بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

حقيقة الولي:

 جاء في لسان العرب: أن الولي -كما قال ابن الأعرابي- هو التابع المحب. وجاء فيه كذلك: أنه مأخوذ من الولْي وهو القرب.

 وورد فيه أيضاً أن الولي بمعنى النصير، وفي المعجم الوسيط: أن الولي هو المطيع. فهذه بعض معاني الولي من حيث اللغة فيما نحن بصدده.

 وأما التعريف الشرعي للولي: فقد قال الشوكاني في كتابه (قطر الولي):

قال ابن حجر في (فتح الباري): المراد بولي الله: العالم بالله تعالى، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته. ا.هـ.

 وهذا التفسير للولي هو المناسب لمعنى الولي المضاف إلى الرب سبحانه، ويدل على ذلك ما في الآيات القرآنية كقوله سبحانه: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[يونس:62] * (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[يونس:62] * (( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:63] * (( لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ))[يونس:64]. إلى أن قال: (فأولياء الله هم خُلّص عباده القائمون بطاعته المخلصون له) . ا.هـ كلام الشوكاني.

وقال الدكتور إبراهيم هلال محقق كتاب (قطر الولي): وهذا المعنى الذي يدور بين الحب والقرب والنصرة هو الذي أراده القرآن الكريم من كلمة (ولي) ومشتقاتها في كل موضع أتى بها فيه، سواء في جانب أولياء الله، أو في جانب أولياء أعداء الله. وقد أحصيت تلك المواضع؛ فبلغت تسعين موضعاً: أربعة وخمسون منها في جانب أولياء الله، وستة وثلاثون في جانب أولياء الشيطان وأعداء الله.

ثم يقول الدكتور هلال: إذن فالمراد من كلمة ولي في القرآن الكريم في حال المدح وفي حال نسبتها إلى الله سبحانه وتعالى: هو المحبة أو القرب أو الحماية والنصرة من الجانبين: جانب المخلوق، وجانب الخالق سبحانه . ا.هـ.

...........................................................

1) شروط الولي :-

 وبناء على ما ذُكر للولي ما يلي:

 أولاً: الإيمان والتقوى كما في آية يونس. وهذا الشرط متحقق في عموم المؤمنين على تفاوت. قال الطحاوي في (العقيدة الطحاوية): والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن. وقال ابن أبي العز في شرح ذلك: والولاية نظير الإيمان، فيكون مراد الشيخ أن أهلها في أصلها سواء، وتكون كاملة وتكون ناقصة، فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين، ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه، وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان...

ثم استدل بالآية: (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ))[يوسف:106]، وبالحديث المتفق عليه في خصال النفاق، وفيه: { ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها.. }، ثم ذكر أن الطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي من شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، ورأس شعب الإيمان التصديق، وأن من كان معه من الإيمان (الولاية) أقل القليل لم يخلد في النار، كما في الحديث المتفق عليه: { يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذره من إيمان }.ا.هـ.

 وقال ابن تيمية في فتاواه في المجلد الحادي عشر (التصوف ) في رسالته (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان): وإذا كان أولياء الله هم المؤمنون المتقون، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيماناً وتقوى، كان أكمل ولاية لله، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، قال الله تعالى: (( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ))[التوبة:124] * (( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ))[التوبة:125]ا.هـ.

 ثانياً: التقرب بالفرائض والنوافل، كما في حديث الولي الذي في البخاري، قال ابن تيمية في فتاواه في المجلد الحادي عشر في رسالته: (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)، وننقل كلامه بشيء من التصرف: وأولياء الله على طبقتين: سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون، ذَكَرَهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز: في أول سورة الواقعة وآخرها، وفي سورة الإنسان، والمطففين، وفي سورة فاطر.. ثم قال: وفي صحيح البخاري الحديث المشهور، يقول الله تبارك وتعالى فيه: { من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به... إلخ).

 فلا يكون مؤمناً تقياً حتى يتقرب إلى الله بالفرائض، فيكون من الأبرار أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحداً من الكفار والمنافقين لا يكون ولياً لله، وكذاك المجانين والأطفال؛ لأنهم لا يتقربون إلى الله بفعل الحسنات ولا ترك السيئات، ولكن الصبي المميّز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء، والمجنون إذا كان في حال إفاقته مؤمناً بالله ورسوله ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، فهذا إذا جُن لم يكن جنونه مانعاً من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك.

