ، المتوفِّرة فيهم شروط الاجتهاد ، في حدود ما أجاز الله لهم الاجتهاد فيه ، قال تعالى : ( ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) النساء .

    و تشكيل المجلس من القراء سنَّة سنَّها عمر في ضوء النصوص وإقرار الصحابة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (...فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ ، و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة ) .

 رواه أحمد وأبو دود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن العرباض بن سارية . وقال الألباني  صحيح .   

     والاعتداء على التشريع من غير من لم يأذن الله لهم ، وهم العلماء العدول معناه الشرك بالله ، قال تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) الشورى . وقال تعالى : ( ولا يُشرِك في حكمه أحدا ) الكهف . وقال تعالى : ( وإن أطعتموهم إنكم لَمُشْرِكون ) الأنعام .

     عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) . رواه البيهقي و قال الألباني صحيح .

      قال الحافظ في ( الإصابة ) : وصله الخطيب في ( شرف أصحاب الحديث ) وقد أورد ابن عدي هذا الحديث من طرق كثيرة كلها ضعيفة ، وقال في بعض المواضع رواه الثقات عن الوليد عن معان عن إبراهيم ، قال : حدثنا الثقة من أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره .

     وفال عليه الصلاة والسلام في الإِخبار عن آخر الزمان : (... اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) رواه الشيخان .

     ومنذ فترة غير بعيدة أنشأت آخر خلافة إسلامية وهي الدولة العثمانية برلمانها المسمَّى مجلس المبعوثان  ، و لكنها شكَّلتْ لجنة من العلماء المجتهدين الذين قاموا بإصدار مجلة الأحكام الشرعية العدلية ، لكي تكون مرجعاً اجتهاديّاً شرعيّاً عامّاً ، فأعطت القوس باريها ، و لم تجعل للبرلمان أيَّ سلطان على لجنة العلماء ، ولم تسمح لغير ذوي الاختصاص بالخوض في القضايا العلمية الاجتهادية ، أو التصويت عليها ، احتراماً للتخصُّص ، وصيانةً لشريعة الله من أن يقول فيها الذين لا يعلمون ، قال تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، و لا تَتَّبِعْ أهواء الذين لايعلمون ) الجاثية .

     والقول على الله بغير عِلْم أعظم الذنوب كما ذكر ابن القيم رحمه الله و غيره من العلماء ، قال تعالى : ( قل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف .

     و في فترة الدولة السابقة في اليمن تَمَّ تكليف مجموعة من العلماء لإعداد اختيارات اجتهادية في المعاملات لكي تكون مرجعاً للقضاة للحكم  بموجبها ، وقد تَمَّ ذلك ، واشتهرت تلك الاختيارات وكانت في صورة موادّ ، و قد تمت الاستفادة منها في التقنينات الجديدة بصورة واضحة كما يعلم المطّلعون .

      وأذكر أنه تَمَّ توزيعها علينا ـ الدفعة الأولى ـ في معهد القضاء بصنعاء قبل أكثر من ربع قرن للاستفادة منها.

     وإنه من الخير للمسلمين وللبرلمانات في بلدانهم في هذه الأيام أن يتركوا الاجتهاد لأهل الاجتهاد ، وأن يتم في كل بلد تشكيل نُخْبَةٍ من علماء الشريعة الكبار المعتبَرين الذين يثق الناس بعدالتهم ، ليختاروا الاجتهادات الفقهية ، فيما تجوز فيه الاجتهادات ، ويكون ذلك بالتصويت فيما بينهم هم ، دون سواهم ، تماماً كما يُصوِّت المختصون في الطب دون سِواهم في القضايا الطبية ، والمختصون العسكريون دون سِواهم في القضايا العسكرية ، والمهندسون المختصون دون سِواهم في المشاريع الهندسية ..وهكذا ...  ويُريحوا غير المختصين  من الخوض فيما لا يعنيهم  ، و في تعاطي ما لم يأذن به الله ..

     ومن آثار الاعتداء على التشريع من غير المختصين الذين لم يأذن الله لهم تشريعات عجيبة غريبة عن الإسلام والمسلمين ، خرقت الإجماع ..

     و من ذلك تشريعات إباحة الربا ، والله في تشريعه قد حرّم الربا ، و هو من الكبائر ، وهو استنزالٌ للحرب من الله ورسوله !.. 

     و تشريعات الجنسية والتَّفْرِقة التي تُفَرِّق بين المسلمين ، فتُميِّز مُسلِم البلد أو الكيان أو التشكيل المُعَيَّن على المسلم الآخَر اللاجئ أو المهاجِر أو الوافِد أو الآفاقي ، أو المسلم الذي في التيار أو الكيان أو التشكيل الآخر !.. 

والله جعل المسلمين جسداً واحداً وجعلهم إخْوةً متعادلين في الحقوق والواجبات لا يفترقون إلا في التقوى ..

     وتشريعات تقييد تعدُّد الزوجات  التي تمنع الزواج بأكثر من واحدة ، وتقييد الطلاق  التي تمنع الطلاق إلا من المحكمة ، وتقييد السن في الزواج ، التي تمنع الزواج دون سن الثامنة عشرة !.. والله أباح كل ذلك دون تقييد ، تيسيراً للناس ليتصرَّف كل إنسان منهم بحسب ظرْفه ..     

     وهذه النماذج من الاعتداءات في الغالب تصدُر عن مجالس تشريعية ، أو مجالس كيانات أو تشكيلات ليس عند الأغلبيات الساحقة لأعضائها القدْر القليل من العلم الشرعي ، فضلاً عن الانعدام التام عند هذه الأغلبيات لِأَهلية الاجتهاد !!

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©