الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ولاشك أن الأيام تأتي ومعها ذكرياتها .. سواء
أكانت هذه ذكريات مما يخص الشخص فهو يتذكر
فيها ما جرى له أو ما حصل له في سالف الأيام
فيعتبر بذلك ، أو قد يتذكر أحداثًا تاريخية
حدثت في مثل هذا اليوم يستفيد منها ويأخذ منها
العبرة والعظة .
قد جعل الله - تبارك وتعالى -
مرور الأيام لحكم كثيرة .. من ضمن هذه الحكم :
التذكر ، يقول الله - تبارك وتعالى -:(
وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً
لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ
شُكُورًا ) (الفرقان :62) .
في مثل هذا اليوم - كما ذكر
الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في كتابه
(الإصابة) .. هذا الكتاب الذي خصصه من أجل أن
يذكر فيه تراجم الصحابة - رضوان الله عليهم -
ذكر أثناء ترجمته لخديجة - رضي الله عنها -
زوج النبي - عليه الصلاة والسلام – ذكر أنها
توفيت في اليوم العاشر من رمضان بعد مرور عشرة
سنوات على البعثة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات
.
عندما ذكر الحافظ هذا التاريخ
لاشك أن لهذا التاريخ دلالته .. عندما يذكرنا
بوفاة هذه المرأة العظيمة التي كانت زوجة لسيد
البشرية محمد - عليه الصلاة والسلام - .. يقول
عن نفسه : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ..
ولا فخر ).
هذه المرأة كانت زوجة له .. اختارها الله -
تبارك وتعالى - لكي تكون زوجة له عندما يصطفيه
الله - تبارك وتعالى - للنبوة وللرسالة .
تزوجها النبي - عليه الصلاة
والسلام - وهو سنه خمسٌ وعشرون سنة وكانت هي
في سن الأربعين ، ومع ذلك فقد كانت لها ميزات
كثيرة ميزها الله - تبارك وتعالى - بها .
ربنا - جل وعلا - عندما يصطفي
أنبياءه ورسله إنما يختارهم لميزات فيهم ، وكل
نبي لاشك أنه فيه تلك الميزات وفيه تلك الصفات
.
وأما نبينا محمد فباعتباره أنه
نبي آخر الزمان جاء خاتمًا للأنبياء والمرسلين
لن يعقبه نبي ولا رسول . فلقد اختاره الله -
تبارك وتعالى - لصفات وميزات أكثر ، واختار له
البيئة التي يبعث فيها ، واختار له الجيل الذي
يبعث فيه ، واختار له كذلك الأسرة التي تعبده
وتكون معه وتقف بجواره .
ولاشك أن أهم عنصر في الأسرة
هو الزوجة خديجة - رضي الله عنها - اختارها
الله - تبارك وتعالى - واصطفاها لكي تكون زوجة
لنبيه الكريم محمد - عليه أزكى الصلاة وأزكى
التسليم - .
يقول النبي - عليه الصلاة والسلام - في هذه
المرأة .. يقول : (( كمل من الرجال كثير ، ولم
يكمل من النساء إلا خديجة بنت خويلد ومريم
ابنة عمران وآسية امرأة فرعون )) ، والحديث
متفق عليه .
في هذا يشهد النبي - عليه الصلاة والسلام ..
وشهادة النبي ليست كشهادة أي أحد - يشهد
لهؤلاء النسوة الثلاث بالكمال مع أن النساء -
كما هو معروف - تغلبهن العاطفة .
قد اختار الله - تبارك وتعالى - غلبة العاطفة
لهن لأنهن يعشن مع الأطفال مع الصبيان مع
الصغار ، وهؤلاء يحتاجون إلى نوعٍ من الانفتاح
، وتحتاج تربية الصبيان إلى نوع من التسامح
ونوع من التساهل ؛ ولذلك فإن غلبة العاطفة على
النساء معناه أن ينقص عندهن التدقيق والمتابعة
وكثير من الأمور ؛ فلذلك كان هذا النقص عندهن
في باب التدقيق والتحري ونحو ذلك كان هذا ميزة
.
