الكثير من تفسير ابن كثير (8)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


    وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ الزَّيَّاتِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: "وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ المستقيم".    وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَوْقُوفًا عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ أَشْبَهُ
. روَى ذلك الطبري كما ذكَر (سلامة) ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَرْوِي الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. كِتَابُ اللَّهِ .

    وَقِيلَ: هُوَ الْإِسْلَامُ. قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَان، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ذَاكَ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: هُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَالَه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.

    وَفِي هَذَا المعْنَى ما رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَعْوَجُّوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ، لَا تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ. فَالصِّرَاطُ الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ".     وَرَوَاهُ أيضًا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ .وَالإِسْنَادُ صَحِيحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

    وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، قَالَ: الْحَقُّ. وَهَذَا أَشْمَلُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ.

    وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قَالَ: هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبَاهُ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ عَاصِمٌ: فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلْحَسَنِ، فَقَالَ: صَدَقَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصَحَ.     

    وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَحِيحَةٌ مُتَلَازِمَةٌ، فَإِنَّ مَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ ، ثُمَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، اتَّبَعَ الْحَقَّ والْإِسْلَامَ ، وَمَنِ اتَّبَعَ الْإِسْلَامَ اتَّبَعَ كِتَابَ اللَّهِ وَصِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيم.

    وذَكَر ابْنُ جَرِيرٍ أنَّ الأَوْلَى في مَعْنَى{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ِ: وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا ارْتَضَيْتَهُ وَوَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِكَ، مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ مَن وُفِّقَ لِمَا وُفِّقَ لَهُ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَقَدْ وُفِّقَ لِلْإِسْلَامِ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ، وَاتِّبَاعِ مِنْهَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهَاجِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَكُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

    فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْأَلُ الْمُؤْمِنُ الْهِدَايَةَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ؟ فَهَلْ هَذَا تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ؟

    فَالْجَوَاب: الْعَبْدُ مُفْتَقِرٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَثْبِيتِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ، وَازْدِيَادِهِ مِنْهَا، وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، فَالسَّعِيدُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِسُؤَالِهِ؛ فَإِنَّهُ تَكَفَّلَ بِإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَلَا سِيَّمَا الْمُضْطَرُّ الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ} النِّسَاءِ: 136، فَقَدْ أَمَرَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْإِيمَانِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الثَّبَاتُ وَالِاسْتِمْرَارُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُعِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   

    وَقَالَ تَعَالَى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} آل عمران ، وَقَدْ كَانَ الصدِّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سِرًّا.

     صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7):

     تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِيمَا إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إِلَخ. أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ". وَقَوْلُهُ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مُفَسِّرٌ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَهُوَ بَدَلٌ مِنْهُ عِنْدَ النُّحَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

    {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ كما ذَكَر الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:، حَيْثُ قَالَ سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} النِّسَاءِ:69، 70.

    {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} الْمَعْنَى اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُمْ ، غَيْرِ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا الْحَقَّ وَلم يَعْمَلُوا به، وَلَا صِرَاطِ الضَّالِّينَ وَهُمُ الَّذِينَ ضَلُّوا عن الْحَقِّ فلم يَعْلَمُوه ولم يَعْمَلُوا به.

    وفي {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} أَيْ: غَيْرِ صِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، اكْتَفَى بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ (المَغْضُوبِ)عَنْ ذِكْرِ الْمُضَافِ (صِراطِ) .

    وكان التَّأْكِيد بِ(لَا) لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ (الضَّالِّينَ) مَعْطُوفٌ عَلَى {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وَلِلْفَرْقِ بَيْنَ الطَّرِيقَتَيْنِ، لِتُجْتَنَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا؛ فَإِنَّ طَرِيقَةَ أَهْلِ الْإِيمَانِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالْيَهُودُ فَقَدُوا الْعَمَلَ، وَالنَّصَارَى فَقَدُوا الْعِلْمَ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْغَضَبُ لِلْيَهُودِ، وَالضَّلَالُ لِلنَّصَارَى، فَاليهودُ عَلِمُوا الرسولَ الحقَّ وَتَرَكُوهُ فاسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ، وَالنَّصَارَى لمْ يَعْلَمُوا الرَّسُولَ الْحَقَّ، فَضَلُّوا، وَكُلٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ضَالٌّ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ أَخَصَّ أَوْصَافِ الْيَهُودِ الْغَضَبُ كَمَا قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الْمَائِدَةِ: 60، وَأَخَصُّ أَوْصَافِ النَّصَارَى الضَّلَالُ ،كَمَا قَالَ سبحانه فيهم: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل} الْمَائِدَةِ: 77 ، وَبِهَذَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ.

     رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: جَاءَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذُوا عَمَّتِي وَنَاسًا، فَلَمَّا أَتَوْا بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُفُّوا لَهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَاءَ الْوَافِدُ وَانْقَطَعَ الْوَلَدُ، وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، مَا بِي مِنْ خِدْمَةٍ، فمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، قَالَ: "مَنْ وَافِدُكِ؟ " قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: "الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! " قَالَتْ: فمنَّ عَلَيَّ، فَلَمَّا رَجَعَ، وَرَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ ، تَرَى أَنَّهُ عَلِيٌّ، قَالَ: سَلِيهِ حُمْلانًا، فَسَأَلَتْهُ، فَأَمَرَ لَهَا، قَالَ: فَأَتَتْنِي فَقَالَتْ : لَقَدْ فَعَلَ فَعْلَةً ! (تَأْنِيْبٌ لِعَدِيٍّ) مَا كَانَ أَبُوكَ يَفْعَلُهَا، فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ، وَأَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ، فَأَتَيْتُهُ فَإِذَا عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَصِبْيَانٌ أَوْ صَبِيٌّ، وَذَكَرَ قُرْبَهُمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُلْكِ كسرى ولا قيصر، فقال: "يَا عَدِيُّ، مَا أَفَرَّكَ ؟.. أَنْ يُقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: مَا أَفَرَّكَ ؟.. أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَهَلْ شَيْءٌ أَكْبَرُ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ؟ ". قَالَ: فَأَسْلَمْتُ، فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ، وَقَالَ: "الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَإِنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى" . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ.     

     قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، بِسَنَدِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} قَالَ: "هُمُ الْيَهُودُ" {وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: "النَّصَارَى هُمُ الضَّالُّونَ". وَهَكَذَا رواه الحُمَيديُّ في مسنده عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ (سلامة). وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَدِيٍّ هَذَا مِنْ طُرُقٍ، وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا.    

    وَروَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بسندهِ إلى مَن سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي القُرَى، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: " الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ - وَأَشَارَ إِلَى الْيَهُودِ - وَالضَّالُّونَ هُمُ النَّصَارَى" .انظر تفسير عبد الرزاق (سلامة) . وَقَدْ رَوَاهُ الجُرَيري وَعُرْوَةُ، وَخَالِدٌ الحَذَّاء، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، فَأَرْسَلُوهُ . انظر تفسير الطبري (سلامة) ، وَلَمْ يَذْكُرُوا مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ تَسْمِيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

    وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُويه، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قَالَ: "الْيَهُودُ"، قُلْتُ: الضَّالِّينَ، قَالَ: "النَّصَارَى" .ذَكَر الحافظ ابن حجر في الفتح أنَّ إسناده حسن . (سلامة) . وَذَكَر السُّدِّي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} هُمُ الْيَهُودُ، {وَلَا الضَّالِّينَ} هُمُ النَّصَارَى.   

    وهنالك آثارٌ أخرى .. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذَا اخْتِلَافًا.

    وَشَاهِدُ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ ما سَبَقَ مِن الْحَدِيثِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ مَعَ اليهود : {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} الْبَقَرَةِ: 90 ، وَقَولُه تعالى عنهم : {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} الْمَائِدَةِ: 60 ، وَقَولُهُ تَعَالَى عن النصارى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل} الْمَائِدَةِ: 77 .

        والتَّرْكيزُ على الدُّعَاءِ باجْتِنابِ صراطِ اليَهودِ والنَّصارَى عند قِراءةِ الفاتحةِ في كلِّ ركعةٍ دليْلٌ على قِيَادَةِ اليهودِ والنصارى لِمُعَسْكَرِ الكُفْرِ في الأرضِ ، وأنَّهم وَراءَ الحروبِ والمؤامَراتِ على الإسلام والمسلمين ، ودليلٌ على ضَرُورَةِ مُفاصلتِهِم ، والبراءَةِ الصَّارِمة منهم والحذَر مِن تقليدِهم أوالتَّشّبُّهِ بِهم في مَناهِجِهم أو أَفكارِهم أو سِياساتِهِم ، أو انتِظارِ الحُلولِ أو الخيرِ أو المَصالِحِ مِنهم .   

    ما اشتَمَلَتْ عليهِ الفاتحة:       

        عَلَى حَمْدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، بِذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى الْمُسْتَلْزِمَةِ لِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا ، وَعَلَى ذِكْرِ الْمَعَادِ وَهُوَ يَوْمُ الدِّينِ، وَعَلَى إِرْشَادِهِ عَبِيدَهُ إِلَى سُؤَالِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، وَالتَّبَرُّؤِ مِنْ حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ، وَإِلَى إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَتَوْحِيدِهِ بِالْإلَهِيَّةِ ، وَتَنْزِيهِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ ، وَإِلَى سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتَثْبِيتِهِمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُفضِيَ بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى جَوَازِ الصِّرَاطِ الْحِسِّيِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُفْضِي بِهِمْ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي جِوَارِ النَّبِيِّينَ، وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحِينَ.   وَاشْتَمَلَتْ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لِيَكُونُوا مَعَ أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مَسَالِكَ الْبَاطِلِ؛ لِئَلَّا يُحْشَرُوا مَعَ سَالِكِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُمُ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالُّونَ.

     وَمَا أَحْسَنَ إِسْنَادَ الْإِنْعَامِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَحَذْفَ الْفَاعِلِ فِي الْغَضَبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وَإِنْ كَانَ سبحانَه هُوَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية ، المجادلة: 14.

    وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ الضَّلَالِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ سبحانَه هُوَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ بقدَره جَزَاءً لهم بسبَب رغْبَتِهم في الضلال ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الْأَعْرَافِ: 186 . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَال بحسَب الاستِحْقاق ، لَا كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ ، مِنْ أَنَّ الْعِبَادَ هُمُ الَّذِينَ يَفعلُونَ ذَلِكَ ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِمُتَشَابِهٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَتْرُكُونَ ما فيهِ الرَّدُّ الصَّريحُ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ المتفق عليه: "إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ"  . يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} آلِ عِمْرَانَ: 7 .

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©