حاجَةُ الأُمَّةِ إلى كَيَانٍ وَاحِد

مقال لمجلة الحميدية الصادرة باللغة العربية من تركيا العدد (1) جمادى الأولى-جمادى الآخرة/مارس 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 
   الحمدُ لِله ربِّ العالَمِين وصلَّى اللهُ وسَلَّمَ على نَبِيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحْبِهِ أجمَعِين .. أَمَّـا بعد :

    فَمَعَ إِشْراقَةِ المَجَلَّةِ الغَرَّاءِ (الحَمِيدِيَّة) في هذا البَلَدِ الأَصِيل مُذَكِّرَةً بِالسُّلطانِ الجليلِ عبدِ الحَمِيدِ الثاني رَحِمَهُ الله ، ومَنْهَجِهِ الإِسْلامِيِّ النَّبِيلِ في الحِفَاظِ علَى أُمَّةِ الإِسلامِ وعلَى تَمَاسُكِها وَأُخُوَّتِها .. يَطِيْبُ لِي في هذهِ المُناسَبةِ الكتابةُ عَن حاجَةِ الأُمَّةِ الدَّائِمَةِ المُتَجَدِّدَةِ إلَى التماسُكِ والأُخُوَّةِ والوَلاءِ علَى مَدَارِ الأَزْمان .

    لَقَدْ كانَتْ أُمَّةُ الإِسْلامِ طَوَالَ القُرُونِ الماضِيَةِ تَحْتَ مِظَلَّةٍ واحِدَةٍ ودَوْلَةٍ جامِعة ، وكانتْ هذهِ الدَّولةُ حِصْنًا مَنِيعًا يَصُدُّ الأَعْدَاءَ ويَدْفَعُ المُؤَامَرَاتِ عنِ الأُمَّةِ ويَحْفَظُ لِلأُمَّةِ مَكانَها تَحْتَ الشَّمْس .

    وقدِ اجْتَهَدَ الأَعْدَاءُ في زَعْزَعَةِ هذَا الحِصْنِ والإِصْرَارِ علَى انْهِيَارِهِ مُسْتَغِلِّينَ غفْلَةَ الكثيرِينَ مِن أَبْناءِ الأُمَّةِ وتَهَاوُنَهُم في الصُّمُودِ والمُواجَهَة .. وكانتْ آخِرُ دَولةٍ جامِعَةٍ لِلأُمَّةِ هِيَ الدَّولَةُ العُثْمانِيَّةُ المَجِيدَة التي حَفِظَ اللهُ بِها أُمَّةَ الإِسلامِ أَكْثَرَ مِن سِتَّةِ قُرُون .. وسَمِعْتُ أَحَدَ الدُّعاةِ الأَتْراكِ قبْلَ أَشْهُرٍ يقول : كانَ المْسلِمُ في عهْدِ السُّلطانِ عبد الحميدِ يَرْكَبُ القطارَ مِنْ بلْغَرادَ ويَمُرُّ بِصُوفيَةَ ثُمَّ بِإِسطنْبُولَ ثُمَّ بِقُونِيَةَ ثمَّ بِحَلَبَ ثُمَّ بِدِمَشْقَ ثُمَّ بالقُدْسِ ثُمَّ يَنْزِلُ بِمَدينَةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ عنْ جَوَازٍ أوْ تَأْشِيْرَة .

    وبَعْدَ غِيَابِ هذَا الحِصْنِ الحصينِ مُنْذُ نَحْوِ قَرْنٍ من الزَّمانِ خَلَا الجَوُّ لِأَعْدَاءِ الأُمَّةِ لِكَيْ يَتَقاسَمُوا أقالِيمَ دَولةِ الإِسلامِ الكُبْرَى بِاطْمِئْنان ، وتَمَّ تَنْفِيذُ اتِّفاقِ سايْكس بِيكُو ، فأَ صبَحَ المُسلمُ إذا خَرَجَ مِن بَلَدِهِ إلَى بَلَدٍ مُسْلِمٍ آخَرَ يُعْتَبَرُ أَجْنَبِيَّا ، في حِينِ إِنَّ أكثَرَ مِن مِلْيارِ إنسانٍ في دَولةِ الهندِ يَحْمِلُونَ جِنْسِيَّةً واحِدةً رغْمَ أنَّهم يَعْتَنِقُون أدْيَانًا مُتَعَدِّدة ، والوَضْعُ قَرِيْبٌ مِن ذلكَ في دَولَةِ الصِّين ، كما أَنَّ مِئَاتِ المَلايِينِ في الولاياتِ المُتَّحِدةِ يَحْمِلُونَ جِنْسيَّةً واحِدَة ، وهُنالِكَ مِئَاتُ الملايِينِ في أوروبَّةَ تحْتَ مِظَلَّةِ الاتِّحادِ الأُوروبِّي .