ولكن يبين النبي - عليه الصلاة
والسلام - أن الله استثنى من النساء هؤلاء
الثلاث فأعطاهن الكمال .. بمعنى أنهن يتميزن
بالتحري وبالدقة وبالمواقف المناسبة عند وقوع
الأحداث .
فخديجة - رضي الله عنها -
عايشت النبي - عليه الصلاة والسلام - عند أول
بعثته .
النبي - عليه الصلاة والسلام - هو الذي بعثه
الله تبارك وتعالى واختاره لكي يكون رسولاً
للعالمين.
تجلى كمال هذه المرأة عندما
اختارته زوجاً لها .. كانت هذه المرأة تعتبر
من صفوة نساء قريش ؛ كان عندها المال والشرف
والجمال ، وكان كل الناس في قريش - من كبار
قريش - يتمنون أن يتزوجوها ، ومع ذلك ما كانت
تقبل .. كانت قد تزوجت رجلاً ثم رجلٍ من علية
القوم ثم تأيمت فبقيت أيمًّا .
قال محمد : كانت تتاجر بمالها
إلى الشام كشأن سائر الأغنياء في قريش ، وقد
وقع اختيارها على محمد - عليه الصلاة والسلام
- لما تميز به من النباهة ولما تميز به من
الأمانة والفطانة .
اختارته وأرسلت معه غلامها ميسرة إلى الشام ؛
فرجع محمد - عليه الصلاة والسلام - بربحٍ
كثيرٍ.
فبدأت تفكر هذه المرأة العاقلة - التي وصفها
النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما صار
نبياً وصفها بالكمال - بدأت تفكر في هذا الرجل
، وإذا بها بفراستها الصادقة ترى أن تختاره
زوجاً لها ؛ فأرسلت إليه من ينبهه إلى أن
يخطبها .
ومحمد - عليه الصلاة والسلام -
لما كان يعلم من صفات هذه المرأة لم يتردد
وفعلاً خطبها .
فكان اختيارها لهذا الرجل
نموذجاً من نماذج تفكيرها السليم ودقتها
دليلاً على كمالها الذي ذكره النبي - عليه
الصلاة والسلام - لأنه لم يخب ظنها ؛ فقد
اختارت إمام الأنبياء والمرسلين وسيد البشرية
لكي يكون زوجاً لها .. قد تبين ذلك فيما بعد ،
فهذا موقف يدل على كمال هذه المرأة .
وبعد ذلك عندما بعث الله محمد
- عليه الصلاة والسلام - ونزل عليه جبريل
بالوحي كان النبي - عليه الصلاة والسلام ..
كما معلوم وكما ورد في البخاري ومسلم - كان قد
حُبب إليه الخلاء ، فكان يبيت الليالي ذوات
العدد في غار حراء ، وفي تلك الأثناء نزل عليه
جبريل وحدثت قصة نزول الوحي .. عندما غطه ثلاث
مرات يقول له في كل مرة : اقرأ ، يقول : ما
أنا بقارئ ، ثم قال له في المرة الثالثة : (
اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ
مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ *
الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ
الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )
(العلق :1-5) .
فوجي النبي - عليه الصلاة
والسلام - بهذا الحادث ورجع وهو يرتعد .. رجع
إلى زوجه خديجة - رضي الله عنها - ويقول : (
زملوني زملوني) من الخوف الذي أصابه .
هنا يتجلى كمال هذه المرأة .. لم تصب بالخوف -
كما هو شأن كثير من النساء – كثير من النساء
إذا حصل حادث مفاجئ فإنها تخاف وترتعد وتشكل
عبئاً على زوجها ، ولكن هذا المرأة كانت
بالعكس .
فإذا بها عندما جاء زوجها محمد وهو في هذه
الحالة إذا بها تطمئنه .. تقف بجانبه عندما
قال لها : إنني خفت على نفسي قالت : والله لا
يخزيك الله أبدا .. كلمته كلام الواثق وأقسمت
.. قالت له : والله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك
تحمل الكَلّ وإنك تكسو المعدوم وإنك تعين على
نوائب الحق.
فثبتته وهدأت من روعة - عليه
الصلاة والسلام - .
