دورة التجديد

لصحيفة صوت الإيمان في 29 جماد ثاني1430هـ الموافق 23 يونيو2009م 

 

     أدركتُ معظم الثلث الأخير من القرن الهجري الماضي ،  و أدركتُ فيه بقايا من الابتلاء بأهل البِدع كالصوفية المُغْرَمَة بتعظيم الأشخاص و القبور و المناسبات كالمولِد ونحوه .   وأدركتُ بقايا التمــذْهُبِ المتعصِّب الذي يزعم امتداد الصلاحيّة دون حدود لكثير من التعصُّبات المعلَّبة ، ويضيق بالاجتهــادات المراعية للنصوص ولشروط الاجتهاد ، ويزعم أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان ، ويُعَظِّم المتونَ و أصحابها على حساب الكتاب والسنة ، و ربما كان الحضور الذهني لبعض أئمة المذهب عند بعض الأتباع أعظـم من الحضور الذهني عندهم للرسول صلى الله عليه و سلم و كبار أصحابه  .

     وكذلك أدركتُ بقايا عنفوان دول أحزاب المدِّ القومي العلماني الجاهل المتعصِّب المتبجِّح الذي لا يطيق الدين و لا علماءه و لا دعاته ، و عشتُ بعض فتَراتِ و نَوْباتِ تشَنُّجِه التي راح ضحيَّتها أفذاذٌ من العلماء و الدعاة و أتباعهم في مسرحياتٍ إرهابيّة دموية .   كما أدركتُ موجات التغريب ، ومشروعـات عملاء الاستعمار القدماء في الارتباط بالغرب ونظرياته ومصطلحاته و فساده وحيوانيته .

      و أدركتُ الشيوعية الحمراء التي تحقِد على الدين وحمَلَتِه ، وتسعى لاستئصاله و استئصالهم ، وتحاول أن تَسْحقَ القِيَم و الأخلاق والأعراف، وتُحَوِّل الناس إلى قطيعٍ مُطيعٍ متمرِّدٍ على كل شيء  وتريد أن تَمُدَّ نفوذها في كل اتجاه .   و أدركتُ  فترةً  من الاستهزاء بالدين وبالمتديِّنين الصادقين اتَّفَق على تعميمــها هؤلاء جميعاً بغير تنسيقٍ واضح بينهم و لا اتفاقٍ ، و إنما بِحُكْم محاربتهم جميعاً للدين الحق ، وكان المتديِّنون حينها و المتديِّنات قِلَّةً و غُرَباء .

     وحين أخذ القرن الهجريُّ الماضي في الوداع ، وانْبَلَجَتْ إشراقاتُ القرن الهجريِّ الجديد ، و هبَّتْ رياح التجديد ، تعاظمتْ دعوات علماء التجديد الإسلامي في سائر مجالات الدين مثل مجال القــرآن و علومه و القراءات ، و مجال الحديث و علومه و الروايات ، و مجال الفقه  وأصول الفقه  و الاجتهاد ، و مجـال التوحيد و الدعوة و الأخلاق والتربية و التزكية ، و مجال الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و مقاومـة الفساد و الظلم  وإصلاح السياسة ، و مجال التصنيع و الإعداد والجهاد والقتال في سبيل الله .

      وبرز علماء التجديد كما نحسبهم من أمثال الحُصَري والقارئ و سيد ســابق و الألباني و الوادعي و ابن باز وابن عثيمين و بكر أبي زيد وأبي الحسن الندوي و عبد الله عزَّام و أحمد ياسين إلخ ....  وغيرهم من المجدِّدين فيما نحسب الذين لا زالوا أحياء ولم نذكر أسماءهم  .

      وتزايد تلاميذ و أتباع المجددين في أنحاء الأرض في كافة المجالات ، و تعَمْلَقَتْ الجماعــات الإسلامية و كثُر طلاب العلم الشرعي والعلماء و الدعاة وحفّاظ القرآن  وحفّاظ السنَّة ، وكثر المتديِّنون و الملتزمون بالخلُق و السمْت الإسلامي في كل مكان وانتشر الحجاب ، وقامت البنوك و الشركات الإسلامية وخفَتَتْ البِدع والخرافات والشِّركيات و زالتْ بعض المنكرات ، وانحسر التعصُّب المذهبي ، وعادت المذاهب تُراثاً فقهيّاً للأمة كلها و ليستْ جنسيّات ،  وراجتْ سوق الجهاد واسْتَيْقَنَ كثير من المسلمين أنه سِرُّ العــزّة ، وتحقَّقتْ انتصارات منها سقوط الاتحاد السوفيتي والشيوعية إلى الأبد ، و صنع المسلمون القنبلة النووية في باكستان  ، وقامت كيانات جهادية متنامية في فلسطين و في أفغانستان وغيرهما ، واقتربت أمــريكا من حافة السقوط ....

