أدركتُ معظم الثلث الأخير من
القرن الهجري الماضي ، و أدركتُ فيه بقايا من
الابتلاء بأهل البِدع كالصوفية المُغْرَمَة
بتعظيم الأشخاص و القبور و المناسبات كالمولِد
ونحوه . وأدركتُ بقايا التمــذْهُبِ
المتعصِّب الذي يزعم امتداد الصلاحيّة دون
حدود لكثير من التعصُّبات المعلَّبة ، ويضيق
بالاجتهــادات المراعية للنصوص ولشروط
الاجتهاد ، ويزعم أنه ليس بالإمكان أبدع مما
كان ، ويُعَظِّم المتونَ و أصحابها على حساب
الكتاب والسنة ، و ربما كان الحضور الذهني
لبعض أئمة المذهب عند بعض الأتباع أعظـم من
الحضور الذهني عندهم للرسول صلى الله عليه و
سلم و كبار أصحابه .
وكذلك أدركتُ بقايا عنفوان دول
أحزاب المدِّ القومي العلماني الجاهل
المتعصِّب المتبجِّح الذي لا يطيق الدين و لا
علماءه و لا دعاته ، و عشتُ بعض فتَراتِ و
نَوْباتِ تشَنُّجِه التي راح ضحيَّتها أفذاذٌ
من العلماء و الدعاة و أتباعهم في مسرحياتٍ
إرهابيّة دموية . كما أدركتُ موجات التغريب
، ومشروعـات عملاء الاستعمار القدماء في
الارتباط بالغرب ونظرياته ومصطلحاته و فساده
وحيوانيته .
و أدركتُ الشيوعية الحمراء التي
تحقِد على الدين وحمَلَتِه ، وتسعى لاستئصاله
و استئصالهم ، وتحاول أن تَسْحقَ القِيَم و
الأخلاق والأعراف، وتُحَوِّل الناس إلى قطيعٍ
مُطيعٍ متمرِّدٍ على كل شيء وتريد أن تَمُدَّ
نفوذها في كل اتجاه . و أدركتُ فترةً من
الاستهزاء بالدين وبالمتديِّنين الصادقين
اتَّفَق على تعميمــها هؤلاء جميعاً بغير
تنسيقٍ واضح بينهم و لا اتفاقٍ ، و إنما
بِحُكْم محاربتهم جميعاً للدين الحق ، وكان
المتديِّنون حينها و المتديِّنات قِلَّةً و
غُرَباء .
وحين أخذ القرن الهجريُّ الماضي
في الوداع ، وانْبَلَجَتْ إشراقاتُ القرن
الهجريِّ الجديد ، و هبَّتْ رياح التجديد ،
تعاظمتْ دعوات علماء التجديد الإسلامي في سائر
مجالات الدين مثل مجال القــرآن و علومه و
القراءات ، و مجال الحديث و علومه و الروايات
، و مجال الفقه وأصول الفقه و الاجتهاد ، و
مجـال التوحيد و الدعوة و الأخلاق والتربية و
التزكية ، و مجال الأمر بالمعروف و النهي عن
المنكر و مقاومـة الفساد و الظلم وإصلاح
السياسة ، و مجال التصنيع و الإعداد والجهاد
والقتال في سبيل الله .
وبرز علماء التجديد كما نحسبهم
من أمثال الحُصَري والقارئ و سيد ســابق و
الألباني و الوادعي و ابن باز وابن عثيمين و
بكر أبي زيد وأبي الحسن الندوي و عبد الله
عزَّام و أحمد ياسين إلخ .... وغيرهم من
المجدِّدين فيما نحسب الذين لا زالوا أحياء
ولم نذكر أسماءهم .
وتزايد تلاميذ و أتباع المجددين
في أنحاء الأرض في كافة المجالات ، و
تعَمْلَقَتْ الجماعــات الإسلامية و كثُر طلاب
العلم الشرعي والعلماء و الدعاة وحفّاظ
القرآن وحفّاظ السنَّة ، وكثر المتديِّنون و
الملتزمون بالخلُق و السمْت الإسلامي في كل
مكان وانتشر الحجاب ، وقامت البنوك و الشركات
الإسلامية وخفَتَتْ البِدع والخرافات
والشِّركيات و زالتْ بعض المنكرات ، وانحسر
التعصُّب المذهبي ، وعادت المذاهب تُراثاً
فقهيّاً للأمة كلها و ليستْ جنسيّات ، وراجتْ
سوق الجهاد واسْتَيْقَنَ كثير من المسلمين أنه
سِرُّ العــزّة ، وتحقَّقتْ انتصارات منها
سقوط الاتحاد السوفيتي والشيوعية إلى الأبد ،
و صنع المسلمون القنبلة النووية في باكستان ،
وقامت كيانات جهادية متنامية في فلسطين و في
أفغانستان وغيرهما ، واقتربت أمــريكا من حافة
السقوط ....