ولم تقف عند هذا الأمر ..
وإنما فكرت بذهنها الثاقب فتذكرت أن مثل هذا
الحادث العجيب يحتاج إلى شخص يفسره ، فخطر في
ذهنها ورقة بن نوفل .. ذلك الرجل الذي كان قد
بحث في الأديان ورأى أنها أديان منحرفة أديان
ضالة ، واهتدى إلى الدين الصحيح .. اهتدى إلى
دين عيسى - عليه السلام - فقرأ الإنجيل وعرف
ما فيه .
واهتدت إليه وذهبت إليه تخبره
بما حدث لزوجها ، فإذا به يجيبها الجواب
الشافي .. أخبرها أن زوجها رسول من عند الله ،
وأن هذا الذي يأتيه أو الذي جاءه هو جبريل -
عليه السلام - الذي كان ينزل على الأنبياء من
قبله .. نزل على موسى - عليه السلام - من قبل
.
فعادت خديجة - رضي الله عنها -
إلى زوجها بهذه البشرى وحدث لقاء بين محمد
وبين ورقة بن نوفل ، فاطمأن محمد - عليه
الصلاة والسلام - إلى ما قاله ورقة بن نوفل .
ثم إذا به يسترسل معه في
الحديث ويقول له : ليتني أكون فيها جدعاً إذ
يخرجك قومك ، واستغرب النبي - عليه الصلاة
والسلام - نقله نقلةً أخرى .. ارتجع عنه الخوف
والرعب ، وأخذ يحدثه عما سيحصل له .. قال :
أمخرجي هم ، قال له ورقة : ما أتى أحدٌ بمثل
ما أتيت به إلا عودي وأوذي .
هذا موقف من مواقف هذه المرأة
الكاملة .
كذلك دخل النبي - عليه الصلاة
والسلام - في سلك الدعوة .. فمن كان أو من
استجاب له ؟ لقد كانت هذه المرأة .. استجابت
له وآمنت به ؛ فكانت أول من آمن - رضي الله
عنها - .
ثم لم يقم الأمر عند هذا الحد
، وإنما احتاج النبي - عليه الصلاة والسلام -
وهو يريد أن يدعو إلى الله .. يريد أن ينشر
هذا الدين .. عنده تبعات .. عليه تكاليف ؛
احتاج إلى المال فلم تكن بخيلة بمالها .. قدمت
مالها في سبيل الدعوة التي جاء بها محمد التي
جاء بها زوجها .
لقي النبي - عليه الصلاة
والسلام - العنت والمشقة والإيذاء من قومه
فقدمت بجانب مالها قدمت لطفها ، وقدمت كذلك
للنبي - عليه الصلاة والسلام - الطمأنينة
والراحة والمواساة ؛ فكانت تواسيه وكانت تخفف
عنه ، وكانت تشد من أزره وكانت تقف بجواره -
رضي الله عنها - .
واستمر الأمر كذلك إلى أن لقيت
ربها - جل وعلا - .
جوانب حياته ملأت عليه جوانب
حياته قبل النبوة ثم ملأت عليه جوانب حياته
بعد النبوة ؛ ولذلك لم يحتاج إلى أن يتزوج
امرأة أخرى بجانبها رغم أنه تزوجها وهي في سن
الأربعين .. رغم أنه تزوجها وقد تزوجت من قبل
، لكنه وجد أنها تملأ عليه جميع جوانبه نفسه -
رضي الله عنها - ولذلك ورد بالحديث الذي رواه
مسلم : أن النبي - عليه الصلاة والسلام – لم
يتزوج على خديجة امرأة أخرى .
وبعد أن توفيت خديجة - رضي
الله عنها - تألم النبي - عليه الصلاة والسلام
- لفراقها ، وحدث كذلك أنه توفي عمه أبو طالب
الذي كان يسنده ؛ فحصل عند النبي - عليه
الصلاة والسلام - حزنٌ شديدٌ .
لذلك فإن الله - تبارك وتعالى - خفف عنه بأن
حدثت للنبي - عليه الصلاة والسلام - قضية
(الإسراء والمعراج) .. خفف الله - تبارك
وتعالى - عنه فأسرى به من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى ، ثم عرج به إلى السماء فرأى
الآيات العجيبة .. (
لقد رأى من آيات
ربه الكبرى ) ..
