من قال هلَك الناس فهو أهلكُهم

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 26 صفر 1433هـ الموافق 20 يناير 2012م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/hlk.mp3

    واقعية الإسلام في مُراعاة ضعف الناس :

     الإسلام دين الواقع ، و لا يطلب من الناس فوق بشريتهم ، و يتعامل معهم وَفق ضعفهم قال تعالى : (يريد الله أن يُخَفِّف عنكم و خُلِق الإنسان ضعيفا) . و جاء عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ  فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ) . قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ(صاحب مسلم كما في عون المعبود) لاَ أَدْرِى أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ. رواه مسلم .

     قال النووي: ( إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكُهم ) روي أهلكهم على وجهين مشهورين رفع الكاف وفتحها والرفع أشهر ، ويؤيده أنه جاء في رواية رويناها في حلية الأولياء في ترجمة سفيان الثوري فهو من أهلكهم . قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين الرفع أشهر ومعناها أشدهم هلاكا وأما رواية الفتح فمعناها هو جعلهم هالكين ، لا أنهم هلكوا في الحقيقة .

      واتفق العلماء على أن هذا الذمّ إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس و احتقارهم وتفضيل نفسه عليهم وتقبيح أحوالهم لأنه لا يعلم سر الله في خلقه ، قالوا فأما من قال ذلك تحزُّنًا لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه  ، كما قال لا أعرف من أمة النبي صلى الله عليه و سلم إلا أنهم يصلون جميعا .. هكذا فسره الإمام مالك وتابعه الناس عليه.   

     وقال الخطابي معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالًا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم ، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم ، والله أعلم .

       و بسبب عموم الضعف فإن شكْر الله مُضَاعَفٌ للمُحسنين :

      و المسلم إذا أحسن في عمل و أخلص فإن الله يشكره و يضاعف مثوبته ، قال تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) فاطر .  و قال تعالى : (وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) الشورى .  و قال تعالى : (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) التغابن . و قال تعالى : (مثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة .

     و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) رواه البخاري .

      عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: ( مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ - وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ - إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو في كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّى أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ) رواه مسلم .

      كما أن غفران الله واسعٌ بأسباب يسيرة :

      قال عليه الصلاة و السلام : (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب منها ، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي ، فنزل البئر فملأ خُفَّه ماء ثم أمسك بفيه ثم رقِيَ فسقى الكلب ، فشكرَ اللهُ فغفر له .. في كل ذات كبد رطبة أجر) رواه مالك و أحمد و البخاري و مسلم وأبو داود عن أبي هريرة .

     وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (غُفِر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس رَكِيٍّ يلهث كاد يقتله العطش ، فنزعتْ خفها فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك) . قيل : إن لنا في البهائم أجرا ؟ قال : (في كل ذات كبد رطبة أجر) متفق عليه .

      وعن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تلقَّت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، فقالوا عملتَ من الخير شيئا قال لا ، قالوا تذكَّر . قال كنت أُداين الناس فآمر فتياني أن يُنظِروا المُعسر ويتجوّزوا عن الموسِر قال قال الله تجاوزوا عنه) رواه البخاري ومسلم واللفظ له .

      وفي رواية لمسلم وابن ماجه عن حذيفة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا مات فدخل الجنة فقيل له ما كنت تعمل ؟ قال فإما ذكَر وإما ذُكِّر ، فقال كنت أبايع الناس فكنت أُنظِر المعسر وأتجوز في السِّكة أو في النقد)  فغُفر له .

     وفي رواية للبخاري ومسلم عنه أيضا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن رجلا ممن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه ، فقال هل عملت من خير؟ قال ما أعلم ، قيل له انظر قال ما أعلم شيئا غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا فأُنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر فأدخله الله الجنة) فقال أبو مسعود وأنا سمعته يقول ذلك .

        وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان رجل يُداين الناس وكان يقول لفتاه إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله عز وجل يتجاوز عنا فلقي الله فتجاوز عنه)

رواه البخاري ومسلم ، والنسائي ولفظه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلا لم يعمل خيرا قط وكان يداين الناس ، فيقول لرسوله خذ ما تيسر واترك ما عسر ، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا،  فلما هلك  قال الله له هل عملت خيرا قط ؟ قال لا ، إلا أنه كان لي غلام وكنت أداين الناس فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا ، قال الله تعالى قد تجاوزت عنك) .

     وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر ، قال الله تعالى نحن أحق بذلك تجاوزوا عنه) رواه مسلم والترمذي .

     و ذمُّ الله و عقابه شديدٌ للمستهين بالذنب ، و لاسيما إذا كان الذنب تطاولاً على الله ، أو قولاً عليه بغير علم أو كذباً على دينه ، و لاسيما من المنتسبين إلى العلم و العبادة:

     قال عليه الصلاة و السلام : (كان رجلان في بني إسرائيل مُتواخيان ، و كان أحدهما مذنبا و الآخر مجتهدا في العبادة ، و كان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول : أقصِر ، فوجده يوما على ذنب فقال له : أقصِر فقال : خلِّني و ربي أبُعثتَ علي رقيبًا ؟ ! فقال : و الله لا يغفر الله لك ! أو لا يُدخلك الله الجنة .. فقبض روحهما فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنتَ بي عالمًا أو كنت على ما في يدي قادرًا ؟ ! و قال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي و قال للآخر : اذهبوا به إلى النار) رواه أحمد و أبو داود عن أبي هريرة   و في رواية أبي داود قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لَتَكَلَّم بكلمة أوبقتْ دنياه وآخرته . فال الألباني صحيح .

