الانحرافات السياسية والضرورة 

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في 28 من ذي القعدة 1434هـ الموافق 4 أكتوبر 2013م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة عبر برنامج " الريل بلاير " اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/enhraf.mp3

    اختلال المرجعية في مؤتمر الحِوار :

     كان من نتائج منهجية الديمقراطية ومرجعية التصويت في مؤتمر الحوار الوطني أخيرًا .. التصويت على الكوتا النسائية في جميع مرافق الدولة بنسبة 30% بما في ذلك الوزراء ورئاسة الوزراء ورئاسة الدولة والجيش والأمن والقضاء إلخ ... مع أن الله يقول : (وقَرْنَ في بُيُوتِكِنَّ) الأحزاب , والرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث المتفق عليه : (والمرأةُ راعيةٌ في بيتها ومسؤولةٌ عن رعِيَّتها) متفق عليه .

     و على المساواة بين الجنسين دون تمييز ، مع أن الله يقول : (وليس الذَّكَر كالأُنثَى) آل عمران ، و يقول سبحانه : (وللرجالِ عليهِنّ درَجة) البقرة .

      و على حرية المعتقد ، مع أن الله يقول : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة .

     و على حظْر الزواج دون سنِّ الثامنة  عشرة مع أن الله يقول في عِدَّة الصغيرة التي لم تَحِضْ : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) الطلاق .  

    و الدخول في ميدان السياسة لتخفيف الشرور في هذه الأيام يحتاج لِقِلَّةٍ سياسية مُتَمَرِّسة مُناوِرةٍ تَضبِطها دراسة وفتاوَى منهجية تصدُر من علماء ربانيين لا مُسايِرِين ، لِضَبْط الخداعات الضرورية والمناورات السياسية ، ومن ذلك الدخول في الحوارات مع الخصوم وتجاهل بعض الشعارات عند الضرورة ، كتَجاهُل أُكذوبة أن الشعوب مصدر التشريع ، و أن الدساتير مرجعية ..إلخ. ولا بد من الإصرار على منْع تحويل هذه المناورات السياسية اليومية إلى منهج و ثقافة عامة مدخولة ..

     امتناع الدعاة والعلماء عن المناورات السياسية، و منْع السياسيين المتطلِّعين:

    ولابد من امتناع الدعاة والعلماءعن ممارسة هذه المناورات بأشخاصهم ، و كذلك منْع المتطلِّعين من السياسيين إلى ذلك ، فالسياسة والإعلام مُغرِيان بأضوائهما ، ومَن طلَب الولاية مُنِع منها .. فكيف إذا طلبها بالمناورات والتنازلات غير الشرعية ؟!..

    و هذا الامتناع و المنْع ضروري من أجل بقاء مصدر التوجيه والفتْوى بعيدًا عن الخلْط والدخَن والمناوَرة ، ومنْع الانتهاز السياسي من استغلال الاستثناءات !! . وهذا الحظر شبيهٌ بامتناع القُضاة والعسكريين من ممارسة السياسة اليومية أو استغلالها ، لأن العسكريين مرجعية محايِدة للحماية المنضبِطة ، والقُضاة مرجعية محايِدة للفصل المنضبِط ، و العلماء والدعاة مرجعية في الفتوى.   

     والحفاظ على صفاء الفتوى الشرعية والتوجيه والبيان بعيدًا عن المناورات المتقلِّبة ضرورة و فريضةٌ شرعية .

     اعتماد المناورات والخداع السياسي بدون ضرورة كذبٌ على الله ورسوله :

     إن المناورات والخِدَع السياسية نوعٌ من الكذب الذي لا يجوز إلا بقدر الضرورة ، والتمادي في ذلك هو كذبٌ على الله وعلى رسوله ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) الأنعام . وقال سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) هود .

     وعن الْمُغِيرَةُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) متفق عليه .

    ولا يجوز السكوت عن التمادي في ارتكاب المخالفات بحجة المصلحة وخدمة الإسلام فقد جاء في البداية والنهاية لابن كثير : ... وفي سنة 100هـ فِي رَمَضَانَ عَزَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ بَعْدَ سَنَةٍ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَإِنَّمَا عَزَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَقُولُ: أَنْتُمْ إِنَّمَا تُسْلِمُونَ فِرَارًا مِنْهَا .

فَامْتَنَعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ وَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ وَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إنَّ اللَّهَ إنَّما بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا.وَعَزَلَهُ وَوَلَّى بَدَلَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيَّ عَلَى

الْحَرْبِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْخَرَاجِ.اهـ.

     قصة نعيم بن مسعود ونحوها استثناءاتٌ بفتاوى خاصة :

    وإن قصص نُعيم بن سعود في غزوة الخندق ، والحجَّاج بن عِلَاط في مكة ، ومحمد بن مَسْلَمة مع كعب بن الأشرف ، وعبد الله بن أُنيس مع خالد بن سفيان الهُذَلي في خِداع الأعداء ومناورتهم ، كانت بفتاوى خاصة من النبي صلى الله عليه مسلم ، و لم يعتنقْها بقيَّة الصحابة ، ولم تصبح ثقافة عامة للناس ، وإنما بقِيَتْ ممارساتٍ استثنائية في حدود الضرورة وبقدْرها ..

    وكذلك الفتْوى الشهيرة عن ابن تيمية بعدم منْع التتار عن الخمر .. لِكفِّ شرِّهم ، ومعلومٌ أن مثل هذه الفتوى لا يجوز التوسُّع فيها إلى حد إباحة صناعة المسلمين للخمر مثلًا لتقديمه للتتار.

     فلا بد من حصر حالات التَّقِيَّة والضرورة، و لا بد في كلٍّ منها من فتوى خاصة لمن يصلُح لممارسة ذلك ، وتصدُر الفتوى من عالم ربّاني ، وتظل الفتوى في هذه الحالة محصورة ،كحصْر المخدِّر في العملية الجراحية ، بحيث لا يصبح الناس مُدمِنين لا على المخالفات ولا على المُخَدِّرات .

     وإذا لم يحصل هذا الحصْر والحجْر ، فإن خطورة لِهَاث بعض العلماء والدعاة والسياسيين المُتَطَلِّعين وراء السياسة المُخَلِّطة المتقلِّبة لا يقِلُّ خطرًا عن الانفلات الأمني والقتْل وقطْع الطُّرُق وقطْع النفط والكهرباء و صنوف الإفساد في الأرض التي نعاني منها ، و لا يقِلُّ خطرًا كذلك عن التصويت على الكوتا النسائية وعلى عدَم التمييز بين الجنسين ، وعلى حرية المُعتقَد ، وعلى حظر الزواج على مَن هم دون سِن الثامنة عشْرة ..

     وفي الختام يقول سبحانه : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) الزخرف .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©