رؤية شرعية للمظاهرات

 
                                      6صفر 1430هـ  2فبراير 2009م 

 

المظاهرات وسيلة للتعبير عن الرأي ولفت الأنظار إليه والإقناع به ، وتقديم المطالب ،والضغط من أجل تحقيقها بواسطة الجماهير المحتشدة , وكلما ازداد عدد الجماهير أو تميّزوا في المستوى ، كان تأثيرهم أكبر .

     والوسائل تأخذ حكم المقاصد ، فإذا كانت الغاية من المظاهرة مشروعة ، فبناء على هذا الأصل تكون هذه الوسيلة مشروعة ، ما لم تختلط بها شوائب غير مشروعة .

    المانعون من المظاهرات:

    يرى بعض العلماء المعاصرين عدم مشروعية المظاهرات على اعتبار أنها بدعة ، و أن فيها تشبُّهًا بالكفار ، وأنها تنطوي على معاصٍ و مخالفات كاختلاط الرجال والنساء ، و رفع صور الزعماء وتعظيمها , و رفع شعارات لا تجوز , و الدعوة في كثير من الأحيان إلى الخروج على الحاكم المسلم ، و تهييج الناس وإهدار طاقاتهم دون الحصول على نتيجة أو تغيير  ، و قيام المتظاهرين في كثير من الأحيان بالإضرار بالناس وتخريب الممتلكات و غير ذلك  .

     ومن المانعين الشيخ ابن باز ، والشيخ ابن عثيمين ، والشيخ مقبل الوادعي ، والشيخ اللحيدان ، والشيخ آل الشيخ ، والشيخ الحويني..

     المجيزون للمظاهرات :

     ويرى معظم العلماء المعاصرين جواز المظاهرات إذا كانت من أجل مطالب مشروعة ولم تشتمل على مخالفات أو معاصٍ أو بدَع ، والأصل في الأشياء الإباحة ، ويقولون إنها وسيلة هامة في هذا العصر لتحقيق المطالب ، بصورة سلمية وبقدر أقل من التضحيات ، و الأمثلة على تحقيق المطالب كثيرة في كثير من البلاد .

     و من المجيزين الشيخ عبد الرحمن عبدالخالق ، والشيخ سلمان العودة ، والشيخ يوسف القرضاوي ، والشيخ الديلمي و الشيخ علي بلحاج  والشيخ محمد حسان ..

     الراجح :

     هو جواز المظاهرات ، لأنه لا يوجد دليل صريح بمنعها ، والأصل في الأشياء الإباحة ، و هنالك وسائل كثيرة جديدة حدثت بعد عصر الصحابة في نشر العلم والدعوة وفي الجهاد ، و في غير ذلك من المجالات .

      فمن ذلك إنشاء المدارس والأربطة ، و ترتيب أوضاع التدريس و المدرسين ، و القيام بالتأليف ، وإيجاد الأسانيد والإجازات ، وتقسيم العلوم إلى عقيدة وأصول فقه ، وفقه ، وحديث ، ورجال ،  وقراءات ، وتفسير ، وتجويد ، ولغة ، و فرائض .... وإيجاد تخصصات ، وتدوين اجتهادات و مذاهب .

     وفي العصر الحديث نشأت الجامعات والمعاهد الشرعية ومراكز البحوث والمجامع الفقهية ، و كتُبتْ رسائل الماجستير والدكتوراه ، و تأسست الهيئات الشرعية والجمعيات الشرعية والجماعات الإسلامية  .

      و استفاد الدعاة من الميكروفونات في الأذان و الخطب والمحاضرات ، كما استفادوا من أشرطة الكاسيت والفيديو ، و من الصحف والمجلات ، ومن القاعات والمؤتمرات ، و من الإذاعات والقنوات ، و من مواقع الإنترنت و الكمبيوترات .

      و تغيرت في هذا العصر وسائل وأساليب الجهاد تغيُّرا تاما ، وتعطلت السيوف و الجمال و الخيل رغم أن فيها نصوصا ، ولكن العلماء يذكرون أن هذه الوسائل ليست مقصودة لذاتها ، وإنما يقوم عليها الجهاد ، فإذا قام الجهاد بغيرها من الوسائل أخذتْ  حكمها .

     وكان الناس يذهبون للحج على الأقدام أو على الحيوانات ، و بدون إجراءات و لا جوازات ولا تأشيرات ، و صاروا الآن يمرُّون بكثير من الإجراءت ، ويركبون الحديث من المواصلات ....إلخ .

     و بعض التغييرات في المجالات المختلفة المذكورة كانت بالتدريج منذ عهد الصحابة فمَن بعدهم ، و لم يقل أحد بعدم جوازها أو عدم جواز بعضها .. مما يدل على مرونة هذا الدين في الوسائل ، إلا في وسيلة تكون عبادة محضة في ذاتها كالوضوء أو التيمم أو نحو ذلك ، ولذلك لم يقل أحد بأن وسيلة من الوسائل التي ضربنا لها أمثلة  بدعة .    