     و قال ابن كثير في سبب نزول الآية المذكورة فيما بعد :  روى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة قال: جاء حُيَيُّ بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد ، فقالوا: ما أنتم وما محمد ؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء ، ونسقي الماء على اللبن ، ونفك العُناة ، ونسقي الحجيج .. ومحمد صنبور قطع أرحامنا ، واتبعه سرّاق الحجيج بنو غِفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا. فأنزل الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا) النساء . وقد رُوي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف.

       و قال الشوكاني في تفسيره لسورة الكوثر : أخرج البزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم ألا ترى إلى هذا الصابئ المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج وأهل السقاية وأهل السدانة ؟ قال : أنتم خير منه ، فنزلتْ : (إن شانئك هو الأبتر) . ونزلتْ (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) إلى قوله : (فلن تجد له نصيرا) النساء .. قال ابن كثير بعد ذكر الحديث عن البزار : وإسناده صحيح . اهـ .

     و لا يغفر الله لمن تَطاوَل فأشرك به.. و يدخل في ذلك كل ما كان من هذا الجنس من الأقوال و الأفعال و الافتراءات , و لو كانت مستورةً بأسماء أخرى فال تعالى : (إن الله لا يغفر أن يُشرَك به) .. و في الحديث عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم ( إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدَع بدْعته ) . رواه الطبراني والضياء المقدسي في (المختارة ) وغيرهما بسند صحيح كما قال الألباني وحسّنه المنذري ، لاسيما إذا كانت البدعة مكفِّرة .

     وأمة الإسلام خيرُ أمةٍ لا يُدرَى أوّلها خيرٌ أم آخرها :

      قال عليه الصلاة و السلام : (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوّله خيرٌ أم آخره) رواه أحمد و الترمذي  عن أنس و أحمد عن عمار و أبو يعلى  عن علي و الطبراني  عن ابن عمر وابن عمرو . قال الألباني : صحيح .

     قال المناوي في فيض القدير : ( مثل أمتي مثل المطر لا يدرى ) أي بالرأي والاستنباط      ( أوله خير أم آخره ) قال البيضاوي : نفَى تعلق العلم بتفاوت طبقات الأمة في الخيرية وأراد به التفاوت لاختصاص كل منهم بخاصية توجب خيريتها كما أن كل نوبة من نُوَب المطر لها فائدة في النماء لا يمكن إنكارها والحكم بعدم نفعها ، فإن الأولين آمنوا بما شاهدوا من المعجزات وتلقوا دعوة الرسول بالإجابة والإيمان ، والآخرين آمنوا بالغيب لما تواتر عندهم من الآيات واتبعوا الذين قبلهم بالإحسان ، وكما اجتهد الأولون في التأسيس والتمهيد اجتهد المتأخرون في التجريد والتلخيص ، وصرفوا عمرهم في التقدير والتأكيد ، فكل مغفور وسعيه مشكور وأجره موفور ، إلى هنا كلام القاضي (البيضاوي) ..

      وقد تمسك ابن عبد البر بهذا الحديث فيما رجحه من أن الأفضلية المذكورة في حديث خير الناس قرني إنما هي بالنسبة إلى المجموع لا الأفراد .  وأجاب عنه النووي بأن المراد ممن يشتبه عليه الحال في زمن عيسى و يرون ما في زمنه من البركة وانتظام شمل الإسلام فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير ، وهذا الاشتباه مندفع بخبر خير الناس قرني .. قال ابن حجر في الفتح : هو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة . اهـ .

     ولذلك لا بد أن نكون قوّامين بالقسط في الاعتراف بمحاسن المحسنين وإن قلّتْ ، والحذر من بِدع المبتدعين في هذا الزمان زمان التمايُز وإن دقَّتْ:

    لا يزال يتردّد هذه الأيام في أوساط المسلمين و المراقبين من الكافرين قُرب عودة الدولة الإسلامية العالمية ، و هذا يعني كما كرّرنا وجود صلاح يتنامَى لدى كثير من الناس في المرحلة الانتقالية ، و لدى بعض الحكام و لاسيما الجُدُد منهم مع بقاء اختلالات .. و من العدل ذِكر هذا الصلاح ، لأن الله لا يظلم مثقال ذرة ..

     مع مراعاة أنه بسبب فتنة الدهيماء التي يُرَجِّح بعض العلماء أننا نعايِشُها يحدث التمايُز إلى فسطاطين .. فيوجد أناسٌ كان يُظَن فيهم الخير ، و قد يكون بعضهم من العلماء و الدعاة ينجرفون في معمعة التمايُز إلى فسطاط النفاق و العياذ بالله فيحاولون التأصيل للبدع ، و مسايرة و مجاملة وتهنئة المنحرفين و المبتدعة و تملّق الجماهير و التبرير و التقرير للابتداع والانحراف ..! نسأل الله السلامة .

     و كما رأينا في النصوص قد ينجو العاميّ البسيط ، و يَتَردّى العالم النِّحرير و العابد الكبير ، و الهداية بيد الله .. و لن نهتدي إلا أن نَسْتَهْدِي الله ، وهذا زمانٌ يكثر فيه الإعجاب بالرأي .

     و في الختام يقول سبحانه : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) الكهف .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©