الابتلاء بالتّنكيل ثم بالتمكين

خطبة جمعة في مسجد جامعة الإيمان في20 جمادى الأولى 1433هـ الموافق 12 أبريل 2012م

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  لسماع الخطبة اضغط على الرابط التالي:

http://www.ssadek.com/jomaa/ebtela.mp3

    سنة الله في الأولين و الآخرين في دورات الابتلاء بالشرّ و الخير:

     إن سنة الله في الأولين و الآخرين هي الابتلاء بالشر و الخير و حياة الناس دوراتٌ متعاقبة من ذلك ، قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) الأنبياء.

     و في مطلع دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان الابتلاء بالإيذاء و التنكيل ثم كانت الهجرة و التمكين  ، و كانت مدة هذه الدورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين سنة بقليل ، ثم صارت هذه الدورة مكرّرة في تاريخ الأمة إلى زماننا ، و لكن مدة كل دورةٍ طالت إلى قرْن كامل و يكون التجديد في نهايته كما في الحديث .

     و في بعض الدورات والقرون يكون التنكيل حادًّا كقرن استيلاء الصليبيين على بيت المقدس ، ثم التمكين بالنصر بقيادة صلاح الدين ، و قرن تدمير التتار ديار المسلمين و منها بغداد ، ثم التمكين بالنصر بقيادة سيف الدين قطُز ، و قرن سقوط الأندلس ثم التمكين بالنصر بفتح القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح تمهيدًا لفَتْح أوروبّا من الجهة الأخرى .. ثم في هذا القرن قام اليهود و الغرب بإسقاط الخلافة العثمانية بعد أن أرهقوها و أسمَوها الرجل المريض ، و أصبحت الأمة مستَعْمَرةً للغرب ثم بيد أذيالهم في الجملة إلى الآن منذ نحو تسعين سنة من سقوط الخلافة .

     و قد حصلت التنكيلات الفظيعة بالأمة خلال هذا القرن بالاستعمار و بالملوك الجبريين التابعين لهم ، و قد أدركنا في جيلنا التنكيلات بالفلسطينيين و بالأفغان مرّتين ، و بالبوسنيين و بالشيشانيين ، و بالصوماليين و بالعراقيين و غيرهم ، و بالمُصلحين بالذات في طول و عرض بلاد المسلمين .

     و الآن بدأ الناس يتنفسون الصعداء مع قرب نهاية القرن و مع بشائر التجديد على رأس القرن بعودة الخلافة ، لكي يُبْتَلَى المسلمون  بالتمكين الذي له طبيعته وضريبته و حتى مرَارته ، فقد خلق الله الإنسان مكابِدًا و خلق الدنيا مُكَدَّرة .

     و فيما يلي نقارن بين ما حدث لبني إسرائيل في عهد موسى و ما يحدُث لنا , فالسُّنَن واحدة و الأمة مبتلاةٌ باتّباع  مَن كان قبلنا (بني إسرائيل) بالذات :

      دعوى فرعون الإلهية كانت في التشريع ، و رفْض ذلك كان سببَ التنكيل ببني إسرائيل:

      جاءفي الظلال عند قوله تعالى: (وقال الملأ من قوم فرعون : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟ قال : سنُقَتِّل أبناءهم ، ونستَحْيِي نساءهم ، وإنا فوقهم قاهرون) الأعراف .

     إن فرعون لم يكن يدَّعي الإلهية بمعنى أنه هو خالق هذا الكون ومدبِّره؛. إنما كان يدعي الإلهية بمعنى أنه هو حاكم هذا الشعب بشريعته وقانونه؛ فلم يكن الناس في مصر يقدمون لفرعون الشعائر التعبدية ، فقد كانت لهم آلهتهم وكان لفرعون آلهته  ،كما هو ظاهر من قوله تعالى: (ويذَرَك وآلهتك) ، وكما معروف من تاريخ مصر الفرعونية . و هذا يلتقي مع تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن اليهود والنصارى : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) عندما سمعها منه عَدِيُّ بن حاتم ، وكان نصرانيّاً جاء ليُسلِم ، فقال : يا رسول الله ما عبَدوهم . فقال له رسول الله  صلى الله عليه وسلم: (بلى إنهم أحلُّوا لهم الحرام وحرَّموا عليهم الحلال؛ فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم) أخرجه الترمذي و ذكر الألباني أنه حسن  .