 ولا يجوز لأحد أن يعتقد في المجنون أنه ولي الله بغير عمل، أو بعمل غير صحيح يصدر منه حال جنونه، وأن تكون حجته في ذلك: إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صُرع، فإنه قد عُلم أن الكفار والمنافقين لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية: كالكهان والسحرة؛ فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص ولياً لله. ا.هـ.

 ثالثاً: الاعتصام بالكتاب والسنة: فلا يمكن أن يكون ولياً لله من لم يكن ملتزماً بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه صحابته الكرام، وقد بيّن سبحانه أولياءه الذين رضي عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم الجنة، بأنهم الصحابة ومن اتبعهم، قال تعالى: (( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ))[التوبة:100].

 والتفريق بين الحقيقة والشريعة عند بعض الأدعياء لا محل له في دين الله، قال ابن تيمية في فتاواه في المجلد الحادي عشر في رسالته (الفرقان..): والحقيقة حقيقة الدين دين رب العالمين: هي ما اتفق عليه الأنبياء والمرسلون، وأن لكل منهم شرعة ومنهاجاً... قال تعالى: (( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ))[الجاثية:18] * (( إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ))[الجاثية:19].. ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، وقوله تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ))[آل عمران:85]. عام في كل زمان ومكان.

وقال أيضاً: وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة.. مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل، ومن خالف هذا فليس من أولياء الله سبحانه.. بل إما أن يكون كافراً، وإما أن يكون مفرطاً في الجهل.

 وهذا كثير في كلام المشايخ، كقول الشيخ أبي سليمان الداراني: إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم؛ فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة.

 وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه: عِلْمُنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث؛ لا يصلح له أن يتكلم في عِلمنا. أو قال: لا يقتدى به.

 وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمرّ السنة على نفسه قولاً وفعلاً؛ نطق بالحكمة، ومن أمرّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً؛ نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: (( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ))[النور:54].

 وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجُد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.

 وقال ابن تيمية أيضاً: ومن ظن أن لأحد أولياء الله طريقاً إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، فلم يتابعه باطناً وظاهراً؛ فهو كافر.ا.هـ.

...........................................................

2) هل ما صحّ معجزة لنبي جاز كرامة لولي؟ :-

 المعجزات والكرامات كلها خوارق للعادة فهي بهذا الاعتبار من جنس واحد، ويرى جمهور العلماء أن ما كان معجزةً لنبي، جاز كرامة لولي، كما ذكر ذلك صاحب غاية البيان في شرح زبد ابن رسلان عند شرح بيت:

والأولياء ذوو كراماتٍ رُتَب                            وما انتهوا الولد من غير لا أب

 وكلام ابن تيمية في ذلك يفهم منه الإقرار بذلك، قال في فتاواه في المجلد الحادي عشر في رسالته (الفرقان...):

 وكرامات الأولياء إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم.

 وقال في موضع آخر: وأما المعجزات التي لغير الأنبياء من باب الكشف والعلم، فمثل قول عمر في قصة سارية... إلخ. ا.هـ. فسمى الكرامات معجزات.

ومن قبله قال النووي في (شرح صحيح مسلم) في أوائل كتاب البر والصلة: الكرامات قد تكون بخوارق العادات على جميع أنواعها، ومَنَعه بعضهم، وادعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه، وهذا غلط من قائله، وإنكار للحس، بل الصواب جريانها بقلبِ الأعيان، وإحضار لشيء من العدم ونحوه. ا.هـ.

 ويرى بعض العلماء أن كرامات الأولياء لا تصل إلى مستوى بعض المعجزات العظيمة الخاصة ببعض الأنبياء، مثل: ولادة عيسى صلى الله عليه وسلم من غير أب، ومثل: معجزة الإسراء والمعراج يقظة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما جرى له فيها من العجائب، ولعل مستندهم في ذلك أن رتبة النبوة أعلى من رتبة الولاية، فلا تكون كرامات الأولياء مساوية لمعجزات الأنبياء من كل الوجوه، كذلك فإنه بالاستقراء لم يحدث أنه جرت كرامة على يد ولي، بحيث يولد ولد من غير أب مثلاً.

 قال الحافظ في (الفتح) في المجلد السابع عند الكلام على شهداء الرجيع: والمشهور عن أهل السنة إثبات الكرامات مطلقاً، لكن استثنى بعض المحققين منهم كأبي القاسم القشيري ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء، فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك. وهذا أعدل المذاهب في ذلك..