و مرَّتْ فترة التجديد في نهاية القرن
الماضي وبداية القرن الحالي ، وهي شبيهةٌ في
مدتها بمدة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ،
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكَر في حديث
أبي هريرة
أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل
مائة سنة من يجدِّدُ لها دينها . رواه أبو
داود والحاكم و البيهقي وسكَت عنه الذهبي وقال
الألباني: صحيح . فالمدة على رأس مائة سنة من مدة بَعْثته عليه الصلاة و السلام ،
وهذا يجعل كل سَنَةٍ مِن مُدَّةِ بَعْثَتِه
صالحةً لِأَنْ تُحْسَبَ بِدايةُ المائة منها ،
بمعنى أن هذه المدة يتكرَّر مثلها في رأس كل
قرن ، والمدة تساوي ربع قرن تقريبا ، تتوزَّع
قبل نهـاية القـرن المنصـرِم و بعد بداية
القرن الجديد ، تماماً كما توزَّعتْ مدة بعثته
عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة و بعدها. و
الهجرة بداية التاريخ، و بداية المائة الأولى
.1
والآن و قد مضى من هذا القرن مايقرب من
ثلثه فقد انقضى موسم التجديد ، و بدأنا ندخل
في موسم الابتلاء بالأخلاط والشوائب و الدخَن
، فبدأ يعــود علْم الكلام و تعود الصـوفية و
البِدع و ينتشر الرفْض ، بل أخذتْ مخابرات
الأعداء توصِي بدعْم هذه الظواهر و التعاون
الاستراتيجي معهــا لمحاربة التديُّن الحق .1
وبدأت المذهبية تُطِلُّ برأسها بالعودة
إلى تعظيم المتون وأصحابها و ترويج أنه لا
عِلْم إلا عند هؤلاء ـ ومعلوم أنه لو كان
العلْم النموذَج في المذهبية كما يزعمون ،
لَجعَل الله القرون المفضَّلة الثلاثة قرون
التزام بالمذاهب المُقنَّنَة ـ . وبدأ
العملاء والتغريبيُّون الجُدُد والقوميون
يظهرون بأُطروحاتهم و مصطلحــاتهم و خداعهم
للمرأة من جديد ولكنْ بمسْحةٍ دينية ، و
تعايُشٍ مع المتديِّنين ، لأن آثار التجديد لا
زالت قـوية .. و بدأت الجماعات الإسلامية
تتفاوت و يتفاوت أفرادها في التمسُّك و الغيرة
و مجابهة الباطل ...إلخ .1
وبذلك يتَبَيَّنُ أنه ينتعش موسم التجديد و
ينتشر النور على رأس كل قرن ، و تُرافقه فترة
خمولٍ و بَيَاتٍ وتراجُعٍ للباطل ، ثم يضعف
التجديد بعد ذلك في معظم القـرن بالتدريج ،
ويحلُّ محله موسم آخر ينتشر فيه الظلام وتنتعش
فيها الهوامُّ و حيات وعقارب البِدع
والانحــرافات والاختلالات ، مع حفْــظ الله
للقدْر الذي لا بدّ منه من الدين ، على النحو
الذي يريده رب العالمين ، ويجتهـــد العلماء و
الدعـاة في المواجهة قدر ما يستطيعون ، إلى أن
يحين موسم التجديد من جـديد فـي آخـر القرن
نفسه و أول القـرن الجديد ، و هكذا دواليك
يبتلي الله الناس (وتلك الأيام نداولها بين
الناس ، و ليعلَم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم
شهداء)
آل عمران .1
فلا بد من معرفة سنَّة الله ، وإدراك هذه
الدورة المتكرّرة في كل قــرن ، حتى لا تحــدث
تبريرات و تقريظات وتجويزات و استسلامات
لفترات الضعف و الغيبوبة ، و لفترات التعايُش
مع الباطل في بعض الأحيان ، لأن أوقات الظلام
التي قد تتمادى في الظُّلْمة و يطول ليلها و
غيومها، لا بد أن تعقبها أوقات الفجر والإشراق
.. والقراءة الصـحيحة والحكم الدقيق و
المثَل السائر هو الذي يكون في فترة النور ،
وليس في فترة الظلام ، ومهما وُجِدتْ أنوارٌ
في الظلام ، فلا يمكن أن تكون في الشمول
والسعة والوضوح والصحة والانفتاح والانفساح
كمثل أنوار الصباح أو إشراقة النهار ...1
|