موت خديجة رضي الله عنها

 أذيعت يوم السبت 13 رمضان 1429هـ لقناة دليل الفضائية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

   

   الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 ولاشك أن الأيام تأتي ومعها ذكرياتها .. سواء أكانت هذه ذكريات مما يخص الشخص فهو يتذكر فيها ما جرى له أو ما حصل له في سالف الأيام فيعتبر بذلك ، أو قد يتذكر أحداثًا تاريخية حدثت في مثل هذا اليوم يستفيد منها ويأخذ منها العبرة والعظة .
قد جعل الله - تبارك وتعالى - مرور الأيام لحكم كثيرة .. من ضمن هذه الحكم : التذكر ، يقول الله - تبارك وتعالى -:( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) (الفرقان :62) .

في مثل هذا اليوم - كما ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في كتابه (الإصابة) .. هذا الكتاب الذي خصصه من أجل أن يذكر فيه تراجم الصحابة - رضوان الله عليهم - ذكر أثناء ترجمته لخديجة - رضي الله عنها - زوج النبي - عليه الصلاة والسلام – ذكر أنها توفيت في اليوم العاشر من رمضان بعد مرور عشرة سنوات على البعثة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات .

عندما ذكر الحافظ هذا التاريخ لاشك أن لهذا التاريخ دلالته .. عندما يذكرنا بوفاة هذه المرأة العظيمة التي كانت زوجة لسيد البشرية محمد - عليه الصلاة والسلام - .. يقول عن نفسه : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة .. ولا فخر ).
هذه المرأة كانت زوجة له .. اختارها الله - تبارك وتعالى - لكي تكون زوجة له عندما يصطفيه الله - تبارك وتعالى - للنبوة وللرسالة .
 تزوجها النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو سنه خمسٌ وعشرون سنة وكانت هي في سن الأربعين ، ومع ذلك فقد كانت لها ميزات كثيرة ميزها الله - تبارك وتعالى - بها .

ربنا - جل وعلا - عندما يصطفي أنبياءه ورسله إنما يختارهم لميزات فيهم ، وكل نبي لاشك أنه فيه تلك الميزات وفيه تلك الصفات .
وأما نبينا محمد فباعتباره أنه نبي آخر الزمان جاء خاتمًا للأنبياء والمرسلين لن يعقبه نبي ولا رسول . فلقد اختاره الله - تبارك وتعالى - لصفات وميزات أكثر ، واختار له البيئة التي يبعث فيها ، واختار له الجيل الذي يبعث فيه ، واختار له كذلك الأسرة التي تعبده وتكون معه وتقف بجواره .

ولاشك أن أهم عنصر في الأسرة هو الزوجة خديجة - رضي الله عنها - اختارها الله - تبارك وتعالى - واصطفاها لكي تكون زوجة لنبيه الكريم محمد - عليه أزكى الصلاة وأزكى التسليم - .
يقول النبي - عليه الصلاة والسلام - في هذه المرأة .. يقول : (( كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا خديجة بنت خويلد ومريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون )) ، والحديث متفق عليه .
 في هذا يشهد النبي - عليه الصلاة والسلام .. وشهادة النبي ليست كشهادة أي أحد - يشهد لهؤلاء النسوة الثلاث بالكمال مع أن النساء - كما هو معروف - تغلبهن العاطفة .
قد اختار الله - تبارك وتعالى - غلبة العاطفة لهن لأنهن يعشن مع الأطفال مع الصبيان مع الصغار ، وهؤلاء يحتاجون إلى نوعٍ من الانفتاح ، وتحتاج تربية الصبيان إلى نوع من التسامح ونوع من التساهل ؛ ولذلك فإن غلبة العاطفة على النساء معناه أن ينقص عندهن التدقيق والمتابعة وكثير من الأمور ؛ فلذلك كان هذا النقص عندهن في باب التدقيق والتحري ونحو ذلك كان هذا ميزة .
ولكن يبين النبي - عليه الصلاة والسلام - أن الله استثنى من النساء هؤلاء الثلاث فأعطاهن الكمال .. بمعنى أنهن يتميزن بالتحري وبالدقة وبالمواقف المناسبة عند وقوع الأحداث .