 ثم يقول الحافظ: فانحصر الخارق الآن فيما قال القشيري، وتعين تقييد قول من أطلق أن كل معجزة وُجِدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي.

 وقال الحافظ في المجلد الثالث عشر من الفتح ناقلاً بعض الفوارق بين الكرامة والمعجزة: قال أبو بكر بن فورك: الأنبياء مأمورون بإظهارها، والولي يجب عليه إخفاؤها، والنبي يدعي ذلك بما يقطع به بخلاف الولي، فإنه لا يأمن الاستدراج. ا. هـ.

ولعل الراجح ما رجحه الحافظ ابن حجر لما سبق والله أعلم.

...........................................................

 3) الفروق بين المعجزة والكرامة والسحر وغيرها من الخوارق :-

الأصل أن الإنسان وفق سنن اله المعتادة ليست لديه خوارق، ولا يقدر عليها من تلقاء نفسه، وحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما تحصل لهم المعجزات والخوارق عندما يريد الله أن يؤيدهم بها، قال تعالى حكاية عن نوح صلى الله عليه وسلم: (( وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ))[هود:31]، ويمثل ذلك أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول كما قال تعالى: (( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ))[الأنعام:50].

 وهذا مضمون ما أورده ابن تيمية في رسالتيه (الفرقان...) و(قاعدة في الكرامات) في المجلد الحادي عشر من فتاواه، وكل ما يدعيه بعضهم لأنفسهم أو يدعيه لهم غيرهم من صفاتهم الإلهية من الضر والنفع وعلم الغيب ونحو ذلك فهو كفر والعياذ بالله سواء في حال الحياة أو حال الموت.

 وعندما يريد الله تأييد نبيه بالمعجزة يمنحها له في الوقت المناسب: كناقة صالح وعصا موسى، وإحياء الموتى لعيسى، وقتال الملائكة مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر.

 ولا فرق بين المعجزة والكرامة عند جمهور العلماء -كما سبق النقل- وإن كان الراجح التفريق كما سبق بيانه. قال ابن تيمية في رسالته (قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات) في المجلد الحادي عشر من فتاواه:

وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة وعُرف الأئمة: كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، ويسمونها الآيات، لكن كثيراً من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي والكرامة للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة. ا. هـ.

 ومن أمثلة الكرامات: قصة الذي عنده علم من الكتاب، والذي جاء بعرش ملكة سبأ لسليمان، وقصة مريم عندما كان زكريا يجد عندها رزقاً كلما دخل عليها المحراب، وكلام الملائكة لها، وقصة أصحاب الكهف، وكل هذه الكرامات وغيرها ورد ذكرها في القرآن.

 ومن الكرامات: قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، وقصة جريج، وتنزل السكينة لقراءة أسيد بن حضير، وقصة أبي بكر في إطعام ضيوفه، وكلها في الصحيحين.

 ومنها: إلقاء الأسود العنسي لأبي مسلم الخولاني في النار، فلم تضره كما روى ذلك اللالكائي بسنده في كتابه (كرامات الأولياء) وغيره، وذكر كرامات كثيرة.

 والمعجزات والكرامات تكون خوارق للعادة في جانب حزب الله من الأنبياء والأولياء، وأما حزب الشيطان فتحدث لهم خوارق من مثل السحر والكهانة ونحو ذلك، يبتليهم الله بذلك، ويبتلي بهم الناس، ولكنه يظهر زيفها بدلائل يظهرها الله لعباده يبين بها أن هذه الخوارق ليست كرامات ولا معجزات.

 فمن ذلك: بطلان سحر سحرة فرعون بمجرد إلقاء موسى عصاه، وتسليم السحرة وإيمانهم، والعيب الملازم للدجال في عينه وهو أنه أعور، والكتابة بين عينه (كافر) يدل على أن الخوارق التي معه إنما هي فتنة وابتلاء.

 وتأثير الذكر على السحر وإبطاله به، وتأثير فواتح سورة الكهف على الدجال، وتأثير الأذكار بشكل عام على الأفعال الشيطانية، وهذا ملموس مجرب يجعل التمييز ميسوراً بين الكرامة وبين السحر والشعبذة، وأعظم فارق بين الكرامة والشعبذة: هو أن الكرامة يقارنها الالتزام بالشرع والاستقامة، وأما الخوارق التي يقارنها عدم الالتزام بالشرع فكلها شعبذة، وهي مقرونة بالخذلان، قال تعالى: (( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ))[طه:69].