    لَقَدْ صارتْ الدُّوَلُ في أُمَّةِ الإِسلامِ اليَومَ قَريبًا مِن سِتِّينَ دَوْلة ، لِكُلِّ دَولَةٍ مِنها عَلَمُها وقِيَادَتُها وجِنْسِيَّتُها وحُدُودُها ونِظامُها !! وكُلُّ دَوْلَةٍ مِنها تقولُ عنْ نَفْسِها إِنَّها مُسْتَقِلَّة ! . ولكنَّها في الحقيقةِ لا تَسْلَمُ مِن مُؤَامَرَاتِ الأَعْدَاء والتَّدَخُّلاتِ في شُؤُونِها ، والسَّطْوِ علَى ثَرْوَتِها والقَبُولِ بالتَّبَعِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ والاقْتِصادِيَّةِ والعَسْكَرِيَّةِ لِغَيرِها ..

    أصْبَحَتِ الدُّوَلُ الكُبْرى تُمارِسُ أَنْوَاعَ التَّدَخُّلاتِ في الدُّوَلِ الَّتِي تَحْكُمُ المُسْلِمينَ ، وتَفْرِضُ علَيها الاتِّفاقاتِ والمُعَاهَدَاتِ في شَتَّى المَجالاتِ بِحَيثُ تَضْمَنُ ارْتِباطَ هذِهِ الدُّوَلِ بِها ثَقافَةً وفِكْرًا وتَعْلِيمًا وتَنْمِيَةً وأَمْنًا وغِذَاءً وتَصْدِيْرًا واسْتِيرَادًا وتَخْطِيطًا وتَنْفِيذًا ومُوَالاةً ومُعَادَاة ..

    ورغْمَ السَّيطَرَةِ المُحْكَمَةِ لِلدُّوَلِ الكُبْرَى في هذه المَجالاتِ وغَيرِها بَرَزَتْ في كثيرٍ مِن أقاليمِ المُسْلِمينَ حَرَكَاتٌ دَعْوِيَّةٌ تَثْقِيفِيَّةٌ إصْلاحِيَّة تَدْعُو إلَى العَودَةِ إِلَى نِظامِ الإِسلامِ وأُخُوَّةِ الإسلامِ والوَلاءِ لِلمُسلٍمينَ ، فَتَجَاوَبَتِ الشُّعُوبُ معَ هذِهِ الحَرَكَات ، وحاوَلتِ الشُّعُوبُ التَّرَابُطَ قَدْرَ الإِمْكانِ فِيمَا بَيْنَها ، وأنْ تَعُودَ إِلَى ما تسْتَطِيعُ العَوْدَةَ إِليهِ مِن دِينِها ، فَثَارَتْ ثَائِرَةُ الدُّوَلِ الكُبْرَى الكاسِبَةِ مِن تَمَزُّق المُسلِمين ومِن غِيَابِ دَولَةِ الإِسلامِ الجامِعَةِ لِلأُمَّة ، ولمْ تَكْتَفِ بِتَدَخُّلاتِها في كلِّ شؤُونِ المُسْلِمِينَ ، ولا بِرِعايَتِها للدَّولَةِ اليَهُودِيَّةِ الَّتِي أَقامَتْها في قَلْبِ أُمَّةِ الإِسلامِ وشَرَّدَتْ بِسَبَبِها شَعْبَ فِلَسْطِينَ ، ولا بِكوْنِ اليَهُودِ قَاعِدَةً لَها ومَرْكِزًا في المَنْطِقَة لِلْمُحافَظَةِ علَى تَباعُدِ الأُمَّةِ واخْتِلافاتِها ، وتَوْسِيعِ الاخْتِلَالاتِ فيهَا .

     والعَجِيبُ أنَّ هذِهِ الدُّوَلَ الكُبْرَى تَدْعَمُ دَعْوَى دَولَةِ اليَهُودِ مَسْؤُولِيَّتَها عنْ كُلِّ يَهُودِيٍّ في العَالَم واستِحقاقَهُ أَنْ يَسْتَوْطِنَ فِلَسْطِينَ ،و تَدْعَمُ حِصارَ ومُحارَبَةَ غَزَّةَ، وتَدْعمُ الإِمْعان في مُعاناةِ كُلِّ الفِلَسْطِينِيِّينَ، فِي حِينِ تَمْنَعُ  تَفْكِيرَ أَيِّ دَولَةٍ في بلادِ المُسْلِمِينَ في تَحَمُّلِ المَسْؤُوليَّةِ عنْ أيِّ فِلِسْطِيْنِيٍّ أوْ أيِّ مُسْلِمٍ كما تَفْعَلُ دولةُ اليهُودِ معَ اليهُود.

    لَمْ تَكْتَفِ الدُّوَلُ الكُبْرَى بِما فَعَلَتْهُ بالمُسْلِمِينَ  ولا بأَوضاعِ الأُمَّةِ المُثْخَنَةِ بالجِراحِ في أحْوالِ حَيَاتِها ، فَقَرَّرَتْ في هذِهِ المَرْحَلَةِ المَأْسَاوِيَّةِ التي نَعِيشُها اليَومَ المَزِيدَ مِن التَّمْزِيقَ لِأَبْرَزِ الدُّوَلِ في بلادِ المُسلِمِينَ ، وَ عَمِلَتْ مِن جَدِيدٍ على تَمْزِيقِ المُمَزَّقِ السَّابِقِ وتَقسِيمِ المُقَسَّمِ القدِيم ، مُبالَغَةً في مَنْعِ قِيامِ أَيِّ مَشْروعٍ يُريدُ جَمْعَ الأُمَّةِ مِن جَدِيدٍ تَحْتَ مِظَلَّةٍ واحِدةٍ أوْ دَولَةٍ جامِعة .