فخديجة - رضي الله عنها - عايشت النبي - عليه الصلاة والسلام - عند أول بعثته .
النبي - عليه الصلاة والسلام - هو الذي بعثه الله تبارك وتعالى واختاره لكي يكون رسولاً للعالمين.
تجلى كمال هذه المرأة عندما اختارته زوجاً لها .. كانت هذه المرأة تعتبر من صفوة نساء قريش ؛ كان عندها المال والشرف والجمال ، وكان كل الناس في قريش - من كبار قريش - يتمنون أن يتزوجوها ، ومع ذلك ما كانت تقبل .. كانت قد تزوجت رجلاً ثم رجلٍ من علية القوم ثم تأيمت فبقيت أيمًّا .

 قال محمد : كانت تتاجر بمالها إلى الشام كشأن سائر الأغنياء في قريش ، وقد وقع اختيارها على محمد - عليه الصلاة والسلام - لما تميز به من النباهة ولما تميز به من الأمانة والفطانة .
اختارته وأرسلت معه غلامها ميسرة إلى الشام ؛ فرجع محمد - عليه الصلاة والسلام - بربحٍ كثيرٍ.
 فبدأت تفكر هذه المرأة العاقلة - التي وصفها النبي - عليه الصلاة والسلام - عندما صار نبياً وصفها بالكمال - بدأت تفكر في هذا الرجل ، وإذا بها بفراستها الصادقة ترى أن تختاره زوجاً لها ؛ فأرسلت إليه من ينبهه إلى أن يخطبها .
ومحمد - عليه الصلاة والسلام - لما كان يعلم من صفات هذه المرأة لم يتردد وفعلاً خطبها .

 فكان اختيارها لهذا الرجل نموذجاً من نماذج تفكيرها السليم ودقتها دليلاً على كمالها الذي ذكره النبي - عليه الصلاة والسلام - لأنه لم يخب ظنها ؛ فقد اختارت إمام الأنبياء والمرسلين وسيد البشرية لكي يكون زوجاً لها .. قد تبين ذلك فيما بعد ، فهذا موقف يدل على كمال هذه المرأة .

وبعد ذلك عندما بعث الله محمد - عليه الصلاة والسلام - ونزل عليه جبريل بالوحي كان النبي - عليه الصلاة والسلام .. كما معلوم وكما ورد في البخاري ومسلم - كان قد حُبب إليه الخلاء ، فكان يبيت الليالي ذوات العدد في غار حراء ، وفي تلك الأثناء نزل عليه جبريل وحدثت قصة نزول الوحي .. عندما غطه ثلاث مرات يقول له في كل مرة : اقرأ ، يقول : ما أنا بقارئ ، ثم قال له في المرة الثالثة : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (العلق :1-5) .

فوجي النبي - عليه الصلاة والسلام - بهذا الحادث ورجع وهو يرتعد .. رجع إلى زوجه خديجة - رضي الله عنها - ويقول : ( زملوني زملوني) من الخوف الذي أصابه .
هنا يتجلى كمال هذه المرأة .. لم تصب بالخوف - كما هو شأن كثير من النساء – كثير من النساء إذا حصل حادث مفاجئ فإنها تخاف وترتعد وتشكل عبئاً على زوجها ، ولكن هذا المرأة كانت بالعكس .
فإذا بها عندما جاء زوجها محمد وهو في هذه الحالة إذا بها تطمئنه .. تقف بجانبه عندما قال لها : إنني خفت على نفسي قالت : والله لا يخزيك الله أبدا .. كلمته كلام الواثق وأقسمت .. قالت له : والله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك تحمل الكَلّ وإنك تكسو المعدوم وإنك تعين على نوائب الحق.
فثبتته وهدأت من روعة - عليه الصلاة والسلام - .