 قال الحافظ في (الفتح) في المجلد السابع عند كلامه على شهداء الرجيع: الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدل على أن ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقوله، فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكره أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكاً بالأوامر الشرعية والنواهي؛ كان ذلك علامة ولايته، ومن لا فلا، وبالله التوفيق.ا.هـ.

 وقال ابن تيمية في رسالة (الفرقان...) في المجلد الحادي عشر من فتاواه -وننقله بتصرف-: قال الله في أعدائه: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ))[الأنعام:121]، وقال: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ))[الأنعام:112]، وقال: (( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ))[الحاقة:40] * (( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ ))[الحاقة:41] * (( وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ))[الحاقة:42] * (( تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الحاقة:43] * (( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ))[الحاقة:44] * (( لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ))[الحاقة:45] * (( ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ))[الحاقة:46] * (( فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ))[الحاقة:47].

 وقال سبحانه: (( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ))[القلم:5] (( بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ ))[القلم:6].

 وقال عن الشيطان: (( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))[النحل:99] (( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ))[النحل:100]، ثم قال: والأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة –يعني: التي لا يصل إليها هو بحواسه- فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه.

 وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور، وأمثال هؤلاء كثيرون، مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة، وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يرى الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ويقول: هي الملائكة، وإنما كانوا جنًّا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك: إنك لم تسمّ الله، فسمى فطعنه فقتله..

 ثم قال: ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده.. ومنهم من يستغيث بمخلوق حي أو ميت؛ فيتصور الشيطان بصورة المستغاث به، ويقضي بعض حاجة المستغيث، وقد يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر.

 ومنهم شيخ بمصر أوصى خادمه بأنه إذا مات فسوف يجيء هو ويغسل نفسه، فجاء شيطان بعد موته على صورته فغسَّله ثم غاب، وخدع الشيطان بعد ذلك الشيخ والناس، ومنهم من يرى عرشاً في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك. فإذا كان من أهل المعرفة عرف أنه شيطان، فاستعاذ بالله منه فيزول، وقد يبقى الباطل إلى حين ابتلاء، كبقاء سحر الرسول صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، وبقاء أفعال الدجال مع الذكر.

 ومنهم من يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة، أو يقلب فاتحة الكتاب أو آية الكرسي فيغوّر له الماء، وقد يأتونه بما يهوى من امرأة أو صبي إذا لم يتحصن المطلوب بالذكر، وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة. ا .هـ.

 ومن ذلك: ما يحصل لكثير من الصوفية المنحرفين عن الكتاب والسنة، والمجاذيب أصحاب الألاعيب، والطائفين حول القبور، والقائلين بوحدة الوجود مما يزعمونه من الحقائق والمكاشفات، وما يقوم لهم به الشياطين التهويمات والتمثيليات وألوانه، والفتن والسخافات.

...........................................................

 4) حياة الخضر :-

 يزعم العوام وكثير من الصوفية ونحوهم من الفرق أن الخضر حي، ومثله إلياس، وإنما يظهر لبعض الناس، ثم ينسجون لكل منهما قصصاً وخوارق، وكلك لمن لقيا، وإذا حصل مثل هذا الظهور فيكون لجنِّي يزعم أنه الخضر أو إلياس، والحقيقة أنه يضحك على الناس، والزعم باستمرار حياة الخضر وإلياس زعْم باطل؛ لأمور عديدة منها:

- أنه لا يوجد دليل واحد صحيح على استمرار هذه الحياة، مع وجود أدلة تمنع من استمرار ذلك، من مثل حديث: { على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها أحد }، وذلك منذ قال ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر حياته -كما في الحديث المتفق عليه- فعلى افتراض بعد ذلك معناه وفاتهما في خلالها كما في الحديث.

 - أنه لا يوجد دليل واحد صحيح على استمرار حياتهما إلى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو استمرت حياته إلى ذلك الوقت للزمهما المجيء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه والجهاد معه؛ لأنه رسول للعالمين، وذلك كما يفعل عيسى صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، إذ أنه يطبق دين محمد عليه الصلاة والسلام، والخضر وإلياس نبيان؛ فلا بد أن يكون فعلهما كفعل عيسى، قال تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ))[آل عمران:81].

