الكثير من تفسير ابن كثير (7)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


   
ربِّ العالمين (2):  

   {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَالرَّبُّ هُوَ: الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى السَّيِّدِ، وَعَلَى الْمُتَصَرِّفِ لِلْإِصْلَاحِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

   وَلَا يُقالُ الرَّبُّ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وأَمَّا لِغَيْرِ اللَّهِ فَبِالْإِضَافَةِ تَقُولُ: رَبُّ الدَّارِ ، رَبُّ كَذَا . 

   وَالْعَالَمِينَ: جَمْعُ عَالَمٍ، وَهُوَ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ  ، وَالْعَوَالِمُ أَصْنَافُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَكُلُّ قَرْنٍ مِنْهَا وَجِيلٍ يُسَمَّى عَالَمًا أَيْضًا.

    وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَالَمُ كُلُّ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} الشعراء .وَالْعَالَمُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَلَامَةِ . قُلْتُ : لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ ،كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ:

فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ ... أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

     الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3):

    {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذلك فِي الْبَسْمَلَةِ .

      مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) :

    قَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: {مَلِك يَوْمِ الدِّينِ} وَقَرَأَ آخَرُونَ: {مَالِكِ} ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ مُتَوَاتِرٌ فِي القراءاتِ السَّبْعِ. و(مَالِك) مأخوذٌ مِن المِلْك بِكَسْرِ المِيم ، و (مَلِك) مأخوذٌ مِن المُلْك بِضَمِّ المِيم  وهو سبحانه مَلِكٌ مَالِك .    

    وَتَخْصِيصُ الْمُلْكِ بِيَوْمِ الدِّينِ لَا يَنْفِيهِ عَمَّا عَدَاهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ هُنَالِكَ شَيْئًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، كَمَا قَالَ سبحانه: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} النَّبَأِ: 38، وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} طه: 108، وَقَالَ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} هُود: 105 .

    وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَهُ حُكْمًا، كَما فِي الدُّنْيَا. قَالَ: وَيَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الْحِسَابِ لِلْخَلَائِقِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْهُ . وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالسَّلَفِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.

   والمَلِك فِي الْحَقِيقَةِ (في الدنيا والآخرة) هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} الحشر ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا " أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ وَلَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ" ، وَفِي الصَّحيحين أيضًا عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ:أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ " وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} غافر .

   فَأَمَّا تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَلِكٍ فَعَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} آل عمران ، وقال تعالى:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} الكهف ، وقال تعالى:{إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} المائدة ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: (مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ) .

    وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} النور، وَقَالَ: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} الصافات ، أَيْ مَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ، وَوَرَد: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ" أَيْ حَاسَبَ نَفْسَهُ لِنَفْسِهِ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتَأَهَّبُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ عَلَى مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَعْمَالُكُمْ: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} " الحاقة .

    إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5):

   الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الذِّلَّةِ، يُقَالُ: طَرِيقٌ مُعَبَّد، وَبَعِيرٌ مُعَبَّد، أَيْ: مُذَلَّلٌ، وَفِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ.

    وَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ وَهُوَ {إِيَّاكَ} ، وَكُرِّرَ؛ لِلِاهْتِمَامِ وَالْحَصْرِ، أَيْ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْكَ، وَالدِّينُ يَرْجِعُ كُلُّهُ إِلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْفَاتِحَةُ سِرُّ الْقُرْآنِ، وَسِرُّهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الْفَاتِحَة 5 ، فَالْأَوَّلُ تَبَرُّؤٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَالثَّانِي تَبَرُّؤٌ مِنَ الْحَوْلِ والقوة ، وتفويضٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

    وَهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} هُود: 123، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} الْمُلْكِ: 29، وقال تعالى:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} الْمُزَّمِّلِ: 9 .

   وَتَحَوُّلُ الْكَلَامِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُوَاجَهَةِ بِكَافِ الْخِطَابِ مُنَاسِب ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْنَى العبْدُ عَلَى اللَّهِ فَكَأَنَّهُ اقْتَرَبَ وَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَلِهَذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالثَّنَاءِ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ الْحُسْنَى، وَإِرْشَادٌ لِعِبَادِهِ بِأَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ".      

     وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الْفَاتِحَةِ: 2 ، قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الْفَاتِحَةِ: 3 ، قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي ، فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَةِ: 4 ، قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الْفَاتِحَةِ: 5، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} الْفَاتِحَةِ: 6، 7، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ".  