      فكذلك المظاهرات ليست بدعة ،  و هي ليست مأخوذة عن طقوس دينية عند الكافرين ، وإنما هي وسيلة محايدة كالكوب والميكرفون و الكمبيوتر والتليفزيون إن استعملت في الخير وبضوابط الشرع ، ودون أن يخالطها عمل محرم كالاختلاط ، وتعظيم الصور ، و رفع شعارات المبادئ المستوردة ،  والتخريب و الفساد ، فهي خير و فعلٌ مباح ، وقد تكون واجبة إن تعيَّنت للقيام بواجب ... وإن استعملت في الشر ، أو بدون الضوابط الشرعية الضرورية ، أو خالطها عملٌ محرّم فهي ممنوعة .

     نماذج قديمة شبيهة بالمظاهرات :

     ويمكن القول بأن ما يشبه المظاهرات قد حدث قديما .. ومن ذلك احتشاد الناس في يوم الزينة بطلبٍ من موسى عليه السلام من أجل طرح ما لديه والاستفادة من حشْر الحماهير لعرض الدعوة و كسب التأييد لها ، (قال موعدكم يوم الزينة و أن يُحشر الناس ضحى) طه . و قد ألقي السحرة سجدا ، ثم هتفوا في وجه فرعون والحاضرين (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض ...) طه . 

     و من ذلك قصة الغلام المؤمن التي رواها مسلم وغيره ، وفيها طلب الغلام المؤمن من الملك أن يجمع الناس في صعيد واحد ، وأن يقتله أمامهم ، وكان غرضه التأثير على الناس ، وقد وقع التأثير فعلا ، وهتف الناس (آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام) .

      وخرج العز بن عبد السلام ، وخرجت وراءه جموع المصريين فاضطر حاكم مصر من المماليك للرضوخ للحق .

     و جرى في التاريخ الإسلامي على مر القرون خروج الصالحين في مجموعات لنصرة الحق وتغيير المنكرات باسم المُطَوِّعة أو باسم الاحتساب والحسبة في كثير من المدن والأقطار ، يعبرون أحيانا عن استنكارهم ، وأحيانا يغيرون المنكر بأيديهم ، وأحيانا يرفعون الأمر إلى ولي الأمر .

     نموذج مظاهرة في بغداد في عام538هـ

     جاء في كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية) لأبي شامة المقدسي رحمه الله :

     قال ابن الأثير: ولما وصل الروم والفرنج إلى الشام ورأوا الأمر قد فات، أرادوا جبْر مصيبتهم بمنازلة بعض بلاد المسلمين ، فنازلوا حلَب وحصروها، فلم ير الشهيد (نور الدين زنكي) أن يخاطر بالمسلمين و يلقاهم، لأنهم كانوا في جمع عظيم ، فانحاز عنهم، ونزل قريبا منهم، يمنع عنهم الِميرة (التموين)، ويحفظ أطراف البلاد من انتشار العدو فيها والإغارة عليها .

      وأرسل(الشهيدُ) القاضِيَ كمال الدين ابن الشهرزوري إلى السلطان مسعود(في بغداد)  يُنْهِي إليه الحال بأمر البلاد وكثرة العدو و يطلب منه النجدة وإرسال العساكر ، فقال كمال الدين: أخاف أن تخرج البلاد من أيدينا ويجعل السلطان هذا حجة ويُنفذ العساكر، فإذا توسطوا البلاد ملكوها ، فقال الشهيد(نور الدين زنكي): إن هذا العدو قد طمع فيَّ ، وإنْ أخَذ حلب لم يبق بالشام إسلام؛ وعلى كل حال فالمسلمون (ولو كانوا أصحاب السلطان مسعود) أولى بها من الكفار.

     قال: فلما وصلت إلى بغداد وأديت الرسالة، وَعَدَني السلطان بإنفاذ العساكر، ثم أهمل ذلك ولم يتَحرَّ فيه بشيء؛ وكُتُبُ الشهيد(نور الدين زنكي) إليَّ متصلة يحثني على المبادرة بإنفاذ العساكر، وأنا أخاطِب فلا أُزَاد على الوعد .

     قال: فلما رأيت عدم اهتمام السلطان بهذا الأمر العظيم أحضرت فلانا ، وهو فقيه كان ينوب عنه في القضاء، فقلت: خذ هذه الدنانير وفرِّقْها في جماعة من أو باش بغداد والأعاجم ، و إذا كان يوم الجمعة وصعد الخطيب المنبر بجامع القصر قاموا وأنت معهم، واستغاثوا بصوت واحد: وَا إسْلاماه ! وَا دين مُحمّدَاه! ويخرجون من الجامع يقصدون دار السلطنة مستغيثين .

      ثم وضعت إنسانا آخر يفعل مثل ذلك في جامع السلطان . فلما كانت الجمعة وصعد الخطيب المنبر، قام ذلك الفقيه ومزق ثوبه ، وألقى عمامته عن رأسه وصاح ، وتبعه أولئك النفر بالصياح والبكاء.. فلم يبق بالجامع إلا من قام يبكي؛ و بطلت الجمعة ، وسار الناس كلهم إلى دار السلطان . وقد فعل أولئك الذين بجامع السلطان مثلهم .