 ولم يثبت في أي حديث صحيح مجيئهما أو واحد منهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد: { والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني }، فكذلك صاحبه النبي الخصر، ومثيله النبي إلياس.

 - لو طالت حياة الخضر أو إلياس؛ لكان جسد كل منهما كبيراً يناسب ما كان عليه الخلق في الماضي، ولكان ظهور أيٍّ منهما ملفتاً للنظر في ذلك، وقد استدل بهذا ابن الجوزي، واستدل بجسم دانيال الذي وُجد في زمن أبي موسى الأشعري في بلاد فارس ميتاً على سرير، وساق بسنده إلى أبي عمران الخولاني أن أنف دانيال كان ذراعاً، وأن رجلاً قام جنبه فكانت ركبة دانيال محاذية لرأسه.

 وهذه الأدلة هي جزء مما نقله الحافظ ابن حجر في رسالة له اسمها (الزهر النظر في نبأ الخضر)، وقد رجح فيها أنه نبي، واستدل بالآية (( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ))[الكهف:82]، وأنه ما كان يمكن أن يفعل ما فعله مع موسى، ومن ذلك: قتل الغلام بدون وحي من الله، فدل ذلك على نبوته، وأنه لا يمكن أن يكون موسى -وهو نبي- تابعاً لغير نبي.

 ونقل عن الثعلبي أنه نبي في جميع الأقوال، كما نقل عن بعض أكابر العلماء أن أول عقيدة تخل من الزندقة هي القول بنبوة الخضر؛ لأن الزنادقة يتذرعون بأنه ولي، وأنه أفضل من النبي، كما قال قائلهم:

مقام النبوة في برزخ فويْقَ الرسول ودون الولي . وقد جمع الحافظ ما جمعه ابن المنادي وابن الجوزي في الخضر وإلياس، وذكر إنكارهما لاستمرار حياتهما، وإنكار مثل البخاري، واستدلاله بحديث: (مائة سنة)، وغيرهم من أكابر العلماء، وأن المنادي يرى أن المغفلين هم الذين يقولون بحياة الخضر، وأن الأحاديث والمرويات في ذلك واهية.

 وقد أيَّد ذلك الحافظ، وحكم على المرويات بنفس الحكم، إضافة إلى ما جمع هو منها، وردَّ استمرار حياة الخضر، كذلك ابن تيمية كما في (منهاج السنة النبوية)، كما ردَّها كذلك ابن القيم في (نقد المنقول)، وقال: إن الحديث في ذلك لا يصح منها حديث واحد، وكذا في كتابه (المنار المنيف).

...........................................................

 5) أثر الأولياء :-

 انتشار الصلاح في الأرض، وأن الولاية قرينة الإيمان والتقوى، فكل المؤمنين أولاء لله كما مرَّ، وولاية كل واحد منهم بقدر إيمانه، وأن منهم أبراراً أصحاب يمين مقتصدين، وسابقين مقربين.

ليس للأولياء تميّزٌ عن الناس في الظاهر -كما ذكر ابن تيمية في رسالته (الفرقان..)- فيوجدون في أهل القرآن الكريم وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزراع، فلا يتميزون بلباس أو شارة أو طريقة أو غير ذلك، قال تعالى في خُلّص الصحابة: (( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))[المزمل:20].

- ليس أولياء الله معصومين، فليسوا كالأنبياء، بل يجوز عليهم الخطأ في الاجتهاد، وتجوز عليهم المعاصي، فعمر رضي الله عنه -كما ذكر ذلك ابن تيمية في رسالته المشار إليها سابقاً- كان محدَّثاً كما في المتفق عليه، ووافق القرآن في أمورٍ عديدة، ومع ذلك لم يكن موقفه سديداً على سبيل المثال عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك موقفه من قتال مانعي الزكاة، ثم عدَّل موقفيه عندما سمع أبا بكر.

 وكذلك يمكن القول بأن الصحابة رضي الله عنهم لما انفسحوا في عهد علي رضي الله عنه، وهم أعظم الأولياء لم يؤثِّر ذلك في ولايتهم؛ لاجتهادهم، فما بين مصيب ومخطئ، وفي الفريقين مبشرون بالجنة.