   كانَ المُسْلمونَ يصْرُخونَ مِن تَمَزُّقِهم السَّابِقِ ومِن تَقْتِيلِ وتَشْرِيدِ واعتِقالِ وتَعْذِيبِ إِخْوَانِهِم في فِلَسْطينَ ، فَإِذا بِهِم يُفَاجَأُونَ بأَنَّ أَبْرَزَ الدُّوَلِ في دِيَارِهِم قَدْ صارَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهَا فِلَسْطِيْنَ جَدِيدَةً ، بِنَشْرِ القَتْلِ والتّشْريدِ والتَّعذِيبِ في رُبُوعِها ، ومَنْعِ أَيِّ اسْتِقْرَارٍ فيها ، كما هو حاصِلٌ الآنَ في أفْغانِستانَ والعراقِ وسُورِيَّةَ و مِصْرَ واليَمَنِ ولِيبِيَةَ والصُّومالِ وغيرِها . وهُنالكَ دُوَلٌ أُخْرَى يَتِمُّ تَجْهِيزُ الخِطَطِ لها لِكيْ تَلْحَقَ بالدُّوَلِ المَذْكُورَةِ في الفَوضَى الخَلَّاقَةِ الَّتِي تَخْلُقُ مَزِيْدًا مِن فُرَصِ التَّآمُرِ لِمَزِيدٍ مِن الفَوضَى حتَّى لا تَقُومَ لِأُمَّةِ الإِسلامِ قائِمَة .   

    وهذهِ الفَوضَى وعَدَمُ الاسْتِقْرار لا تُوجَدُ إلَّا في دِيَارِ الإِسلامِ ، ومُعْظَمُ دُوَلِ العالَمِ بِمَا في ذلكَ الدُّوَلُ الكُبْرَى تَعِيشُ أَجْوَاءَ الاسْتِقْرَارِ، وتَنْعَمُ بالهدُوءِ ، لِأَنَّهَا مَرْهُوبَةُ الجَانِبِ، لا يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ علَى التَّدَخُّلِ في شُؤُونِها أَوِ الزَّعْمِ بِأَنَّ لَهُ الحقَّ في تَرْتِيْبِ أَحْوَالِها.

   والأُمَّة الإِسلاميةُ عندما كانتْ لَهَا دَولةٌ كُبْرَى على مَدَارِ التاريخِ لمْ تَكُنْ أَيُّ دَولَةٍ كُبْرَى في عَصْرِهَا تَطْمَعُ أَنْ تَتَدَخَّلَ في شُؤُونِ أُمَّةِ الإِسلام .. فَهَلْ يُمْكِنُ اليَومَ لِدَولَةٍ مِن هذهِ الدُّوَلِ في بُلْدَانِنَا أنْ تَصْمُدَ بِمُفْرَدِها في مُوَاجَهَةِ مُؤَامَراتِ الدُّوَلِ الكُبْرَى كَيْ تُعِيدَ الاستقرارَ والهُدُوءَ إٍلَى رُبُوعِها ؟! ويَكُونَ لَها مَشْرُوعُها الذي يَرْبِطُها بِعُمُومِ المُسْلِمينَ؟.. لا يوجَدُ في الأُفُقِ أَمَلٌ إِلَّا عندَ قِيامِ دولةِ الإسلامِ الجامِعة المانِعة بِإِذْنِ الله ..

كانتْ فِلَسْطينُ في الْمَأْساةِ واحِدَةً           تَبْكِي عُقُودًا مِن الْبَلْوَى وتُبْكِيْنَا

لَمَّا غَدَا القَولُ دُونَ الفِعْلِ مَنْهَجَنَا              جاءَتْ إلينَا الْبَلايَا كَيْ تُسَاوِيْنَا

سِتُّونَ عامًا مِن الإِهْمَالِ قَدْ صَنَعَتْ              سِتِّينَ قُطْرًا مَثِيْلًا مِن فِلَسْطِينَا

     وصَدَقَ اللهُ في وَصْفِ أَعْدَائِنا في قولِهِ سبحانهُ : (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) البقرة 217. وفي مَنْعِنَا مِن الانْخِداعِ بِهِم في قولِهِ سبحانهُ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) آل عمران 118.

   وصَدَقَ سبحانهُ في وَصْفِ العِلَاجِ بقولِه سبحانهُ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) التوبة 71. وقولِهِ سبحانهُ : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) آل عمران 103. وقولِهِ سبحانهُ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) آل عمران 105.

    وعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ . مُتَّفقٌ عليه . وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» مُتَّفَقٌ عليه . وبالله التوفيق .

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©