الكثير من تفسير ابن كثير (5)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   

والِاسْتِعَاذَةُ فِي الصَّلَاةِ لِأجْل لتِّلَاوَةِ عند أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ . وقال أبو يوسف:بَلْ لِلصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَوَّذُ الْمَأْمُومُ وَإِنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ، وَيَتَعَوَّذُ فِي الْعِيدِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَالْجُمْهُورُ بَعْدَ التكبيرات قَبْلَ الْقِرَاءَةِ .

    معناها :

   والاستعاذة معناها الالْتِجَاءُ إِلَى اللَّهِ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ، وَالْعِيَاذَةُ تَكُونُ لِدَفْعِ الشَّرِّ، وَاللِّيَاذُ يَكُونُ لِطَلَبِ جَلْبِ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ الْمُتَنَبِّي:

يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ ... وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّنْ أُحَاذِرُهُ

لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ ... وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ

      وأنْكرَ بعض العلماء ذلك على المُتَنبِّي ، لأن ذلك لا يُقال إلا لِلخالق ، وكان مَن أَنْكَر يقول ذلك في سجوده لله تعالى ، كما أوْرَد ذلك ابن كثير نفسه في البداية والنهاية (سلامة) .

    وَمَعْنَى أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، أَيْ: أَسْتَجِيرُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي أَوْ دُنْيَايَ .

    الشيطان الرجيم :

    الشيطان مُشْتَقٌّ مِنْ شَطَن إِذَا بَعُدَ، فَهُوَ بَعِيدٌ بِطَبْعِهِ عَنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ، وَبَعِيدٌ بِفِسْقِهِ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ شَاطَ (احتَرَق)، لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: كِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْعَرَبِ؛ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: الْعَرَبُ تَقُولُ: تَشَيْطَنَ فُلَانٌ إِذَا فَعَل فِعْل الشَّيْطَانِ وَلَوْ كَانَ مِنْ شَاطَ لَقَالُوا: تَشَيَّطَ . (وشاطَ فيها كذلك مَعْنى البُعْد مِن شاطَ يَشُوطُ شَوْطاً إِذا عَدا شَوْطاً إِلى غَايَةٍ ، كما في لسان العرب) ، وكُلُّ مَا  تَمَرَّدَ عند العرب مِنْ جِنِّيٍّ وَإِنْسِيٍّ وَحَيَوَانٍ يُسَمُّونه شَيْطَانًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}الْأَنْعَامِ: 112 . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ "، فقلت: أو للإنس شَيَاطِينُ؟ قَالَ: " نَعَمْ " .

   وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ ؟ فَقَالَ: " الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ "  . وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَكِبَ بِرْذَونًا، فَجَعَلَ يتَبخْتَر به، فجعل يَضْرِبُهُ فَلَا يَزْدَادُ إِلَّا تَبَخْتُرًا، فَنَزَلَ عَنْهُ، وَقَالَ: مَا حَمَلْتُمُونِي إِلَّا عَلَى شَيْطَانٍ، مَا نَزَلْتُ عَنْهُ حَتَّى أَنْكَرْتُ نَفْسِي . إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ  . انظر تفسير الطبري (سلامة) .

   والرّجيم: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَرْجُوم: أيْ مَطْرُودٌ عَنِ الْخَيْرِ كُلِّهِ (و مَطْرُودٌ عَنِ السَّماء) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} الْمُلْكِ: 5 ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} الصَّافَّاتِ: 6 -10 ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} الْحِجْرِ: 16 -18 ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

    البَسْمَلَة :

    الفاتحة سَبْعُ آيَاتٍ بِلَا خِلَافٍ، واخْتَلَفُوا فِي الْبَسْمَلَةِ: هَلْ هِيَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ أَوَّلِهَا كَمَا هُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَقَوْلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَخَلْقٍ مِنَ الْخَلَفِ ، أَوْ بَعْضُ آيَةٍ ، أَوْ لَا تُعَدُّ مِنْ الفاتحة بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .

    افْتَتَحَ الصحابةُ كِتَابَ اللَّهِ بالبسْمَلة، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سورَة النَّمْلِ، ثمّ اختلفوا: هل هِيَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ أو بعْضُ آيةٍ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، ما عدَا بَرَاءَة ؟ أَوْ أَنَّهَا آيَةٌ فِي الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا؟ أَوْ أَنَّهَا إِنَّمَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بينَ السُّوَر؟

    وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَيْضًا  ، وَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ وَعَدَّهَا آيَةً، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ هَارُونَ الْبَلْخِيِّ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَة، عَنْهَا  . وَرَوَى لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مُتَابِعًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا . وَرَوَى مِثْلَهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا.