 ولكن أولياء الله محفوظين بحفظ الله لجوارحهم؛ فيكون غالب أحوالهم السداد بشكل عام، للحديث: { فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها }،كما في البخاري. وقد ذكر الشوكاني في (قطر الولي) أن بقية الحديث يردّ على الحلولية أرباب الاتحاد، بالتفريق بين ذات الله، وذات الولي فقال: "وعلى الأوجه كلها فلا تمسك فيه للاتحاد، ولا للقائلين بالوحدة المطلقة، لقوله في بقية الحديث:(لئن سألني... لئن استعاذني..." فإنه كالتصريح في الرد عليهم.

 والولاية موجودة ما وُجد الإيمان، وليس هنالك ما يسمى بخاتم الأولياء، فهي بدعة جاء بها الحكيم الترمذي، وذكر ابن تيمية في رسالته (الفرقان...) عنه أنه صنَّف مصنفاً غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، كما يزعم ذلك ابن عربي في كتابي: (الفتوحات) و(النصوص)، فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله وأوليائه، كما يقال لمن قال: (فخرَّ عليهم السقف من تحتهم) لا عقل ولا قرآن.ا. هـ.

 وقد تكلم ابن تيمية رحمه الله -كما في المجلد الحادي عشر- على مصطلحات الأبدال والأغواث والأقطاب والأوتاد، وذكر أن حديث الأبدال منقطع الإسناد، وأن هذه الأسماء دائرة على ألسنة النّساك والعامة، وليست في كتاب الله ولا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح. وقد ضعّف الألباني أحاديث الأبدال في السلسلة الضعيفة وضعيف الجامع الصغير والمشكاة وظلال الجنة، وضعفها الأرناءوط في مسند أحمد.

 كرامات الأولياء غير محصورة، وهي خوارق كما سبق، وليس بالضرورة حصول كرامة فأعظم.

4- كرامة هي الاستقامة، وأعظمها إجابة الدعاء، كما في حديث البخاري{ ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه } قال الشوكاني في (قطر الولي): "وقد عرفناك أن إجابة الدعاء هي كرامة، ومن أكرمه الله بذلك دعا بما يشاء، كيف يشاء من جليل الأمور وحقيرها وكبيرها وصغيرها". ولكن إجابة الدعاء والكرامات الشرعية إنما هي ثمرة للاستقامة، قال الشوكاني: (واعلم أن من أعظم ما يتبين به من هو من أولياء الله سبحانه أن يكون مجاب الدعوة راضياً عن الله عز وجل في كل حال، قائماً بفرائض الله سبحانه، تاركاً لمناهيه زاهداً فيما يتكالب عليه الناس من طلب الغلو في الدنيا لنفسه، شغل بملاذ الدنيا، ولا بالتكاثر منها، ولا بتحصيل أسباب الغنى وكثرة اكتساب الأموال والعروض، إذا وصل إليه القليل صبر، وإن وصل إليه الكثير شكر، يستوي عنده المدح والذم والفقر الغنى، والظهور والخمول، غير معجب بما منَّ الله عليه من خصال الولاية، إذا زاده الله رفعة، زاد في نفسه تواضعاً وخضوعاً، حسن الأخلاق، كريم الصحبة، عظيم الحلم، كثير الاحتمال.................، ومن كان فيه بعض هذه الخصال................؛ فله من الولاية بقدر ما رزقه الله سبحانه منها. ا. هـ.

 5- زيادة الرزق والأجل: في نهاية حديث البخاري: { وما تردّدت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته }، للإنسان أجلان ورزقان كما أن له مقعدين في الجنة والنار، ومما يدل على الرزقين والأجلين قوله تعالى حكاية عن رسل الأمم كما في سورة هود: (( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ))[إبراهيم:10].

 وهذا التأخير في الأجل معناه زيادة الرزق مدة هذا التأخير، كذلك الحديث: { من سره أن يعظم الله رزقه، وأن يمد في أجله فليصل رحمه }، رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أنس وهو صحيح كما في (صحيح الجامع الصغير). وبمعناه حديث متفق عليه.

