عُقَابٌ تعلّم مشْي الغراب

 

 

10/11/1427ــ30/11/2006

 

  الدعوة إلى الله أشرف عمل ، ولذلك كانت مهمة الأنبياء ومهمة ورثتهم العلماء ، ومهمة كل قادر على الدعوة ، قال الله تعالى آمراً خاتم الأنبياء ليبين ذلك : ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) . وقال جل وعلا : ( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) . والدعوة إلى الله لغتها واضحة ، ونِسبتُها ظاهرة ، وهُويّتها بارزة متميزة لا تقبل الاختلاط بغيرها ، ولا الاستعارة من سواها ، وإذا جازت الاستعارة في الماديات والخبرات والحاجات الدنيوية ؛ لأنها قاسم مشترك بين البشر ، يهوديّهم ونصرانيّهم ووثنيّهم ومسلمهم ، فإن الاستعارة في القيم والمبادئ غير واردة ، لاسيما وديننا متفرّدٌ بالهدى ، وهو يؤكد على هذا التفرّد في كل مناسبة ، ويلقّن المسلمين في كل ركعة أن يسألوا الله الهداية إلى الصراط المستقيم ، وأن يجنّبهم صراط اتباع الديانات والمبادئ الأخرى من المغضوب عليهم والضالين .

والمثابرة والمصابرة والمرابطة على الدعوة ، والحفاظ على صفائها ونقائها جزءٌ من مهمة النبي المعصوم بعصمة الله له ، قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام :    ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره ، وإذاً لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً * إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً ) وجزءٌ كذلك من واجبات المؤمنين أتباع النبي ، قال الله للمؤمنين : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .

والحركات الدعوية التي هي جزء من التجديد لدين الله تبدأ نقية في الغالب قليلة الشوائب ، وتمضي في طريقها وينفع الله بها ، ثم يطول الأمد وتتنوّع الابتلاءات ، وتتعدّد الأجيال فيضعف التمسك وتقع التنازلات ويتسلل الغبش ، وتحتاج الدعوة إلى دورةٍ تجديدية جديدة ، لأن هذه هي سنة الله ، ولكل شيء إذا ما تم نقصان .

ومما هو ملموس مشاهد هذه الأيام أن بعض عناصر الدعوة الإسلامية التي لا ينكِر دورها في إيقاظ الأمة وإصلاحها إلا جاحد أو حاقد ، أخذ ينتابها الضعف ويغزوها الخلَلَ والدخَل ، ويعتريها التساهل في التوسُّعات والترخّص في التحالفات والمجاملات لبُعد الشّقة ، فأثّرتْ في الآخرين ، ولكنها تأثّرتْ ، وعالجتْ إلى حدٍّ ما وأصلحتْ ولكنها بسبب ضعف التحصين والوقاية أصابتها العدوى فمرضتْ ، وأصبحت هي ذاتها بحاجة إلى العناية والرعاية والعلاج ... وليست العصمة لأحد من البشر سوى الأنبياء . 

ومن هذه العدوى الإصابة بغزو المصطلحات ، واستعارة واستيراد المبادئ والقيم في البرامج والأدبيات ، فأصبح الاعتماد على آيات كتاب الله التي هي أحسن الحديث ، وعلى أقوال رسول الله التي هي خير الهدي ، وعلى كلام الفقهاء التي هي في غالبها الحق ، لأنها مأخوذة من مشكاة الوحي .....

أصبح هذا الاعتماد محصوراً على خطبِ ومحاضراتِ وحلقاتِ المساجد وجلساتِ الوعظ . وأما لغة كثير من الدعاة في البرامج وفي الصحف وفي المؤتمرات وفي اللقاءات السياسية ونحوها فهي مجرّدة من الآيات والأحاديث ، ومن التذكير  بالإيمان بالله واليوم الآخر ، ومن التخويف من غضب الله وعذابه وناره ، ومن الترغيب برحمته ورضوانه وجنّته . وصارت بعيدةً عن المصطلحات الشرعية ، وعن منهجية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وخاليةً من الدعوة إلى الصلاة والزكاة وأخلاق الإسلام ، ومن الحرص على نشر التديّن ومفهوماته ، وتربية الناس بسيرة السلف ... بل صار بعضها أشبه بلغة العلْمَنَة ...! انفصامٌ وحصرٌ للخطاب الديني في مناسبات محدودة ... مع أن الله يقول : ( ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) ، ومعلوم ماذا تعني كلمة ( كلّ ) في الآية ... حرَجٌ وهروبٌ من تعميم الخطاب الديني أمام الإعلام ... وخجَلٌ من اللغة الشرعية والهُويّة المتحمّسة للإسلام  ... وخروجٌ من الجِلْد الحافظ والقلعة الحامية عند الحوار مع العلمانيين وأشباه العلمانيين ومع دهاقنة المغضوب عليهم والضالين ... مع أن الله يقول : ( كتابٌ أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرَجٌ منه لتنذر به ) ، ويقول سبحانه : ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به ـ أي بالقرآن ـ جهاداً كبيراً ) ... فهل ينتبه كبار العلماء والدعاة إلى هذا الخطر ؟ .... وهل يدركون أهمية التدارك والإسعاف ؟! إن الخوف والله كلّ الخوف من انطباق المثل الذي في البيتين على بعض الناس :

عُقَابٌ تعلَّم مَشْيَ الغُراب      وقد كان يُحسِن مشْيَ البطلْ

فهَرْوَل ما بين هذَا وذَا      فلا ذَا تأتَّى ولا ذَا حصلْ

نسأل الله العافية والسلامة ... وأما دين الله فلا خوف عليه ، لأن الله يقول :( وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ) ، وبالله التوفيق .    

 

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©