    وَمِمَّنْ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ إِلَّا بَرَاءَةٌ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَلِيٌّ. وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَكْحُولٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَبِهِ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهوَيه، وَأَبُو عُبَيْدٍ القاسم بن سلام.

    وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا: لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، فِي بَعْضِ طُرُقِ مَذْهَبِهِ: هِيَ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ غَيْرِهَا، وَعَنْهُ أَنَّهَا بَعْضُ آيَةٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، وَهُمَا غَرِيبَانِ.

    وَقَالَ دَاوُدُ: هِيَ آيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَا مِنْهَا، وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَحَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَهُمَا مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ .

    الجَهْرُ بِها :

    اختَلَفَ الذينَ قَالوا بِأَنَّهَا مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ ؛ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَى أَنَّهُ يَجْهَرُ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ طَوَائِفَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا .

    فَجَهَرَ بِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَنَقَلَهُ الْخَطِيبُ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَهُوَ غَرِيبٌ.

    وَ أَمَّا الجَهْرُ مِنَ التَّابِعِينَ فقد وَرَدَ عنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمة، وَأَبِي قِلابة، وَالزُّهْرِيِّ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَالِمٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَأَبِي وَائِلٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ المنْكَدِر، وَعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِهِ مُحَمَّدٍ، وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبَدِ الْعَزِيزِ، وَالْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَمَكْحُولٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِل بْنِ مُقَرِّن وغيرهم .

    والحُجَّة فِي ذَلِكَ أَنَّهَا بَعْضُ الْفَاتِحَةِ، فَيُجْهَرُ بِهَا كَسَائِرِ أَبْعَاضِهَا، وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى فَجَهَرَ فِي قِرَاءَتِهِ بِالْبَسْمَلَةِ، وَقَالَ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ  .

    وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ  . وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ . قال (سلامة) : تَعقَّب الذهبي الحاكم على تصحيحه فقال: "ابن كيسان كذَّبه غير واحد .

    وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كَانَتْ قِرَاءَتُهُ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ  .

    وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَصَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يُقَطِّع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ  .

    وَرَوَى الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ، فَتَرَكَ الْبَسْمَلَةَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ذَلِكَ، فَلَمَّا صَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ بَسْمَلَ  .

    الإِسْرارُ بِها :

    وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَطَوَائِفَ مِنْ سَلَفِ التَّابِعِينَ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ .

    وَعِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا جَهْرًا وَلَا سِرًّا، وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، والقراءة بالحمدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: صلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وعثمان، فكانوا يَسْتَفْتِحون بالحمدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلِمُسْلِمٍ: لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا . وَجاءَ نَحْوُهُ فِي السُّنَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّل، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  .

وقد أَجْمَعَ الأَئِمَّة عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ جَهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ وَمَنْ أَسَرَّ، (والأَدِّلةُ تَدُلُّ على ثُبُوتِ الوَجْهَينِ وجَوَازِ الأَخْذِ بِأَحَدِهما أو التَّنْوِيع ، كما في تَنْوِيع ألفاظِ الاسْتِفتاح ، وبعضِ ألفاظِ التّشَهُّد ، وبعضِ أَذكار الركوع والسجود وغير ذلك)  وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ  .

    فَضْلُها : 

    قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ رَدِيفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَثَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حِمارَهُ ، فَقُلْتُ: تَعِس الشَّيْطَانُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ. فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ تَعَاظَمَ، وَقَالَ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَإِذَا قُلْتَ: بِاسْمِ اللَّهِ، تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الذُّبَابِ".(قال المؤلِّف في تفسير سورة الناس إسنادُهُ جيِّدٌ قوِي) ، وَقَدْ رَوَاه  النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَابْنُ مَرْدُويه فِي تَفْسِيرِهِ، مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيُّ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ وَقَالَ: "لَا تَقُلْ هَكَذَا، فَإِنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ كَالْبَيْتِ، وَلَكِنْ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَصْغُرُ حَتَّى يَكُونَ كَالذُّبَابَةِ" .فَهَذَا مِنْ تَأْثِيرِ بَرَكَةِ بِسْمِ اللَّهِ.

    وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ فِي أوّلِ كلِّ عمَلٍ وَقَوْلٍ . فَتُسْتَحَبُّ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ لِمَا وَرَدَ فِي الصحيحين من الاستعاذةِ من الخُبُثِ والخبائث ، وفي أوّلها كما قال الحافظ في الفتح : بِسمِ الله ، في رواية العُمَري وهي على شرط مسلم ، وَتُسْتَحَبُّ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ لِمَا جَاءَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالسُّنَنِ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ مرفوعًا: "لا وضوءَ لِمَن لم يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ" ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَوْجَبَهَا على مَن يَحْضُرُهُ ذِكْرُها عند الوضوء ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا مُطْلَقًا  .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©