كل هذا كان تخفيفاً على النبي
- عليه الصلاة والسلام - مما يدل على أن هذا
كان من أجل ملء الفراغ الذي تركته خديجة - رضي
الله عنها - في نفس النبي - عليه الصلاة
والسلام - .
هذه المرأة الكاملة كان النبي
- عليه الصلاة والسلام - فيما بعد إذا جاءت
صديقات خديجة كان يفرح - عليه الصلاة والسلام
- كان يذبح الشاة - كما تقول عائشة - رضي الله
عنها - في الحديث المتفق عليه - ثم يوزعها في
صدائق خديجة - رضي الله عنها - .
كان إذا جاءت أختها هالة بنت خويلد لزيارة كان
الرسول يفرح ويقول : اللهم هالة بنت خويلد
لأنه يجد في صوتها شبهاً من صوت خديجة - رضي
الله عنها - .
قالت عائشة - رضي الله عنها - : ما غِرتُ من
امرأة كما غرتُ من خديجة لكثرة ذكر النبي
لها.
قالت : " قلت له ذات مرة : ما
تذكر من امرأة حمراء الشدقين .. قد أبدلك الله
خيراً منها " ، فقال النبي - عليه الصلاة
والسلام - قال كلمة الوفاء التي تليق به -
عليه الصلاة والسلام - والتي تدل على مبلغ
عظمة هذه المرأة في نفسه - عليه الصلاة
والسلام - قال : ( والله ما أبدلني الله خيراً
منها ؛ آمنت بي إذ كذبني الناس ، وواستني
بمالها إذ حرمني الناس ، وكانت وكانت ، وكان
لي منها ولد ).
أولاد النبي - عليه الصلاة
والسلام - كلهم كانوا من خديجة - رضي الله
عنها - ما عدا ولداً واحداً .. وهو إبراهيم
الذي كان من ماريا القبطية ، أما أولاده -
سواء أكانوا ذكوراً أو إناثاً - غير إبراهيم
فكلهم كانوا من خديجة - رضي الله عنها - .
ولد له فسماه (القاسم) ومات
صغيراً ، ولد له ولدٌ آخر كان يلقب بـ (الطيب)
أو بـ (الطاهر) ومات كذلك صغيراً ، وله أيضاً
من خديجة - رضي الله عنها - زينب وفاطمة ورقية
وأم كلثوم .. هؤلاء كلهن من خديجة - رضي الله
عنها - .
خديجة - رضي الله عنها - كانت
لها مكانة في نفس الرسول ومكانة كذلك عند الله
- تبارك وتعالى - .
نزل جبريل - كما في الحديث المتفق عليه -
وأخبر محمدًا - عليه الصلاة والسلام - وقال له
: ( إن خديجة آتيه إليك ومعها طعام وماء
فأقرأها من الله السلام وأقرأها مني السلام ،
وبشرها بأن لها بيتاً في الجنة من قصب لا صخب
فيه ولا نصب ).
هكذا بلغ مستوى خديجة - رضي
الله عنها - عند الله - تبارك وتعالى - وعند
رسول الله.
عاشت حياة الإيمان وحياة
الدعوة وحياة التضحية مع محمد .. عاشت حياة
الكمال مع النبي محمد ، وكذلك ستعيش أرقى
أنواع الحياة في الدار الآخرة عند الله -
تبارك وتعالى - في بيت من قصب .. ( القصب هو
اللؤلؤ المجوف في بيته ) من قصب لا صخب فيه
ولا نصب .. حياة الكمال كذلك في الآخرة .
نسأل الله - تبارك وتعالى -
أن يجعلنا ممن يتأسى بخديجة - رضي الله عنها -
لاسيما نساءنا ..
إن نساء النبي - عليه الصلاة والسلام - هن في
القمة ، ويجب على نسائنا في هذا الزمان وفي كل
زمان أن يقتدين بهن وأن يأتسين بهن ، وأن
يسلكن مسلكهن ما استطعن إلى ذلك سبيلا .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
|