     أما ما حكاه الله من قول فرعون لقومه : (ما علمتُ لكم من إله غيري) القصص ، و كذلك : (...فقال أنا ربكم الأعلى) النازعات ، فيفسِّره قوله الذي حكاه القرآن عنه : (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ، أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ، ولا يكاد يبين؟ فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين؟) الزخرف .

     بمعنى أن فرعون يزعم أنه المسيطر الذي يُسيِّرهم كما يشاء؛ وعلى ضوء هذا البيان نفهم ما حكاه القرآن عن قول ملأ فرعون : (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ، ويذرك وآلهتك؟) الأعراف .

     فالإفساد في الأرض عندهم هو الدعوة إلى ربوبية الله ، حيث يترتب عليها تلقائياً بطلان شرعية فرعون ونظامه .. إفسادٌ بزعمهم بقلْب نظام الحكم القائم على ربوبية البشر للبشر .

     و لا يمانع فرعون و قومه عند الضرورة من الاعتراف بربوبية الله كما حكى القرآن : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) الأعراف .

     و استخفّ فرعون قومه ، كما قال الله سبحانه : (فاستخفَّ قومه فأطاعوه .. إنهم كانوا قوماً فاسقين) و لولا الفسق ما كان فرعون قادرًا على استخفافهم حتى يطيعوه ..

     و ما قاله الملأ من زعْمِ إفساد موسى ، استثار فرعون وأشْعره بالخطر على نظامه كله فانطلق بالتهديد : (قال : سنقتِّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون) الأعراف . يعني أنه سيعود إلى التذبيح السابق إبّان ولادة موسى ..    

     ويردُّ موسى عليه السلام بالاستعانة بالله : (قال موسى لقومه : استعينوا بالله واصبروا ، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين ) . فيأتي جوابهم : (قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) .. ويعود فيذكِّرهم موسى بالله ، و بالأمل في هلاك عدوهم واستخلافهم و تمكينهم في الأرض .. مع التحذير من المخالفات : (قال : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ، ويستخلفكم في الأرض ، فينظر كيف تعملون) . فليسوا أبناء الله وأحباءه  كما زعموا .. إنه استخلافٌ للامتحان.. اهـ .  

      و قال الزحيلي في تفسيره : من المعروف في التّاريخ المصري القديم أنه كان للمصريين آلهة كثيرة منها (الشمس) ويسمّونها (رَعْ) ، وفرعون عندهم سَلِيل الشّمس وابنها..قال الحسن البصري: كان فرعون يعبد الأصنام، فكان يُعبَد ويَعبُد. اهـ .

     المقارنة بين الفرْعَنة القديمة و الحديثة :

     و بالمقابل فإن أمَّتنا ابتُليتْ بالفرْعنة الغربية  و بفرْعنة أذيال الغرب الذين لم يطلبوا عبادتنا لهم في الشعائر ، و إنما في القبول بإسقاط الخلافة و تمزيق الأمة و القبول بالاستقلالات القومية و التحوّل إلى دويلات و إسقاط الشريعة و استبدالها بالتشريعات الديمقراطية ، ثم التنكيل بمن لم يقبلها و إتهامه بالإرهاب و الفساد  .. 

     و مثل ذلك كانت التهمة عند فرعون و مَلَئِه لموسى و قومه بالسعْي لِقلْب الحاكمية التشريعية ،و إقامة نظام جديد ، و استمر ذلك عشرات السنين من ولادة موسى إلى نبوّته ، ثم بعد نبوّته ، قال تعالى : (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) القصص ، أخرج عبد بن حميد ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و المحاملي في أماليه عن طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (و لما بلغ أشدّه) قال : ثلاثا وثلاثين سنة ، (و استوى) قال : أربعين سنة . وأخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة مثله .