    وَإِنَّمَا قَدَّمَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} عَلَى {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لِأَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، وَالِاهْتِمَامُ وَالْحَزْمُ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَهَمُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

    فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى النُّونِ فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هل هِيَ لِلْجَمْعِ، أَوْ هِيَ لِلتَّعْظِيمِ ، وهو لا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ؟ وَقَدْ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ الْإِخْبَارُ عَنْ جِنْسِ الْعِبَادِ وَالْمُصَلِّي فَرْدٌ مِنْهُمْ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ كانَ الإِمَامَ ، فَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي خُلِقُوا لِأَجْلِهَا ، وَتَوَسَّطَ لَهُمْ بِخَيْرٍ .

   وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: النُّونُ أَلْطَفُ فِي التَّوَاضُعِ مِنْ إِيَّاكَ أَعْبُدُ ، لِوُجودِ شَيْءٍ مِن الاعْتِدَادِ في الإفْرادِ ،وجَعْلِهِ نَفْسَهُ وَحْدَهُ أَهْلًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْبُدَهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ.

     وَالْعِبَادَةُ مَقَامٌ عَظِيمٌ يَشْرُفُ بِهِ الْعَبْدُ لِانْتِسَابِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ رَسُولَهُ بِعَبْدِهِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ ، فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} الْكَهْفِ: 1، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} الْجِنِّ: 19 ، وَأَرْشَدَهُ حينَ يَضِيقُ صَدْرُهُ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُخَالِفِينَ إلى القيامِ بالعبادةِ ، حَيْثُ يَقُولُ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الْحِجْرِ: 97-9 .

     وَكَوْنُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يُنَافِي أَنْ يَطْلُبَ مَعَهَا ثَوَابًا، وَأَنْ يَدْفَعَ عَذَابًا، كَمَا قَالَ ذَلِكَ الصَّحابِيُّ: أَمَا إِنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ إِنَّمَا أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ" رواه أحمد وأبو داود (سلامة) .

    اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6):

     لمَاَّ تقدَّم الثناءُ على المَسْؤُول، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، نَاسَبَ أَنْ يُعَقَّبَ بِالسُّؤَالِ؛ كَمَا سبَق في حديث مسلم: "فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ" وَهَذَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ السَّائِلِ، أَنْ يَمْدَحَ مَسْؤُولَه، ثُمَّ يَسْأَلَ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {اهْدِنَا} ، وَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ أو الدُّعاءُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ السَّائِلِ، كَمَا حَكَى اللهُ عن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} الْقَصَصِ: 24، وقد يَتقدَّمه مع ذلك وصْف المَسْؤُول، كَما حكَى اللهُ عن ذِي النُّونِ: {لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 87، وَقَدْ يكون الدُّعاءُ بمجرَّد الثناء، كما تقدَّم في حديث الترمذي وَحَسَّنَه : (وَأَفضَلُ الدُّعاءِ الحمْدُلِله) .

    وَالْهِدَايَةُ: هُنا تَعَدَّتْ بِنَفْسِهَا وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّوْفِيقِ والإِلْهام (أَي الاقْتِناعُ بالإسلام) ، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أيْ وَفِّقْنَا، أَوْ أَلْهِمْنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، و كذلك تَعَدَّتْ بِنَفْسِهَا وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى البَيَانِ في قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} الْبَلَدِ: 10، أَيْ: بَيَّنَّا النَّجْدَيْنِ لَهُ ، وهما الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَقَدْ تَتَعَدَّى بِإِلَى، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الْتَّوجِيهِ المُجَرَّدِ وَالدَّلَالَةِ ولو بدُونِ اقْتِناع ،كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الشورى  ،وكقوله تعالى : {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} الصَّافَّاتِ: 23 ، وَقَدْ تَتَعَدَّى بِاللَّامِ، كَما حَكَى اللهُ عن أَهْلِ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} الْأَعْرَافِ: 43، أَيْ وَفَّقَنَا لِهَذَا وَجَعَلَنَا لَهُ أَهْلًا  .

    وَأَمَّا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، فَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ "الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ .

    قَالَ: وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، قَالَ: ثُمَّ تَسْتَعِيرُ الْعَرَبُ الصِّرَاطَ فَتَسْتَعْمِلُهُ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، يُوصَفَ بِاسْتِقَامَةٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ، فَتَصِفُ الْمُسْتَقِيمَ بِاسْتِقَامَتِهِ، وَالْمُعْوَجَّ بِاعْوِجَاجِهِ.

    ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الصِّرَاطِ، وَإِنْ كَانَ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ، روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بسنده عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ كِتَابُ اللَّهِ" .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©