     فاجتمع أهل بغداد وكل من بالعسكر عند دار السلطان، يبكون ويصرخون ويستغيثون ، وخرج الأمراء عن الضبط ، وخاف السلطان في داره وقال: ما الخبر؟ فقيل له: إن الناس قد ثاروا حيث لم ترسل العساكر إلى الغزاة . فقال: أحضِروا ابن الشهْرزوري . قال: فحضرت عنده وأنا خائف منه ، إلأ أنني عزمت على صدقه وقول الحق . فلما دخلت عليه قال: ياقاضي: ما هذه الفتنة؟  فقلت: إن الناس قد فعلوا هذا خوفا من الفتنة والشر ، ولا شك أن السلطان ما يعلم كم بينه وبين العدو!. . . و إنما بينكم نحو أسبوع.. ولئن أخذوا حلَب انحدروا إليك في الفرات وفي البر، وليس بينكم بلد يمنعهم عن بغداد...

     وعظَّمْتُ الأمر عليه حتى جعلته كأنه ينظر إليهم فقال: اردُد هؤلاء العامة عنا، وخذ من العساكر ماشئت ، وسر بهم والأََمدادُ تلحقك. .

     قال فخرجتُ إلى العامة ومن انضم إليهم فأخبرتهم وعرَّفْتُهم الحال، وأمرتهم بالعود، فعادوا وتفرقوا . وانتخبت من عسكره عشرة آلاف فارس ، وكتبت إلى الشهيد(نور الدين زنكي)  أعرِّفه الخبر وأنه لم يبق غير المسير ، وأجدِّدُ استئذانه في ذلك .  فأمرني بتسييرهم والحث على ذلك، فعبَرَتِ العساكر إلى الجانب الغربي.

     فبينما نحر نتجهز للحركة وإذا قد وصل نِجَاب(رسُلٌ على نُوْقٍ سريعة) من الشهيد(نور الدين زنكي)  يخبر بأن الروم والفرنج قد رحلوا عن حلب خائبين ، لم ينالوا منها غرضا؛ ويأمرني بترك استصحاب العساكر !..

      فلما خوطب السلطان في ذلك أصر على إنفاذ العساكر إلى الجهاد وقصْد بلاد الفرنج وأخذها؛ وكان قصده أن تطأ عساكره البلاد بهذه الحجة فيملكها. قال: فلم أزل أتوصَّل مع الوزير وأكابر الدولة حتى أعدْتُ العساكر إلى الجانب الشرقي وسِرتُ إلى الشهيد .اهـ .

      تنبيه مهم :

    كثير من العلماء يتروَّى وينتظر إذا حدَث جديد ، و لا يسرع فيتسامح في التجويز ، فإذا مرتْ فترة كافية ، واتضح الأمر وأنه ليس هنالك دليل مانع ، تتابع العلماء في الكلام على الإباحة ، أو السكوت الدال على ذلك ، وهذا ما حصل عندما ظهَر الميكرفون ثم عندما انتشرت أشرطة الكاسيت والفيديو ، ثم عندما تكاثرت القنوات ... كان يتحفَّظ في كل الأحوال في البداية كثير من العلماء، ثم مع مرور الأيام يتبيَّن النفع ، و يفتي العلماء في ضوء ذلك ، و يصبح ماكان متحَفَّظا عليه من قبل ملتحِقا بالوسائل اليومية المشروعة التي لا غبار عليها  .

     و إذا بقي لبعض العلماء وجهة نظر اجتهادية أخرى في منع الظهور على القنوات مثلا ، ومنع اقتنائها ، و منع المظاهرات ، و نحو ذلك ، فيظل لهم كامل الاحترام والتقدير ، لأنهم في كل الأحوال علماء ... لا يجوز الطعن فيهم بسبب الاجتهاد  ، أو السخرية منهم ، أو التندُّر عليهم ، أو رميهم بالجمود أو التشدُّد ، أو الغفلة ، أو جهل الواقع ، أو التخلف عن العصر ..

      ويمكن إجراء النقاش والحوار مع هؤلاء العلماء من العلماء أمثالهم ، وليس من العامة أو الرعاع مهما أوتوا من الثقافة والحذْلَقة والفصاحة  والقدرة على الكتابة والتعبير، و مهما حملوا من الشهادات ، لأنه يظل العالم بالشرع عالما و يظل الجاهل جاهلا !  والمسموح لهؤلاء هو الاستفسار والاستيضاح  بأدب واحترام والتزام .. تماما كما لو أثيرت قضية طبية ، أو قضية هندسية ، أو أي قضية فنية تخصُّصية أخرى ، فإنه لايتكلم فيها إلا أولو الاختصاص  ، ويصمُت الآخرون ، قال تعالى : ( و لو ردُّوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) النساء ، وقال تعـالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة ، وقال صلى الله عليه وسلم : (ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ) رواه الحاكم وغيره و إسناده حسن كماذكر الألباني . وبالله التوفيق.

 

 .................................................                                          

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©