ولم تقف عند هذا الأمر .. وإنما فكرت بذهنها الثاقب فتذكرت أن مثل هذا الحادث العجيب يحتاج إلى شخص يفسره ، فخطر في ذهنها ورقة بن نوفل .. ذلك الرجل الذي كان قد بحث في الأديان ورأى أنها أديان منحرفة أديان ضالة ، واهتدى إلى الدين الصحيح .. اهتدى إلى دين عيسى - عليه السلام - فقرأ الإنجيل وعرف ما فيه .
واهتدت إليه وذهبت إليه تخبره بما حدث لزوجها ، فإذا به يجيبها الجواب الشافي .. أخبرها أن زوجها رسول من عند الله ، وأن هذا الذي يأتيه أو الذي جاءه هو جبريل - عليه السلام - الذي كان ينزل على الأنبياء من قبله .. نزل على موسى - عليه السلام - من قبل .

فعادت خديجة - رضي الله عنها - إلى زوجها بهذه البشرى وحدث لقاء بين محمد وبين ورقة بن نوفل ، فاطمأن محمد - عليه الصلاة والسلام - إلى ما قاله ورقة بن نوفل .
 ثم إذا به يسترسل معه في الحديث ويقول له : ليتني أكون فيها جدعاً إذ يخرجك قومك ، واستغرب النبي - عليه الصلاة والسلام - نقله نقلةً أخرى .. ارتجع عنه الخوف والرعب ، وأخذ يحدثه عما سيحصل له .. قال : أمخرجي هم ، قال له ورقة : ما أتى أحدٌ بمثل ما أتيت به إلا عودي وأوذي .

هذا موقف من مواقف هذه المرأة الكاملة .

كذلك دخل النبي - عليه الصلاة والسلام - في سلك الدعوة .. فمن كان أو من استجاب له ؟ لقد كانت هذه المرأة .. استجابت له وآمنت به ؛ فكانت أول من آمن - رضي الله عنها - .

ثم لم يقم الأمر عند هذا الحد ، وإنما احتاج النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو يريد أن يدعو إلى الله .. يريد أن ينشر هذا الدين .. عنده تبعات .. عليه تكاليف ؛ احتاج إلى المال فلم تكن بخيلة بمالها .. قدمت مالها في سبيل الدعوة التي جاء بها محمد  التي جاء بها زوجها .

لقي النبي - عليه الصلاة والسلام - العنت والمشقة والإيذاء من قومه فقدمت بجانب مالها قدمت لطفها ، وقدمت كذلك للنبي - عليه الصلاة والسلام - الطمأنينة والراحة والمواساة ؛ فكانت تواسيه وكانت تخفف عنه ، وكانت تشد من أزره وكانت تقف بجواره - رضي الله عنها - .

واستمر الأمر كذلك إلى أن لقيت ربها - جل وعلا - .
جوانب حياته  ملأت عليه جوانب حياته قبل النبوة ثم ملأت عليه جوانب حياته بعد النبوة ؛ ولذلك لم يحتاج إلى أن يتزوج امرأة أخرى بجانبها رغم أنه تزوجها وهي في سن الأربعين .. رغم أنه تزوجها وقد تزوجت من قبل ، لكنه وجد أنها تملأ عليه جميع جوانبه نفسه - رضي الله عنها - ولذلك ورد بالحديث الذي رواه مسلم : أن النبي - عليه الصلاة والسلام – لم يتزوج على خديجة امرأة أخرى .