فهذا يدل على أن العمل الصالح يزيد في الرزق والأجل، وقد ذكر الشوكاني في تفسيره في تفسير آية: (( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ))[فاطر:11]، وتفسير آية: (( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ))[الرعد:39]، ذكر ذلك، وذكره أيضاً في (قطر الولي)، واستدل أيضاً بآية (( ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ))[الأنعام:2]، وقال في (القطر): "تقرر لك أن الثلاث الآيات دالة على ما أردناه، فإن المحو والإثبات عامَّان يدخلان في عمومهما العمر والرزق والسعادة والشقاء وغير ذلك، ومعنى الآية: أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا وهو في كتاب، أي: اللوح المحفوظ، ومعنى الآية الأخرى: أن للإنسان أجلين يقضي الله سبحانه له بما يشاء منهما من زيادة أو نقص..." وقال: "إذا حضر الأجل فإنه لا يتقدم ولا يتأخر، وقبل حضوره يجوز أن يؤخره الله بالدعاء أو بصلة الرحم أو بفعل الخير، ويجوز أن يقدمه لمن عمل شرًّا، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل، وانتهك محارم الله سبحانه".

 وقال في أهمية الدعاء في تغيير القضاء: "فلو لم يكن الدعاء نافعاً لصاحبه، وأن ليس له إلا ما قد كتب له، دعا أو لم يدع، لم يقع الوعد بالإجابة وإعطاء المسألة... بل قد ثبت أن الدعاء يرد القضاء كما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { لا يرُدُّ القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر }.

وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه والطبراني في الكبير والضياء في المختارة... وأخرج البزار والطبراني والحاكم وصححه من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة }..

 كما ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول: { اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء }.. ومن ذلك حديث الدعاء في الوتر وفيه { وقني شرما قضيت }وهو حديث صحيح...

 فاحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبر بأسباب الخير أو الشر، واحمل الأحاديث الأخرى -تغيير القضاء- على وقوع التسبب من العبد بأسباب الخير في الأزل، ولا مخالفة لما تقدم العلم به، بل هو من تقييد المسببات بأسبابها، كما قُدر الشبع والري بالأكل والشرب... ولو كان القضاء السابق حتماً لا يتحول، فأيُّ فائدة في استعاذته صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء -كما صح ذلك عنه- ويدل على هذا ما ثبت عن كثير من أكابر الصحابة أنهم كانوا يقولون في دعائهم: اللهم إن كنت قد أثبتَّني في ديوان الأشقياء فانقلني إلى ديوان السعداء، ونحو هذه العبارة من عباراتهم، وهم جمهور، وقد جمع بعض الحنابلة فيما ورد عنهم من ذلك مجلداً بسيطاً.

 ولله درّ كعب الأحبار؛ فإنه قال لما طعن عمر رضي الله عنه: (والله لو دعا عمر أن يؤخر الله أجله لأخّره) فقيل له: إن الله عز وجل يقول: (( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ))[الأعراف:34]؟ فقال: هذا إذا حضر الأجل، فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ قوله تعالى: (( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ))[فاطر:11]. ا. هـ.

 ومعنى (في كتاب): أن الله يعلم الزيادة أو النقص سلفاً، وتغيير القضاء؛ لأنها في الكتاب وهو اللوح المحفوظ.

وبناء على ما ذكر فإن التردد المذكور في حديث الولي الذي في البخاري -وسبق إيراده- معناه أن الله تبارك وتعالى ينظر ما يأتي به وليّه المؤمن من أعمال صالحة أو دعاء أو عدم ذلك؛ لينـزل به أنسب الأجلين -كما يرى الشوكاني- قال الشوكاني في (القطر): "فكان هذا التردد معناه انتظار ما يأتي به العبد مما يقتضي تأخير الأجل أو لا يأتي، فيموت بالأجل الأول، وهذا معنى صحيح لا يرد عليه إشكال، ولا يمتنع في حقه سبحانه بحال، مع أنه سبحانه يعلم أن العبد يفعل ذلك السبب أو لا يفعله، لكنه لا يقع التنجيز لذلك المسبب إلا بحصول السبب الذي ربطه الله عز وجل به".

 وفي كلام الشوكاني تأويل للتردد، والأصل محله على الحقيقة.

 وقد ذكر الألباني في رياض الصالحين عند الحديث (96) نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن حقيقة التردد أن يكون الشيء مراداً من وجه مكروهاً من وجه، وإن كان لا بد من ترجيح أحد الجانبين -وهذا هو الصواب- فإن الله أراد الموت لعباده، وهو يكره حدوثه لوليه، فيكون التردد، ولكنه في النهاية يمضي إرادته؛ فيحقق جانبها ويحدث الموت، وهو ما ورد في رواية: { ولابدّ له منه }، والله أعلم...

والحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

...........................................................

 

 Designed by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©