     و مرَّتْ فترة التجديد في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي ،  وهي شبيهةٌ في مدتها بمدة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكَر في حديث أبي هريرة أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّدُ لها دينها . رواه أبو داود والحاكم و البيهقي وسكَت عنه الذهبي وقال الألباني: صحيح .  فالمدة على رأس مائة سنة من مدة بَعْثته عليه الصلاة و السلام ، وهذا يجعل كل سَنَةٍ  مِن مُدَّةِ بَعْثَتِه صالحةً لِأَنْ تُحْسَبَ بِدايةُ المائة منها ، بمعنى أن هذه المدة يتكرَّر مثلها في رأس كل قرن ، والمدة تساوي ربع قرن تقريبا ، تتوزَّع قبل نهـاية القـرن المنصـرِم و بعد بداية القرن الجديد ، تماماً كما توزَّعتْ مدة بعثته عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة و بعدها. و الهجرة بداية التاريخ، و بداية المائة الأولى .1

     والآن و قد مضى من هذا القرن مايقرب من ثلثه فقد انقضى موسم التجديد ، و بدأنا ندخل في موسم الابتلاء بالأخلاط والشوائب و الدخَن ، فبدأ يعــود  علْم الكلام و تعود الصـوفية و البِدع و ينتشر الرفْض ،  بل أخذتْ مخابرات الأعداء توصِي بدعْم هذه الظواهر و التعاون الاستراتيجي معهــا لمحاربة التديُّن الحق .1

     وبدأت المذهبية تُطِلُّ برأسها بالعودة إلى تعظيم المتون وأصحابها و ترويج أنه لا عِلْم إلا عند هؤلاء ـ ومعلوم أنه لو كان العلْم النموذَج في المذهبية كما يزعمون ، لَجعَل الله القرون المفضَّلة الثلاثة قرون التزام بالمذاهب المُقنَّنَة ـ  .  وبدأ العملاء والتغريبيُّون الجُدُد والقوميون يظهرون بأُطروحاتهم و مصطلحــاتهم و خداعهم للمرأة من جديد ولكنْ بمسْحةٍ دينية ، و تعايُشٍ مع المتديِّنين ، لأن آثار التجديد لا زالت قـوية .. و بدأت الجماعات الإسلامية تتفاوت و يتفاوت أفرادها في التمسُّك و الغيرة و مجابهة الباطل ...إلخ .1

   وبذلك يتَبَيَّنُ أنه ينتعش موسم التجديد و ينتشر النور على رأس كل قرن ، و تُرافقه فترة خمولٍ و بَيَاتٍ وتراجُعٍ للباطل ، ثم يضعف التجديد بعد ذلك في معظم القـرن بالتدريج ، ويحلُّ محله موسم آخر ينتشر فيه الظلام وتنتعش فيها الهوامُّ و حيات وعقارب البِدع والانحــرافات والاختلالات ، مع حفْــظ الله للقدْر الذي لا بدّ منه  من الدين ، على النحو الذي يريده رب العالمين ، ويجتهـــد العلماء و الدعـاة في المواجهة قدر ما يستطيعون ، إلى أن يحين موسم التجديد من جـديد فـي آخـر القرن نفسه و أول القـرن الجديد ، و هكذا دواليك يبتلي الله الناس (وتلك الأيام نداولها بين الناس ، و ليعلَم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء)        آل عمران .1

     فلا بد من معرفة سنَّة الله ، وإدراك هذه الدورة المتكرّرة في كل قــرن ، حتى لا تحــدث تبريرات و تقريظات وتجويزات و استسلامات لفترات الضعف و الغيبوبة ، و لفترات التعايُش مع الباطل في بعض الأحيان ، لأن أوقات الظلام التي قد تتمادى في الظُّلْمة و يطول ليلها و غيومها، لا بد أن تعقبها أوقات الفجر والإشراق ..   والقراءة الصـحيحة والحكم الدقيق و المثَل السائر هو الذي يكون في فترة النور ، وليس في فترة الظلام ، ومهما وُجِدتْ أنوارٌ في الظلام ، فلا يمكن أن تكون في الشمول والسعة والوضوح والصحة والانفتاح والانفساح كمثل أنوار الصباح أو إشراقة النهار ...1

   

 .................................................                                   

        Designed  by "ALQUPATY"

 جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ محمد الصادق مغلس المراني ©