 وبعد أن توفيت خديجة - رضي الله عنها - تألم النبي - عليه الصلاة والسلام - لفراقها ، وحدث كذلك أنه توفي عمه أبو طالب الذي كان يسنده ؛ فحصل عند النبي - عليه الصلاة والسلام - حزنٌ شديدٌ .
 لذلك فإن الله - تبارك وتعالى - خفف عنه بأن حدثت للنبي - عليه الصلاة والسلام - قضية (الإسراء والمعراج) .. خفف الله - تبارك وتعالى - عنه فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج به إلى السماء فرأى الآيات العجيبة .. ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) ..
كل هذا كان تخفيفاً على النبي - عليه الصلاة والسلام - مما يدل على أن هذا كان من أجل ملء الفراغ الذي تركته خديجة - رضي الله عنها - في نفس النبي - عليه الصلاة والسلام - .

هذه المرأة الكاملة كان النبي - عليه الصلاة والسلام - فيما بعد إذا جاءت صديقات خديجة كان يفرح - عليه الصلاة والسلام - كان يذبح الشاة - كما تقول عائشة - رضي الله عنها - في الحديث المتفق عليه - ثم يوزعها في صدائق خديجة - رضي الله عنها - .
كان إذا جاءت أختها هالة بنت خويلد لزيارة كان الرسول يفرح ويقول : اللهم هالة بنت خويلد لأنه يجد في صوتها شبهاً من صوت خديجة - رضي الله عنها - .
قالت عائشة - رضي الله عنها - : ما غِرتُ من امرأة كما غرتُ من خديجة لكثرة ذكر النبي  لها.
قالت : " قلت له ذات مرة : ما تذكر من امرأة حمراء الشدقين .. قد أبدلك الله خيراً منها " ، فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - قال كلمة الوفاء التي تليق به - عليه الصلاة والسلام - والتي تدل على مبلغ عظمة هذه المرأة في نفسه - عليه الصلاة والسلام - قال : ( والله ما أبدلني الله خيراً منها ؛ آمنت بي إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، وكانت وكانت ، وكان لي منها ولد ).

أولاد النبي - عليه الصلاة والسلام - كلهم كانوا من خديجة - رضي الله عنها - ما عدا ولداً واحداً .. وهو إبراهيم الذي كان من ماريا القبطية ، أما أولاده - سواء أكانوا ذكوراً أو إناثاً - غير إبراهيم فكلهم كانوا من خديجة - رضي الله عنها - .
 ولد له فسماه (القاسم) ومات صغيراً ، ولد له ولدٌ آخر كان يلقب بـ (الطيب) أو بـ (الطاهر) ومات كذلك صغيراً ، وله أيضاً من خديجة - رضي الله عنها - زينب وفاطمة ورقية وأم كلثوم .. هؤلاء كلهن من خديجة - رضي الله عنها - .

خديجة - رضي الله عنها - كانت لها مكانة في نفس الرسول ومكانة كذلك عند الله - تبارك وتعالى - .
نزل جبريل - كما في الحديث المتفق عليه - وأخبر محمدًا - عليه الصلاة والسلام - وقال له : ( إن خديجة آتيه إليك ومعها طعام وماء فأقرأها من الله السلام وأقرأها مني السلام ، وبشرها بأن لها بيتاً في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ).
هكذا بلغ مستوى خديجة - رضي الله عنها - عند الله - تبارك وتعالى - وعند رسول الله. 

عاشت حياة الإيمان وحياة الدعوة وحياة التضحية مع محمد  .. عاشت حياة الكمال مع النبي محمد  ، وكذلك ستعيش أرقى أنواع الحياة في الدار الآخرة عند الله - تبارك وتعالى - في بيت من قصب .. ( القصب هو اللؤلؤ المجوف في بيته ) من قصب لا صخب فيه ولا نصب .. حياة الكمال كذلك في الآخرة .

 نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يجعلنا ممن يتأسى بخديجة - رضي الله عنها - لاسيما نساءنا ..
إن نساء النبي - عليه الصلاة والسلام - هن في القمة ، ويجب على نسائنا في هذا الزمان وفي كل زمان أن يقتدين بهن وأن يأتسين بهن ، وأن يسلكن مسلكهن ما استطعن إلى ذلك سبيلا .
 والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©