الكَثِير مِن تفسير ابن كَثِير (1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


    مِن مُقَدِّمَة ابْنِ كَثِير رحمه الله :

     الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي افْتَتَحَ كِتَابَهُ بِالْحَمْدِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الْفَاتِحَةِ 1-3 ، وَافْتَتَحَ الكلام على إبداعِه في الخَلْقِ بِالْحَمْدِ ، فَقَالَ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ }الأنعام :1، وَاخْتَتَمَ الكلام على عاقبةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِالْحَمْدِ ، فَقَالَ تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الزُّمَرِ: 75 وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الْقَصَصِ: 70  .

    وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رُسُلَهُ {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} النِّسَاءِ: 165 ، وَخَتَمَهُمْ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ، المُرسل إِلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء ، وَأنْزَل عليه القرآن العظيم بشيرًا ونذِيرًا ، قَالَ تَعَالَى: {حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } حم السجدة .

    فَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ فلا بدّ أن يَتَفَهَّمه ويَتَدَبَّره ، قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} ص: 29 ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} مُحَمَّدٍ: 24 .

    وقد ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ قَبْلَنَا بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ فَهْم كِتَابِ اللَّهِ وعن بيانه للناس ، وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وشرائهم بكتاب الله ثَمَنًا قليلا .. لأنَّ الواجب ولاسيَّما عَلَى الْعُلَمَاءِ الْكَشْفُ عَنْ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ، وَتَفْسِيرُهُ ، وفَهْمُ ذَلِكَ وَتَفْهِيمُهُ ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} آلِ عِمْرَانَ: 187.   

    والواجب على خاصَّة الأُمَّة وعامَّتها العمَل على ذلك و الخضوع والخشوع ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الْحَدِيدِ: 16، 17 . وكَمَا يُحْيِي اللهُ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، كَذَلِكَ يُلِينُ الْقُلُوبَ القاسية - بسَبَب الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي - بِالْتَّدَبُّر والخشوع ، وَاللَّهُ الْمَسْؤُولُ أن يفعل بنا ذلك، إنهُ لَطِيفٌ كَرِيمٌ.

    كيف يكون التفسير ؟ :

   وإِنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي التفسير : تفْسير الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ، ثمَّ بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ، بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} النِّسَاءِ: 105 ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النَّحْلِ: 44 .

    وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" رواه أحمد وأبو داود عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب رضي الله عنه ، يَعْنِي: أُوتِيَ السُّنَّةَ . وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ بِالْوَحْيِ، كالْقُرْآنُ؛ إِلَّا أَنَّهَا لَا تُتْلَى كَالْقُرْآنُ.

    وقد قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: "بِمَ تَحْكُمُ؟ ". قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ ". قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: "فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ ". قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي. قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وفَّق رَسُولَ رسولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ" رواه أحمد وأبو داود والترمذي ... وَإسْنَاده جَيِّد، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ.

    وَإِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّفْسِير فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، رَجَعْنَا إِلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ أَدْرَى ، لِمَشاهَدَتهم الْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ ، وَهُمْ أرباب الْفَهْمِ ِ، وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ، لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ، كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وابنِ عباس وَابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم  .

   قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ -: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا نَزَلَتْ آية من كتاب الله إلا وأنا أعلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ؟ وَأَيْنَ نَزَلَتْ؟ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أحد أعلم بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَنَالُهُ الْمَطَايَا لَأَتَيْتُهُ .

     وجابر بن نوح ضعيف لكنه تُوبِع، فرواه البخاري عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش به.(سلامة) . وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ، وَالْعَمَلَ بِهِنَّ  .

    وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْرِئُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَخْلُفُوهَا حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا  . وهذه الروايات في تفسير الطبري (سلامة) .

     وَأمَّا الْحَبْرُ الْبَحْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو ترْجُمَانُ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حَيْثُ قَالَ: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ"  أخرجه أحمد وأصله في البخاري (سلامة).

    وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلم قَالَ  قَالَ عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-: نعْم تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابنُ عَبَّاسٍ . أخرجه الطبري في تفسيره (سلامة) . ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ دَاوُدَ، عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ سفيانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْح أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ . أخرجه الطبري في تفسيره والحاكم (سلامة)  . ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَار، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْن، عَنِ الْأَعْمَشِ به . أخرجه الطبري في تفسيره وابن أبي خيثمة في العلم .(سلامة) .

   فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، و مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وعاش بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا كَسَبَهُ مِنَ الْعُلُومِ بَعْدَه ؟.

    وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: اسْتَخْلَفَ علِيّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: سُورَةَ النُّورِ، فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا . أخرجه الطبري في تفسيره والفسوي في تاريخه (سلامة) .

    قالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْآيَةِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِه ِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اجْتَهَدَ برأيه  .

    وَغَالِبُ مَا يَرْوِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَحْيَانًا يَنْقُلُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: "بَلِّغوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وحَدِّثوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَج، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ؛ وَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَ الْيَرْمُوكِ قَدْ أَصَابَ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ.

    وَلَكِنَّ الْإِسْرَائِيلِيَّات لِلِاسْتِشْهَادِ، لَا لِلِاعْتِضَادِ، وهي عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

    أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ من الكتاب والسنة فَذَاكَ صَحِيحٌ  .

    وَالثَّانِي: مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ لأنَّ عِنْدَنَا مَا يُخَالِفُهُ.

    وَالثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا ، فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ» وَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} البقرة: 136. {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} العنكبوت :46 الآيَةَ .

    وَتَجُوزُ حِكَايَة المسكوت عنه ، وَغَالِبُه مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ؛ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ فيه عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَثِيرًا، و يخْتَلِف الْمُفَسِّرِونَ الناقلون عنهم ، كَمَا فِي مِثْلِ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَعِدَّتِهِمْ، وَأَنواع الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَتَعْيِينَ الْبعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينهِ ، وَلَكِنَّ نَقْل الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ عند المصلحة ،  كَمَا قَالَ تَعَالَى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ، فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} الْكَهْفِ: 22 .

    فَقَدِ اشْتَمَلَتْ الْآيَةُ عَلَى تَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا،  بالإشارة إلى ظهور الصواب في القول الثَّالِثِ ، والإرشاد إلى أنَّ كثْرَة الخَوض في عِدَّتِهِمْ والمِراءَ في ذلك و السُّؤال .. لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ، فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ بغَرَضِ حَسْمِه : باستِيعابِ الْأَقْوَال ِ، وَالتَّصْحِيحِ أو التَّرجيح وبيان الجَدْوَى أو عَدَمِها ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.   

    وعندما لا يوجد تفسير عَنِ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَقْوَالِ التَّابِعِينَ، كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْر فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: عَرضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ، وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا  .

   وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا طَلْق بْنُ غَنَّامٍ، عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَة قَالَ: رَأَيْتُ مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: اكْتُبْ، حَتَّى سَأَلَهُ عَنِ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ . وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ  . و هذه الروايات أوردَها الطبري في تفسيره (سلامة) .

    و من التابعين المرجوع إليهم أيضًا َسَعِيد بْن جُبَيْر، وعِكْرِمة مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاحٍ، وَالْحَسَن الْبَصْرِيِّ، ومسروق ابن الْأَجْدَعِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيع بْن أَنَسٍ، وَقَتَادَة، وَالضَّحَّاك بْن مُزاحم، وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فيَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا ، فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ ، وَالْكُلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمَاكِنِ، فَلْيَتَفَطَّنِ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ الْهَادِي . 
     

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©