      و أخرج الفريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: (و لما بلغ أشدّه) قال : ثلاثا وثلاثين سنة ، (و استوى) قال : أربعين سنة . (آتيناه حكما وعلما) قال : الحكم الفقه و العقل ، و العلْم النبوة ...

     و في حال أمتنا بعد سقوط الخلافة مرّتْ عشرات السنين و كان احتلال بلاد إسلامية كثيرة والتنكيل بها و استقلالها الصُّورِي و تمكين الجبْريين ، و إنشاء دولة اليهود و الحفاظ عليها ، و كان غزو العراق و أفغانستان و الصومال ... كما ذكرنا ، و كانت سجون أبي غريب و النقَب و غوانتانامو و أمثالها ..و كان قتْل و تشريد الملايين في كل هذه البلاد و غيرها من أجل حاكمية الديمقراطية التشريعية التي يتفَرْعَنُون علينا بها .

     الخلاص و بداية التمكين و الغُربة و التّيْه :

      و كما جاء الخلاص عند بني إسرائيل بالدعوة و الدعاء و الذكر ، قال تعالى لموسى : (اذهب أنت و أخوك بآياتي و لا تنِيَا في ذِكْري) طه ، ثم بهلاك فرعون .. فإن الخلاص عندنا في هذا القرْن بفضل الله كان بضَعْف الحلف الغربي أمام ضربات المجاهدين و بالإفلاسات المالية ، و بسقوط بعض أذيالهم أخيرًا تمهيدًا لِسقوط باقيهم ، و بالذكر و الدعاء .

     و سندخل في طور جديد من الخلاص و نحن في بداية التمكين كما يبدو , كما دخل بنو إسرائيل ، مع وجود الغربة و المخالفات و استمرار تدخلات الأعداء عندهم كالسامريّ والجبارين و سيطرتهم و لو على نطاق أقل ، و مع العقوبة بالتِّيه .

     و عندنا بالمعاناة حاليا في تونس و مصر و ليبيا و اليمن ، مع عدم قيام الأُخُوَّة و عدم التواصل و التنسيق ، و استمرار الديمقراطية و عدم تطبيق الشرع ، و استمرار تدخلات الغربيين و سفرائهم ، و مع الكدّ في الدساتير و الحوارات التي ليست مرجعيتها العلماء و لا الشرع ، ومع العقوبة بالغُربة ، رغم تحذيرات الصالحين .

     و لعل متابعة الخلاص ، و حصول الصراعات و الغربة و العقوبات و التصحيحات ستأخذ مدة من الزمن (ربما عشر سنوات) إلى أن تعود الخلافة بعد استكمال القرن إن شاء الله على سقوطها .. فالفترة أقل عندنا كما يبدو بسب ظروف آخر الزمان .

      قال الطبري في تفسير قوله تعالى : (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ، قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) يونس ..  قال ابن جريج : يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة .

     و قال السيوطي في الدر المنثور :أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة . وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله  . وأخرج الحكيم الترمذي عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: (قال قد أجيبت دعوتكما) قال : بعد أربعين سنة .

     و كان بقاء بني إسرائيل بعد ذلك في التيه أيضا أربعين سنة بسبب المعاصي و عصيان موسى و هارون ، كما حكى القرآن : (قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) المائدة .

     و مرّت ببني إسرائيل أربعينات ثلاث تقريبا أو أكثر : واحدةٌ من ميلاد موسى إلى نبوّته ، و الثانية من دعائه مع أخيه إلى الاستجابة ، و الثالثة في التّيه .

     و الغربيون يريدون اليوم بعد أكثر من أربعينيّتَين من وقت سقوط الخلافة العثمانية ، يريدون دخولنا في التيه في كل قُطر بحسَبِه ، و في اليمن مثلاً بقانون العدالة الانتقالية و المواءمة مع تشريعاتهم و مؤتمر الحوار و الدستور و الفيدرالية ، لكي يفرضوا علينا ضلالاتهم ، في حين إن الواقع في وادٍ آخر من انعدام الأمن ، و وجود انقسامات ، و ضعف الاقتصاد ... و إن شاء الله عما قريب  يتم القرن من وقت سقوط الخلافة ثم تعود الخلافة .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©